الأوجلانية والتماهي الابستمولوجي

تحليل: دكتور/ حسني أحمد مصطفى .. في سياقات المتاهة الذهنية التي يعاني من تشتتاتها مجتمع الحداثة، لم يستطع الانسان فيها التعرف على بنيته الذهنية وطبيعتها، ولم يتوصل إلى تعريف صحيح وعميق للعقل البشري، والذي به يحقق قدرته على الاختيار الحر (الحرية المجتمعية)، ولتجاوز المتاهة هذه يجب ادِّخار المعرفة – العلم – الأكثر صحة، وذلك فيما حدده أوجلان بأنه شرطاً رئيسياً، حيث يرى أوجلان أن: ” عمَلَنا المنهجي بأسلوب راسخ سيُزيد من فرصتنا بأن نَكُون مجتمعاً حراً، وفرداً حراً، عن طريق ادِّخار المعرفة الأكثر صحة، حينها يمكن لنظامنا في الأسلوب والمعرفة أنْ يُثمِر عن أجوبة مثلى ورشيدة بمفاهيم صحيحة “.
ولتحقيق المعرفة – العلم – ثمة شروط ثلاثة يجب توافرها، فهي – المعرفة – ليست رأياً أو ظناً، ولكن الاعتقاد شرط ضروري لها؛ وأيضاً الاعتقاد ليس كافياً، لأن المرء قد يتمسك حيناً من الوقت باعتقادات كاذبة لا تمثل معرفة، ومن ثم يأتي الشرط الثاني ليقرر أن المعرفة اعتقاد صادق، ومع ذلك فالصدق أيضاً شرط ضروري للمعرفة وليس كافياً، لأن بعض الاعتقادات الصادقة يؤيدها الحظ ولا تؤيدها الادلة أو قدر العارف، ومن ثم يأتي الشرط الثالث وهو التسويغ الذي يعني امتلاك القدرة أو الاسباب الجيدة التي تسوّغ الاعتقاد وتجعله مقبولاً، وهذه الشروط الثلاثة ضرورية على انفراد وكفاية بالاشتراك معاً، وعندما تشترك معاً نحصل على التحليل الثلاثي أو التعريف المعياري القائل إن المعرفة اعتقاد صادق مسوّغ.
وعلى وجه التقريب؛ المعرفة علاقة إدراكية تقوم بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، ولا تقوم هذه العلاقة على الاحساس أو الانفعال فحسب، وإنما لا بد من أن تفكر الذات في الموضوع، وعندما تفكر الذات في موضوع، فهي إما أن تصدق به (وهذا هو الاعتقاد)، أو تنكره (وهذا هو رفض الاعتقاد)، أو تتوقف عن الحكم (وهذا هو الامساك عن الاعتقاد)، وعلى هذا النحو يكون الاعتقاد تفكيراً مع تصديق في قضية معينة.
وما بين علاقة البنية الذهنية والموضوع، وتحقيق الهدف من العلوم والمعارف لصالح الانسان وحياة المجتمع الرشيدة؛ مرهون تحقيق ذلك بالمعرفة المُثلى والعميقة لمفهوم العقل الانساني، وفي هذا يشير أوجلان: ” أن اقتطاف نتائج مثمرة عندما نتصور نظامنا في الأسلوب وتحصيل المعرفة، سيكون محض صدفة؛ ما لم نتعرف جيداً على بنيتنا الذهنية وطبيعتها، في حين؛ يمكن لنظامنا في الأسلوب والمعرفة أنْ يُثمِر عن أجوبة مُثلى ورشيدة بمفاهيم صحيحة، عندما نتوصل إلى التعريف الصحيح والعميق للعقل، ونحقق قدرته على الاختيار الحر – الحرية المجتمعية “.
