المقـاومـة حيـاة وثقـافـة: استمرارية النضال الكردي من الشيخ سعيد إلى المفكر أوجلان 1925-2025م

دراسة للدكتور محمد رفعت الإمام .. أستاذ التاريخ الحديث المعاصر بجامعة دمنهور ..
من غيابات سجن إمرالي حيث يقبع المناضل والمفكر الأممي عبد الله أوجلان منذ أكثر من ربع قرن، بعث برسالة إلى المحتفين بمئوية ثورة الشيخ سعيد بيران تبلور رأيه ورؤيته وتقييمه وتقويمه لهذه الثورة. وحسب العم آبو: “إن الواقع التاريخي الذي نتحدث عنه في شخص الشيخ سعيد يتجاوز مجرد انتفاضة محلية، فهذا الواقع هو نضال تقليدي من أجل الوجود ترك آثارًا عميقة في الذاكرة الجماعية للشعب الكردي… وتحمل الشيخ سعيد كرائد المسئولية الاجتماعية في ظل ظروف عصره، واتخذ موقفًا قويًا ضد سياسات الإنكار الموجهة ضد إرادة الكردياتية… وردة الفعل هذه هي تعبير تاريخي عن إخلاص الكرد لحقيقتهم. وقد كانت سياسة المركزية والهوية الواحدة التي تم تطبيقها خلال السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية تهدف إلى إقصاء الشعب الكردي عن وجوده. وفي مواجهة هذه السياسة، حمل الشيخ سعيد صوت شعب إلى منصة الإعدام قائلاً: طلبنا العدالة، لكنكم أصدرتم عقوبة الإعدام… كما أن قوله: أحفادي سيثأرون لي بالتأكيد تعبير عن أمل المقاومة الذي تركه للأجيال القادمة…”.
وأردف أوجلان في رسالته التاريخية بأن ثورة الشيخ سعيد تحمل ظروف مرحلتها “ومن الممكن ربط تلك الانتفاضة بالنضال التحرري في الوقت الراهن… من خلال استخلاص الدروس البنيوية وإعادة تأسيس الاستمرارية التاريخية على مسار تحرري ديمقراطي” . ووفقًا للطرح الأوجلاني، فإن نضاله الذي خاضه يهدف إلى “الجمع بين تراث الماضي المقاوم الهادف والنظام الديمقراطي التعددي والسلمي الاجتماعي المستقبلي. وسيكتسب خط الشيخ سعيد معناه الحقيقي عندما يقترن بنموذج الأمة الديمقراطية في الوقت الراهن”. وشدد أوجلان على ضرورة الحفاظ على “الإرث المقدس الذي تركته القيادات التاريخية… وتبنى قيم النضال في ردب الحرية والحقيقة”.
شهداء خالــدون
وفي مثل هذا اليوم منذ قرن بالتمام والكمال، 28 يونية – حزيران 1925م، وقف القائد والبطل الكردي الشيخ سعيد بيران النقشبندي (1865-1925م) الستيني أمام حبل مشنقة تركيا الأتاتوركية قائلاً: “إن الحياة الطبيعية تقترب من نهايتها. ولم آسف قط عندما أُضحي بنفسي في سبيل شعبي. إننا مسرورون لأن أحفادنا سوف لن يخجلوا منا أمام الأعداء”، وذلك جراء تنظيم وقيادة أقوى ثورة كردية هزت عرش الجمهورية التركية المولودة قيصريًا بموجب مقررات ومؤامرات لوزان 1923م. وأضافت بعض الشهادات بأن آخر كلمات الشيخ سعيد: “من يمت في سبيل وطنه، يبقى خالدًا”.
وفي الواقع، تُمثل الكلمات الأخيرة لقادة ثورة الشيخ سعيد والمشاركين فيها قبيل إعدامهم في ساحات مدن كردستان تجسيدًا لآيات البطولة والأهداف السامية التي ضحوا في سبيلها بالأنفُس والنفائس. ومن هذا القبيل على سبيل المثال، هتف حاجي آختي: “فلتتعزز الفكرة الكردية، عاشت كردستان”. وهتقف حسن صبري قبيل الإعدام بلحظات: “عاش الشعب الكردي. يا شهداء كردستان الآن ينضم إليكم حسن خيري”. وصاح خواجة عسكري: “لو بقى كردي واحد، سوف يُثابر على هذه الثورة، وليحيا الكرد”.
