الوجه الآخر لـ “أمريكا أولا” .. تحولات سياسات ترامب تجاه إيران

تحليل: الباحث السياسي/ محمد صابر … أعلنت الإدارة الأمريكية برئاسة “دونالد ترامب” أنها بصدد تقييم خيار الانخراط العسكري في الصراع الإيراني – الإسرائيلي، وذلك بعد تنفيذ تل أبيب لضربة استباقية وُصفت بـ “قوة الأسد” استهدفت من خلالها تدمير منشآت حيوية في طهران، وما تبعها من رد صاروخي إيراني مُكثف على إسرائيل. وقد أدى كل ذلك لتصعيد سياسي وإعلامي في المنطقة، حيث كثفت طهران التحذيرات المتتالية من أي ضربة جديدة، في ظل استمرار محاولة واشنطن إظهار انفصالها المعلن عن العمليات الدائرة بالمنطقة. وعلى الرغم من ذلك، قامت بتنفيذ ضربة أمريكية خاطفة استهدفت منشآت نووية إيرانية في فوردو وأصفهان ونطنز.
تضع التطورات الأخيرة واشنطن أمام خيار مركب بين تعزيز تدخلها لحماية حلفائها وردع طهران، أو الانكفاء في إطار النهج الدبلوماسي المشروط الذي يتناسب مع أولوياتها الداخلية وتراجع دعم الرأي العام للحروب. فتشير استطلاعات الرأي الأمريكية ولا سيما مسح “مجلس شيكاغو للعلاقات العالمية” إلى رفض أكثر من 60% من الأمريكيين التدخل العسكري المباشر في الشرق الأوسط، مما يضغط على إدارة “ترامب” باتجاه تجنب التصعيد المفتوح. لكن، يوافق نحو نصف الجمهور على دعم دبلوماسي وأمني محدود، بما ينسجم مع خيار توجيه ضربة جزئية مدروسة.
تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تقييم التطورات الأخيرة للمواجهة الإيرانية-الإسرائيلية، وتحليل الدور الأمريكي المتأرجح بين التورط والحذر، مع دراسة السياسات الأمريكية تجاه الدعم الخارجي وتوجيهه وفق عقيدة “أمريكا أولًا”، في ضوء الأولويات والضغوط الداخلية بواشنطن وتأثيرها على خيارات الأخيرة الدولية، بما يشمل التحولات في التحالفات الخارجية.
التصعيد مع طهران:
بدأ التصعيد في 13 يونيو الجاري، مع تنفيذ إسرائيل ضربة استباقية على طهران استهدفت من خلالها منشآت عسكرية ونووية، ما أدى إلى مقتل مئات الإيرانيين، من بينهم عناصر للحرس الثوري وخبراء نوويين. وجاء الرد الإيراني على مراحل بهجمات صاروخية كثيفة، بلغ مجموعها أكثر من 400 صاروخًا ومئات المسيرات، استهدفت مدنًا ومواقع عسكرية في الداخل الإسرائيلي.
ومع تفاقم حدة الاشتباكات، جاء التدخل الأمريكي في المشهد فجر يوم 22 يونيو عبر ضربة عسكرية نوعية استهدفت البنية النووية الإيرانية، مستخدمة خلالها 6 قاذفات “B-2” لإسقاط قنابل خارقة للتحصينات، وصواريخ كروز من طراز “TLAM”، في عملية وصفها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بأنها “ناجحة تكتيكيًا”، مؤكدًا أنه سيحل السلام بالمنطقة، على الرغم من تصريحات وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” بأن وقت الدبلوماسية قد انتهى، وأن “الولايات المتحدة قد تجاوزت خطًا أحمر كبيرًا للغاية”. كما أعلن الحرس الثوري إطلاق وابلًا من 40 صاروخًا على إسرائيل، بما في ذلك صاروخ “خرمشهر-4” القادر على حمل رؤوس حربية متعددة.
ويبدو أن واشنطن تسعى إلى ترك الباب مفتوحًا أمام خيار التراجع أو التصعيد حسب التطورات، خاصًة مع عدم إعلانها نيتها في خوض حرب شاملة، واكتفائها بتوجيه رسائل ردع محدودة، ما يمكن تفسيره أنه يجمع بين رسائل الردع وإدارة التصعيد. فقد ضمن ذلك الموقف موقع القوة أمام الحلفاء والخصوم معًا، ومن جهة أخرى، منح ذلك هامش المناورة بما يجنب الولايات المتحدة التورط الميداني الكامل. لكن، على الرغم من ذلك يعكس التردد الأمريكي واقعًا معقدًا داخل الإدارة الأمريكية، فبينما يدعو بعض المستشارين المحافظين للتدخل الموسع، يفضل فريق “ترامب” تقليص المخاطر والتركيز على الداخل.