فالحياة الحرة والرشيدة – الحرية المجتمعية – يحكمها الاطار القيمي، أي أن الاختيار الانساني الحر تنقسم قيمه العليا الى ثلاث: الحق، الخير، الجمال، وتحت قيمة الحق تندرج العلوم كلها، وتحت قيمة الخير يندرج السلوك كله، وتحت قيمة الجمال تندرج الفنون كلها، فقيمة الحق تختص بالجانب الادراكي من الإنسان، وقيمة الخير تختص بالجانب النزوعي منه، وقيمة الجمال تختص بالجانب الوجداني، ومن الادراك والوجدان والنزوع يتألف الوعي أو الشعور، والوعي هو لب الانسان وصميمه.
ولكن ثمة وقفة هنا أمام تقرير الحق والأحقية، والخير والخيرية، والجمال والمعيارية الجمالية، ومن أي منطلق نستطع باعتقاد صادق له مسوغاته؛ أن يُتفق على ماهية القيم الثلاثة، الحق، الخير، الجمال، ولتحقيق ذلك يجب ان تتوافر المعرفة وليس الاعتقاد في الظن والرأي، وكذلك ليس فقط توافر الصدق دون مسوغاته لتقرير ماهية هذه القيم.
ويشير أوجلان الى الحقيقة (الحق) كمعيار، وعلاقتها بكل من عقل الانسان الفرد والنظام الكوني الاشمل في تحقيق الاختيار الانساني الحر – الحرية المجتمعية – أن: ” النظام الكوني يكمن خلف العلاقة بين الحقيقة والعدالة، من هنا؛ يمكن القول أنّ العقل العادل هو القادر غالباً على استخدام حقه في الاختيار الحر بموجب النظام الكوني، لذا؛ فتاريخ الحرية (التاريخ المجتمعي) الذي يُعَد أعظم قوة تربوية، يقوم بتأهيل وإعداد ذهنيتنا لتتمكن من الاختيار السليم “.
– الابستمولوجيا وإقرار المعايير:
تُعد الابستمولوجيا من الموضوعات الفلسفية الاكثر حيوية والاشد ارتباطاً بالعلم وتشابكاً مع نسيجه، وانها تمثل المشهد الفلسفي الذي يعكس التبدلات والتطورات العلمية في البناء المعرفي، وفوق كل هذا؛ تُعد المقياس الذي يكشف انتماء البناء الفلسفي الى روح العصر ومستجداته، أو يعلن عن إدراجه في خانات التاريخ الثقافي والمعرفي، بذلك فالابستمولوجيا ليست فقط بناء النظرية في المعرفة، إن مهمة الابستمولوجيا متابعة اثر المعارف العلمية في بنية الفكر أيضاً.
– مفهوم الابستمولوجيا Epistemology:
الابستمولوجيا لفظ مركب من لفظين : أحدهما Episteme وهو العلم، والآخر logos وهو النظرية أو الدراسة، فالابستمولوجيا إذن تعني نظرية العلوم، بمعنى دراسة مبادئ العلوم وفرضياتها ونتائجها دراسة انتقادية توصل الى إبراز أصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية، أي الدراسة النقدية لمبادئ العلوم المختلفة وفروضها ونتائجها، مستهدفة تحديد اصلها المنطقي وقيمتها الموضوعية، وبوجه عام هي أحد فروع الفلسفة الذي يبحث في أصل المعرفة ومناهجها وصحتها، أي الدرس النقدي لمبادئ مختلف العلوم وفرضياتها ونتائجها الرامي الى تحديد أصلها المنطقي وقيمتها ومداها الموضوعي.
وهناك فرق ما بين الابستمولوجياوالميثودولوجيا ” علم المناهج “، فالمنهج او المنهاج في اللغة هو الطريق الواضح، وجميع الكتب العربية التي سميت بهذا الاسم تشير الى أن معنى المنهج او المنهاج عند مؤلفيها هو الطريق الواضح، والسلوك البين، السبيل المستقيم، أما المنهج العلمي هو الطريقة العلمية في البحث، التي تقوم على الملاحظة، ووضع الفرضيات واختبارها والتوصل الى النتائج وتعميمها – عند الامكان، وتُعد كلمة مناهج البحث Methodologies فرع من المنطق ينصب على دراسة المنهج بوجه عام، وعلى دراسة المناهج الخاصة للعلوم المختلفة.