وجدير بالذكر أن ثورة الشيخ سعيد تُعد أول ثورة قومية كبرى قام بها الكرد في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918م). وقامت جمعية آزادي بدور مهم في انتشارها، وتبوأ المثقفون والضباط والشيوخ والمشايخ الكرد مواقعهم في قلب الحركة القومية من حيث التنظيم والتجنيد. واتسمت ثورة الشيخ سعيد بطابعها الديني والقومي في آن واحد. وفي الواقع، يُعد الشيخ سعيد نموذجًا للرجل القومي المتحمس والمؤمن الملتزم في نفس التوقيت شأن جمعية آزادي التي نظمت الثورة وقادتها. ولاريب أن معظم الكرد الذين شاركوا في ثورة الشيخ سعيد قد انزعجوا من إلغاء الخلافة في 24 مارس – آذار 1924م. ولذا، تداخلت الدوافع الدينية مع الدوافع القومية.
وتُعد ثورة الشيخ سعيد علاقة فارقة في النضال الكردي العام؛ إذ كانت نقطة تحوَّل في النزعة القومية الكردية، ونموذجًا للحروب القومية فيما بعد الحرب العالمية الأولى، وإن كانت قد اتسمت بالقومية البدائية في مواجهة القومية التركية القوية. ولاستيعاب مكانة ودور وتأثير ثورة الشيخ سعيد في التاريخ الكردي العام والنضالي الخاص، لابد من استعراض نشوء القومية الكردية وسياقاتها.
ملامح القومية الكردية
إذا كان القرن التاسع عشر قد أفرز محطات فارقة فى سيرة ومسيرة القضية الكردية من أمثال حلف بدرخان بك المقدس واتحاد الشيخ عبيد الله النهرى وتضامن الفرسان الحميدية ، فثمة محطات فارقة على ذات الدرب نجمت عن تداعيات تطورات الربع الأول من القرن العشرين بدءاً من متغيرات ما بعد سيطرة تركيا الفتاة على الحكم العثمانى (1909م) مروراً بفعاليات الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وانتهاءً بتسوياتها (1919-1923م).
رغم كون الكرد أكبر كتلة عرقية بعد العرب والفرس والترك فى الشرق الأوسط، فقد تأخروا نسبياً فى تطوير حركة قومية حديثة. جغرافياً، عاش الكرد فى منطقة جبلية، ولذا، توزعوا وانعزلوا بعضهم عن البعض الآخر، وبدون هيكل دولة مركزية قوية. وكذا، عّززت الجغرافيا ونمط الحياة البدوية لفترات طويلة اختلاف اللهجات الكردية. وسياسياً ، انقسمت كردستان بين دولتىّ الشاهات الفارسية والسلاطين العثمانية. ولاريب أن هذا التقسيم قيّد فرص تطوير رؤية قومية أكثر شمولية فى خط متواز مع جنوح السلطة المركزية بالأستانة وطهران لكبح القومية الكردية داخل حدودهما. وحتى داخل الدولتين الفارسية والعثمانية، عاش الكرد عموماً أكثر انعزالاً. ولاغرو؛ إذ أن العزلة عن المراكز الكبرى أبطأ تطورهم كأمة موحدة لديها وعى بالذات. وعلى النقيض، أسهمت العزلة والرعوية فى تكريس بنية عشائرية وقبلية قوية أدامت الانقسامات السياسية والإقليمية. ودينياً، شكل الكرد السنة جزءاً من نواة إسلامية أوسع ضمن الدولة العثمانية متعددة العرقيات بغض النظر عن كونهم يتحدثون الكردية؛ إذ أن جميع السنة الأتراك والعرب والكرد مسلمون على حد سواء، وليس للاختلافات العرقية واللغوية فيما بينهم أية تبعة قانونية على عكس المسيحيين واليهود.
وقد اعتمدت السلطات العثمانية على الكرد فى الدفاع عن الحدود الشرقية بصفتهم جزءاً من الجماعة السنية فى دولة السلاطين العثمانيين. ولذا، تطابق الكرد مع المجتمع العثمانى الأكبر والأوسع ، ولكنهم تطابقوا محلياً مع طرق دينية صوفية أو تجمعات قبلية كانت غالباً فى حالة صراع. واحتدم الانقسام الاجتماعى الرئيسى بين المقاتلين القبليين والفلاحين المستقرين. وعلى خلفية تطورات القرن التاسع عشر، ثمة تغيير سياسى تدريجى فى العلاقة بين الكرد والإدارة العثمانية. وقد أدت مركزة الإدارة والتجنيد الإجبارى والحروب العثمانية الفارسية الروسية فى كردستان إلى خسارة أرواح كردية كبيرة وتمردات كردية تجاوزت الخمسين. بيد أن هذه التمردات الثورية لم تكن قومية الطابع، وأدى قمعها إلى تقوية الشيوخ وزعماء الطرق الصوفية الذين سيقومون بدور مهم فى الحركات الكردية على نحو ما سوف يتجلى في ثورة الشيخ سعيد. وقد نظر السادة الإقطاعيون (الأغوات) الكرد إلى أنفسهم كرعايا مسلمين سنة ليس لهم مصلحة فى “وحدة كردية” لا يُمكن التنبؤ بعواقبها وربما يتغير فيها وضعهم إلى الأسوأ.