الوجه الآخر لـ “أمريكا أولًا”:
منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” قام بمواصلة تطبيق رؤية “أمريكا أولًا” كإطار شامل في إطار إعادة صياغة الدعم الخارجي الأمريكي، ليس فقط من منطلق اقتصادي، بل باعتبار هذه السياسة أداة تكتيكية في إدارة الصراعات الدولية، وعلى رأسها الأزمة مع إيران. فخلال يونيو الجاري، قام “ترامب” بتعليق المساعدات الإنمائية الخارجية لمدة 90 يومًا بهدف مراجعتها وفق معيار “المنفعة المتبادلة”، بعد تأكيده أن كل دولار يُنفق يجب أن يحقق مردودًا أمنيًا واقتصاديًا مباشرًا.
لم يكن هذا التوجه معزولًا عن التصعيد مع إيران، فبينما تم استثناء إسرائيل من تجميد المساعدات باعتبارها شريكًا استراتيجيًا مباشرًا في مواجهة النفوذ الإيراني، قامت بوضع برامج الدعم للأردن والعراق ولبنان تحت مراجعة أمنية صارمة، وذلك في ضوء الحسابات الأمريكية لاحتمالات استخدام هذه الدول كمسرح للردود الإيرانية. ومن جهة أخرى، ربطت واشنطن استمرار تقديم المساعدات بمستوى التزام هذه الدول بصفقات التسليح الأمريكية، ودورها في مواجهة ما تسميه واشنطن بـ “الخطر الإيراني والتهديد الإقليمي”.
ويتضح جليًا من خلال تحليل هذا السلوك الأمريكي الكشف عن وجه جديد لمبدأ “أمريكا أولًا”، فهو لا يعني الانكفاء الكامل، بل أنه شمل إعادة تدوير لأدوات الضغط السياسية والاقتصادية والعسكرية، لاستغلالها في ملفات محددة بعينها، وعلى رأسها احتواء طهران. ولذلك، حين علقت الولايات المتحدة المساعدات عن بعض الدول، لجأت إلى تعزيز فرضها العقوبات الاقتصادية والرسوم الجمركية والتلويح بالعقوبات الثانوية، بما يزيد الضغوط على حلفاء إيران. بالتالي، شكلت أدوات الاقتصاد بديلًا عن الدبلوماسية الكلاسيكية، تستخدمها واسنطن في فرض الاصطفاف دون تكاليف عسكرية مباشرة.
ويشكل هذا الوجه الآخر لسياسة “أمريكا أولًا” مقدمة استراتيجية لخلق شبكة دعم مرنة قابلة للحشد في حال تفاقم التطورات في مواجهة إيران وتحولها لمواجهة أوسع. فبدلًا من نشر قوات أو تمويل عمليات ميدانية طويلة الأمد، يسعى “ترامب” لتقنين الشراكات على أسس مشروطة بما يحول الحلفاء إلى خطوط إمداد واحتواء مباشرة ضد إيران، وإلا تُستثنى من الدعم.
الضغوط الداخلية:
يمثل الداخل الأمريكي محددًا رئيسًا للسياسة الخارجية، فالإرهاق الشعبي من الحروب الخارجية وبوجه خاص مع غياب تهديد مباشر لواشنطن، يدفع بقوة إزاء الحذر الاستراتيجي في التدخلات الأمريكية بالحروب والأزمات المتفاقمة. وتظهر استطلاعات الرأي الأمريكية تراجع دعم أي مغامرة عسكرية جديدة لواشنطن، وقد انعكس ذلك على أداء البيت الأبيض وإجرائه لموازنات مستمرة وشديدة الدقة والحرص بين واجب الردع ومطلب الانكفاء.
لكن، مع تنفيذ واشنطن لضربة جوية على المنشآت النووية الإيرانية، لم يعد القرار الأمريكي مقتصرًا على اعتبار الردع العسكري فقط، بل أنه أصبح رهن معادلات داخلية مركبة، بين رأي عام أمريكي يعترض على مغامرات مكلفة، وضغوط انتخابية وقوى حزبية متباينة. وبالتالي، لقد أدى هذا التضارب إلى توليد بعض العوامل المحورية لتوضيح التردد المتزايد لصانع القرار الأمريكي، يمكن التطرق إليها في ضوء ما يلي:
(1) المخاطرة بقرار التصعيد: كشفت الضربة الأمريكية الدقيقة على المنشآت النووية الإيرانية عن تراجع إدارة “ترامب” عن الاكتفاء بالتلويح بالقوة، واللجوء إلى توجيه رسالة عسكرية مباشرة، لكن دون الانخراط في حرب شاملة. وهذا التحول من الحذر إلى الفعل قد لا يشير بالضرورة إلى رغبة في التصعيد، بل يمكن اعتباره أنه محاولة لتحقيق معادلة دقيقة تشمل العمل على فرض كلفة على طهران دون دفع المنطقة لحرب مفتوحة. فهذه العملية الأمريكية الخاطفة رغم محدوديتها، لكنها تحمل رسالة مزدوجة، بين تحذير طهران ومنح واشنطن هامش سياسي قوي للتفاوض من موقع قوة.