فالعلاقة اذن بين الابستمولوجيا ” نظرية العلوم ” والميثودولوجيا ” علم المناهج ” تتمثل في كون الاخير يقدم الدراسة الوصفية المستخدمة في تحصيل المعارف العلمية، ثم تتعدى الابستمولوجيا ذلك الى الدراسة النقدية الرامية لاستخلاص المبادئ التي ينطوي عليها التفكير العلمي، حيث يمكن اختزال جوهر الدرس الابستمولوجي في كونه تنبيهاً الى ضرورة مساءلة المعرفة من حيث شروط ادوات انتاجها، أي الدراسة النقدية لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها بغرض تحديد اصلها الفلسفي والمنطقي وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية من خلال المرحلة الراهنة لتطور الفكر العلمي والفلسفي.
وبالتوقف من منظور ابستمولوجي يُتساءل من خلاله في مضامين المعرفة الحداثية الرأسمالية، في سياقات محاضنها الفكرية، ومبادئها، ومناهجها، وشروط ادوات انتاجها، وفروضها، ونتائجها وقيمة حصيلتها الموضوعية، وماهية الحياة المتشكلة على ضوئها، في هذه المرحلة التي تُجسد العولمة حيزها الكوني، وكذلك استشراف مآلات بُنية القضايا الانسانية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، في صميم ذلك جعلت الفلسفة الاوجلانية قضيتها الرئيسية إعادة النظر الى ما قُدِم تحت مسمى الحقائق والمسلمات والمعرفة، بما ضَمَنَته بذلك البحث في حقيقة العلم ومفاهيمه، والحاضنة الفلسفية الخاضع لها في سياق الفلسفات الرأسمالية، والذي على إثره يتم التحكم في المخزون المفاهيمي للعلوم عامة والعلوم الاجتماعية خاصة، وكذلك أولت الاوجلانية أهمية البحث في معرفة كيفية اشتقاق المفاهيم وتجريدها من الواقع وبنائها، والالمام بمسارات البحوث وطرائقها، كل ذلك كفيل بتوجيه الباحث فيها الى المراحل التي يكون التكامل المنهجي او القطيعة المنهجية ضرورياً، مما يجعل المخرجات الفكرية في عصر الحداثة في كِفَة ميزان الابستمولوجيا.
في الحقيقة هذا ما راهن عليه الفيلسوف عبد الله اوجلان فيما رصدة من اجترار التاريخ الانساني برؤية شمولية تجمع بين طياتها التاريخ والاجتماع والفلسفة والاديان والانثربولوجيا والجغرافيا والفنون والعمارة والجيوبوليتيكا والاقتصاد، في مؤلفه ” مانيفستو الحضارة المدنية “، وذلك في سياق ما اطلق عليه ” نسق الحقيقة ” وبدوره – السياق الأوجلاني – اضحى عاملاً فاعلاً في توجيه ثورة ذهنية عصرية تتماهى في نظرية المعرفة ” الابستمولوجيا “، موجهة تجاه هذه المخرجات، تبحث في طبيعة المعرفة، وإمكانها، ومصادرها، وانواعها، وحدودها، وقيمتها، والسبب الرئيسي في ذلك تراكم الازمات المعرفية والمفاهيمية، ومن ثم تبعاتها التطبيقية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي خلال القرن التاسع عشر والالفية.
رغماً عن ذلك؛ يُعد القرن التاسع عشر هو القرن الذي شهد التأسيس الفعلي للابستمولوجيا كحقل معرفي خاص، وذلك بسبب ما شهده من أزمات معرفية، مست الاسس المفاهيمية الكبرى التي ترتكز عليها العلوم الرياضية والمنطقية، حيث لم تقتصر الازمة على مجرد اشكالات جزئية، بل افرزت اشكالات بنائية عميقة ووعياً نقدياً تجاه المناهج، وفي حقيقة الأمر الاختلاف في تحديد طبيعة الاشتغال الابستمولوجي ليس مجرد اختلاف بين باحثين أو ثلاثة، بل يقسم فلاسفة العلم الى شطرين:
- تحديد الشروط المنطقية والنظرية للعلم.
- البحث في آليات اشتغال العلوم في صيغها التطبيقية.
- الدراسة النقدية لمبادئ العلوم فرضياتها ونتائجها، بقصد تحديد اصلها المنطقي لا السيكولوجي، وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية.
وهذا ما دفع المفكر عبد اوجلان الى إعادة النظرة الابستمولوجية لصياغة مفهومية لمنطقية شروط العلم، وآليات تطبيقها، لتبيان مدى جدواها وقيمتها في تجاوز الازمات الانسانية الشاملة، وإمعان التحليل لمظاهر العولمة بما تمثله من نتاج تحرر الرأسمالية في نمطها الحداثي؛ والذي بدوره تتعرض له الرؤية الاوجلانية بواقعه وتجلياته ليس كفلسفة تشاؤمية او نزعة سوداوية؛ بل كتوصيف موضوعي للحداثة، فيصفها اوجلان: ” أنها ذات فوارق فريدة من نوعها حيث بلغت حدود اللا استمرار في العديد من الميادين، واذ ما سعينا لتعدادها بشكل خاطف سنلاحظ التضخم السكاني المفرط، نفاد الموارد، دمار البيئة، التصدعات الاجتماعية المتعاظمة بلا حدود، الروابط الاخلاقية المنحلة، انقطاع الحياة عن الزمان والمكان، الحياة المفتقدة لجاذبيتها وشاعريتها تحت وطأة التوترات الكبرى، اكداس الاسلحة النووية القادرة على احالة الدنيا صحراء قاحلة، وضروب الحروب الجديدة اللامتناهية والمستفحلة في البنية الاجتماعية برمتها “.
– الازمة الاجتماعية ما بين الاعتقاد في الرأي وعدم الصدق في النتيجة:
انطلاقاً من نهاية مرحلة الستينيات وأساساً السبعينيات انطلق خطاب علم الاجتماع في الغرب انطلاقاً مغايراً وغير مندرج في نفس اتجاه ما كان موجود خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يتم الاستنجاد ليس فقط بعلم الاجتماع، ولكن بكل نسق العلوم الانسانية للمساهمة نظرياً وعملياً بتعويض ما خلفته الحرب العالمية الثانية بتحقيق مستوى من الرفاهية والسعادة ومحاولة البحث عن إمكانية تجعل العلوم الاجتماعية قادرة على المساهمة في عملية إعادة البناء.
وامتداداً لهذه المرحلة اصبح المنظور العلمي في الأوساط الاجتماعية القائمة مضاداً للحقائق بنسبة كبيرة، والسبب في ذلك انشاء الوعي الخاص تجاه العديد من القضايا الانسانية التاريخية والاجتماعية، وتبني هذا الوعي والترويج له، وهذا ما يبرز في تبني الدولة القومية براديغما متناقضة مع حقيقة المفاهيم ومعايير مضامينها، وذلك ما يتمثل في طرح مفاهيم المواطنة على سبيل المثال.
وفيما بدلته – العولمة – يتضح ذلك ايضاً في كثير من المعايير، محددة بذلك معايير جديدة للقيم الانسانية وللجمال وللخير وللشر، وقد تناول اوجلان انبثاق معايير المجتمع الرأسمالي بنمطه الحداثي وتبلوره لدى الذهنية الجمعية وتأثيره فيها وتأثره بها مشيراً: ” أن جميع التكوينات الاجتماعية هي ثمرة الذهنية.. فجميع الاحداث المهمة ومراحل التطور والبنى الموجودة في التاريخ ثمرة من ثمار الذهنيات المؤثرة “، فالمعرفة صورة من الفعل، وهي نوع من المحاولة الناجحة للوصول الى الصدق، يجب ان يجتنب النجاح فيها نوعا معينا من “الحظ المعرفي”، ويجب ان ينشأ من القدرة بدلاً من الحظ، فالمعرفة إذن هي حكم أو اعتقاد يهدف الى الصدق ويحقق الدقة ليس بالحظ، ولكن من خلال البراعة المعرفية للفاعل، بحيث يكون التحقق ملائما.