(2)انقسام الرأي العام الأمريكي: أثارت هذه الضربة الجوية جدلًا واسعًا في الداخل الأمريكي، خاصًة بعد وعود “ترامب” بالالتزام بعدم الدخول في حروب جديدة. لكن الإدارة الأمريكية تحاول تقديم الضربة كـ “تحرك محسوب” لا يعارض مع مبدأ الانكفاء وإدراجها تحت بند حماية المصالح العليا ومنع إيران من تجاوز العتبة النووية، فأعلنت واشنطن انتهاء العملية وأنها لا تستهدف النظام الإيراني. ولتضارب هذا التبرير قد يتحول الرفض الشعبي إلى ضغط انتخابي يحرج البيت الأبيض، ويضعه أمام معادلة صعبة بين الدفاع عن إسرائيل وردع إيران دون خسارة التأييد الداخلي، ما قد يؤدي للتأثير في نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة في إبريل 2026.
(3) انقسام حزبي حول التصعيد: تؤدي الضربة الأمريكية في إيران إلى تعقيد الانقسامات داخل الكونغرس الأمريكي، حيث يتزايد التنافس بين الحزبين الرئيسيين في ظل مطالبة الديمقراطيين بالتهدئة، في حين يرى المحافظون أن ردع طهران أمرًا في غاية الأهمية. وقد يصبح التصويت على ميزانيات الدفاع والدعم لإسرائيل ساحة مواجهة سياسية، بما يعكس مواقف متباينة إزاء الاستراتيجية القادمة.
(4) إعادة اختبار التحالفات: كشفت الضربة الأمريكية عن هشاشة شبكة التحالفات التقليدية، مع إبداء بعض الدول العربية وبالأخص الخليجية قلقًا من أن يؤدي التصعيد إلى زعزعة الاستقرار واستدراجها لصراع لا ترغب فيه. وبذلك، قد يتحول التحالف الأمريكي من شبكة موحدة إلى طيف متباين بين مؤيد للمواجهة ومطالب بالتوازن. وبالتالي هناك تحدي كبير أمام الإدارة الأمريكية في اختبار التحالفات.
(5) حسابات الردع والرد: يبقى الرد الإيراني هو العامل الأقوى في تحديد جدوى هذه الضربة الأمريكية، حيث قد تدفع العملية التي نفذتها واشنطن إيران إلى تسريع برنامجها النووي والرد عبر مناطق نفوذها بدلًا من النجاح في تعديل سلوكها. فلا يبدو أن الضربة وحدها كفيلة بإعادة طهران لطاولة التفاوض دون ضمانات، وإنما قد يتطلب الأمر مسارًا مزدوجًا للضغط العسكري والاستخباراتي من جهة، وتقديم قنوات تفاوض دولية مدعومة من حلفاء وشركاء من جهة أخرى.
بناءً على ما سبق، لا يبدو أن الولايات المتحدة ترغب في الانزلاق بحرب شاملة، بل أنها تتجه نحو الردع المحسوب بما يبقي الصراع تحت السيطرة، حيث تفضل واشنطن الرسائل بدلًا من خوض المعارك، لمحاولة إرغام إيران على التراجع دون تفاقم الأزمة وتوريط المصالح الأمريكية. وبالتالي، تضع الولايات المتحدة كل رهانها على المزج بين أدوات القوة والضغط السياسي، في ضوء محاولتها لصياغة توازن جديد بما يسمح بإعادة التموضع في الشرق الأوسط دون الاضطرار للاندفاع نحو هاوية المواجهة المباشرة.
وختامًا، فإن الضربة الأمريكية على المنشآت الإيرانية النووية، ورد إيران المحتمل ليسا صفقة عسكرية وحسب، بل إنهما جزء أساسي لا يتجزأ من توازن بين قوة الردع والبحث عن وسائل ضغط غير تقليدية. فمع غضب الرأي العام الأمريكي وقلق الشركات، يصبح موقف إدارة “ترامب” الرامي إلى حرب محدودة بدبلوماسية مشروطة أكثر عرضة للانتقاد ويضعها أمام معضلة مستقبلية رئيسة بشأن قرار استمرار الردع الجزئي، أو الانتقال إلى ترتيب استراتيجية سلام أوسع.