ويشير أوجلان الى عدم تضمين معايير البراديغما الاجتماعية في حيز الرؤية الابستمولوجيا في سياقات النظم القومية: ” إنّ الالتفات عن الدولة القومية دون النقاش حول جانبها الأبستمولوجي (المعرفي) كبراديغما متجذرة لأبعد الحدود، يُعَدُّ نقصاً فادحاً، تشير التوصيفات التي أُطلِقَت حتى الآن إلى استناد الدولة القومية على براديغما مغايرة جداً لأي نمط آخر من الدولة “.
وبذلك يتضح اللغط فيما بين الاعتقاد في الرأي ظناً والبعد عن معايير ومسوغات اليقين حكماً نافذاً، يتضح ذلك جلياً فيما بدلته – العولمة – في كثير من المعايير الانسانية محددة بذلك معايير جديدة للقيم الانسانية وللجمال وللخير وللشر، وبلغت نقطة ضعف انظمتها أشدها في ارتباطها الوثيق بالصراعات والحروب، فليس يكفي أن يقال أن النظم الحداثية عاجزة عن منع الصراعات والحروب فحسب؛ بل إن الحروب والصراعات تعد الحاضنة الأم والمرجعية الفكرية لها وتنتمي الصراعية الي صميم بنائها وتركيبها الباطن.
وفي خضم التحديات التي تطرحها العولمة للمنظومات المعرفية السائدة التي تؤدي الى تضارب القيم والافكار ما يجعل من الصعب تحديد ما هو معرفي صحيح، مما يدفع المؤسسات الاهتمام بالمخرجات المعرفية القائمة على استخدام ادوات تحليل ودراسة لما يتم طرحه على أنه علمي، مثلما يتضح جلياً في السياق التقني كالتدفق المعلوماتي، وصعوبة تحديد المصادر والمعلومات الموثوقة، يجعل من مجال الابستمولوجيا دوراً حيوياً في فهم طبيعة المعرفة في عصر العولمة، رغماً عن تأثير المرحلة العولمية في طبيعة الابستمولوجيا، فقد جعلتها في أيضاً في قبضة تَحَكُم مراكز القوة والسيطرة الذهنية التي قهقرة من طبيعة الابستمولوجيا لتجعلها ايضاً في ردة.
معنى ذلك أن العلوم الانسانية عامة وعلم الاجتماع (الحديث) بشكل خاص ليس لديه إمكانية لإيجاد حلول للازمة الاجتماعية الحالية في سياق مركزيتها الاوروبية، مما يؤدي الى اعادة النظر في الاسس الابستمولوجية والمنهجية الاخرى التي يقوم عليها، أي ان النقص والعيب هما فيه، قبل ان تكون في مستويات السياق الاجتماعي الاخرى والأثر المباشر في ازمته هذه.
وفي هذا السياق يضع أوجلان العلم – المعرفة – في اعتبارات اخرى في اشارته: ” لا أَعتَبِر العِلم ثمرةً من ثمار التطور ذي الطابع الرأسمالي قطعياً، فما حصل هو تَزامُنُه مع مرحلة تطورية مشؤومة، ألا وهي تَحَقُّق الثورتَين العلمية والاقتصادية الرأسمالية معاً في القرن نفسه على وجه التقريب داخل أوروبا الغربية، وقد أفسح هذا التزامن المجال أمام مُنشِئي الذهنية الرأسمالية للزعم بأنّ الرأسمالية هي التي وَلَّدَت العِلم، ليَضَعوا هذه الكذبة الشنعاء مكان الحقيقة “.
ولتجاوز الازمة الاجتماعية القائمة بكافة مجالاتها وما خلفته الأُطر التطبيقية لمختلف المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية من أضرار جسيمة في جوهر البُنى الاجتماعية، والعبث في نموذجها القيمي التي تسترشد به في ما تشتمل عليه كافة اوجه حياة مجتمعات الشرق الاوسط، ثمة حاجة ماسة الى بلورة براديغما مجتمعية جديدة، ولا تيمكن صياغة هذا النموذج – براديغما – سوى من خلال الرؤية الابستمولوجية التي تنهي الى التأكيد على ما هو علمي – حق – وما هو ظني قائم على تشبثات الرؤى البرجماتية والانتهازية السلطوية، وذلك ما طرحة أوجلان فيما تتبناه رؤيته للمجتمع الديموقراطي: ” أما وجهة نظر الحضارة الديمقراطية، فهي فرصة عظيمة ورائعة من حيث إنتاج العلم السليم، نخص بالذكر الحاجة الماسة إلى علم جديد في أتّون الأزمة والفوضى العارمة، والتي لا يمكن تلبيتها إلا بسيادةِ براديغما المجتمع الديمقراطي فقط، ونظراً لاستحالة ظهور الحلول العملية دون حَلحَلة وتفكيك القضايا الأبستمولوجية، فإنّ تحطيم طوق براديغما الدولة القومية، والتحلي ببراديغما العصرانية الديمقراطية سوف يَصِل بنا إلى القدرة على إيجاد الحل اللازم والمرتقب “.
هذه الحَلحَلة يجب أن تتناول متنوع القضايا الوضعية العلماوية، فمن المهم للغاية تفعيل المنظور الابستمولوجي لهذه المرحلة، التي يمكن نعتُها بمرحلة الفوضى، بإدراكٍ غنيّ؛ والنظر إلى مختلَف المجموعات الفكرية الناشئة في المواجهة الفكرية البارزة حسب واقعها كبؤرة للمقاومة لمختلف التراكمات الفكرية مترهلة التأزم في بؤر السلطة.
وقد يكون في حالة التهاوي السحيق للبراديغما الاجتماعية فرصة بروز الافكار المناهضة للفوضى الفكرية والمجتمعية، هذه الافكار تُشبع تطلعات الافراد والتجمعات، وقد تساهم جميعها في الاضافة اليها وتجويدها وتمكين الآراء الحرة نحوها، وخلق سياقات مجتمعية سياسية وتشريعية تساهم في تمكين الرؤى وتحقيق التطلعات الجماهيرية المُشتَتَة في متاهة مُصَنَعة وتهاوي سحيق، هذا التهاوي ليس وليد بداية الالفية الثالثة بل منذ فترة السبعينيات بالتحديد، وذلك ما اشار اليه اوجلان في تحليله لهذه الحقبة متناولاً: “تهاوي النظم الفكرية أو الاقتصادية عندما تبلغُ النظمُ ذروتها، تبدأ بالتحلل والتهاوي، وأعوام السبعينيات تُمَثل مرحلة بدء انحدار الحداثة الرأسمالية ورواج فقدانِ الثقة بها، حصيلة تجزؤها وتراجعها الواضح في الأسلوب “.
إن تبني تفعيل الرؤى الابستمولوجية مثلما وضعها المفكر عبد الله أوجلان موضع مقايسة للواقع الانساني في منطقة الشرق الوسط بثقافته وإرثه وتراثه الممتد عبر التاريخ الانساني الكوني، كلٌ في مجاله العلمي لهو فريضة الوقت في ظل التصارع القوموي داخلياً، والتكالب العالمي للمشروعات الانتهازية الدولية والاستيطانية الفكرية، وفي ذلك فرصة إعادة البناء على الأسس الاصيلة للمنطقة تعززها العصرانية الداعمة في سياق معايير الحقيقة وليس الاعتقاد في الظنون والآراء الغير مسوغة، وفي ضوء هذه الاعتبارات يطرح أوجلان رؤيته ما بين التقييم والاضافة التي قد تكون طوق النجاة وخلاصة استنجادات المجتمع الشرق اوسطي خلال زهاء نصف قرن أو يُتجاوز، انها فرصة ترميم وإعادة بناء بُنيته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي هذه الصدد اشار اوجلان: ” إنّ تقييم هذه المرحلة التاريخية بالمُثمِرة من حيث بروز الأساليب الجديدة وتصوُّرات الحقيقة المختلفة، يُزيد من فرصة إعادة بناء المجتمع على مستوى المجموعات، فتجسيدُ يوتوبيات الحرية والمساواة بشكل ملموس على شكل بنى اجتماعية منشأة، قد أصبح من بين المهام العملية اليومية التي تفرض نفسها بقوة “.
في حقيقته يمثل ذلك انفتاحاً على إعادة التعرف على البنيه الذهنية للعقل في مجتمعات الشرق الأوسط، وإدراك طبيعتها في سياقات التنوع وثراءه، والذي لطالما كان الاختلاف العرقي والاثني بتوع معتقداته معين لا ينضب لتمكين المنظور الابستمولوجي، به يتحقق بالقدرة على الاختيار الحر (الحرية المجتمعية)، والادِّخار بالمعرف الأكثر صحة مما يزيد من القيمة المضافة للبُنى الاجتماعية، وهو ما لا يمكن الدنو منه دون معرفة القيمة العلمية للطريق المسلوك.
وهذا ما أصَلَت الفلسفة الاوجلانية عوامله من أجل بلوغ الحياة الحرة – الحرية المجتمعية – في: ” معرفة القيمة العلمية للطريق المسلوك، والتحلي بقوة إرادة الحرية، إننا نتحدث عن المرحلة التي يدنو فيها عشق الحقيقة من الحياة الحرة “.
وفي ذلك تأكيداً لا ينفك عن ذكره المفكر أوجلان تتحقق فيه الشراكة الانسانية لمجمل مكونات المجتمع في التحصُل على إطاراً معيارياً تتبلورة رؤاه المعرفية اعتقاداً صادقاً مسوّغاً، وذلك فيما وضحه أوجلان: ” أنه لا يمكننا الوصول إلى المعلومات اللازمة، ولا إنشاء عالَمِنا الاجتماعي والقوى الريادية الجديدة له؛ ما لَم نتعقب الحياة الحرة بعشق وهيام، سواء من حيث الأسلوب، أو كنَسَق للحقيقة، لنبحث عن قُرب في تحصيل المعرفة وإنشاء البنى الريادية على ضوء فرضياتنا هذه “.
……………………………………………………………………..
المراجع
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الرابع، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك المتسترين “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الأول، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية الرأسمالية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك الغزاة “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” سوسيولوجيا الحرية “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- جابر، مليكة (2012): اسهام الابستمولوجيا في تعليمية علم الاجتماع، مجلة العلوم الانسانية والاجتماعية، ورقلى، عدد 8.
- سوسا، إرنست (2022) نظرية المعرفة، ترجمة: صلاح اسماعيل، المركز القومي للترجمة، عدد 3392، القاهرة.
- صيلبا، جميل (1982): المعجم الفلسفي، جزء 1، دار الكتاب الفلسفي، لبنان.
- عاشوري، جمال الدين وآخرون (2020): الابستومولجيا وخطاب التكاملية المنهجية، مجلة سوسيولوجيا.
- لالاند، أندريه (2001): موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة: أحمد خليل، جزء 1، طبعة 2، منشورات عويدات، بيروت.
- مجمع اللغة العربية (1983): المعجم الفلسفي، تصدير: إبراهيم مدكور، الهيئة العامة لشؤون المطابع الاميرية، القاهرة,
- ملكاوي، حسن فتحي (2011): منهجية التكامل المعرفي مقدمات في المنهجية الاسلامية، ط 1، المعهد العالي للفكر الاسلامي، مكتب التوزيع بالعالم العربي، بيروت.