وقد سعى السلطان عبد الحميد الثانى إلى تقوية دولته على أسس الإسلام السنى، ووضعت الإدارة العثمانية بذور التمايز بين الكرد عندما شكلت من الكرد السنة الفيالق الحميدية فى عام 1891م. وقد أصبحت هذه الفيالق، مصدراً للانقسام الذى رعته الدولة داخل المجتمع الكردى عندما قام الكرد المتواطئون مع الدولة بمعاداة أقرانهم غير المتعاونين معها. ورغم هذا، عزّزت الفيالق الحميدية الروابط القبلية بين الكرد السنة. ورغم الجدل بشأن الوعى العرقى للكرد فى أواخر القرن التاسع عشر، فقد أصدر ثريا بدرخان أول جريدة قومية كردية باسم ” كردستان” فى القاهرة بمصر يوم 22 أبريل– نيسان 1898م. وفى أعقاب ثورة تركيا الفتاة عام 1908م، حل التأكيد على العلمانية والدستور محل التأكيد على الإسلام. وفى مناخ الليبرالية المحدود، تنامت الأنشطة الكردية عندما نظر كثير من المثقفين الكرد إلى الحركات الليبرالية العثمانية والإصلاحات الدستورية بوصفها أفضل السبل لإحراز حقوق قومية أكبر.
تنيظمات كرديـة
وقد نجم عن اندلاع ثورة تركيا الفتاة ” الاتحاد والترقى” فى عام 1908م تأسيس الجمعيات القومية الكردية على نطاق جماهيرى فى الأستانة وفى المدن الكردية الكبرى لاسيما آمد- دياربكر. وتُعد “جمعية تعالى وترقى الكرد” ( جمعية التعاون والتقدم الكردية) باكورة هذه الجمعيات التى استهدفت نشر المعارف الكردية وتطويرها واستخدام اللغة الكردية. وقد تكونت من أبناء الأمراء السابقين ومشايخ الصوفية وبعض العسكريين والمثقفين. وقد انبثق عن هذه المؤسسة ” جمعية نشر الثقافة الكردية” التى أعادت إصدار جريدة كردستان فى الأستانة، وهى استمرار لصحيفة كردستان- باكورة الصحافة الكردية- التى أصدرها ثريا بدرخان فى 22 أبريل- نيسان 1898م بالقاهرة. وأقامت الجمعية مدرسة للكرد القاطنين فى الأستانة تحت رعاية سعيد نورسى. بيد أن الاتحاديين القوميين قد أغلقوا الجمعية بعد هيمنتهم على الحكومة العثمانية عقب عزل السلطان عبد الحميد الثانى فى 27 أبريل-نيسان 1909م. وفى عام 1910م، تأسّست جمعية هيفى” الأمل” الكردية فى الأستانة، واهتمت بالشباب الكرد الذين تخّرج بعضهم فى المدارس العسكرية.
وعلى غرار جمعية تعالى وترقى ، كان مؤسسو هيفى غرباء على كردستان وشعبها، وغير متواصلين معهم عن قرب. وحتى ذلك الوقت، كان الكرد تقليديين ودينيين ورؤيتهم القومية مرتبطة بالخلافة. ولم يرغب خريجو المدارس العشائرية التعاون بكفاية مع إخوتهم فى المواطنة. بيد أن تداعيات الحرب العالمية الأولى ساعدت على تقارب المثقفين فى الأستانة وغرب الأناضول مع زعماء العشائر والشيوخ فى شرق الأناضول؛ كردستان.
ومنذ الانقلاب العثمانى وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1908-1914م)، تطورت القومية الكردية ولكن ليس وفقاً لرؤية القوميين الكرد ” الرومانسيين” وغيرهم فى الأستانة. وارتبطت القومية فى داخلية كردستان بالطرق الصوفية والتكايا التى صارت مراكز نشر الأفكار القومية، ولاقت قبولاً واسعاً لدى العقل الجمعى الكردى. وبفعل تأثير المشايخ والطابع الدينى، حظيت التكايا بمناعة نسبية من تدخلات السلطة. وكان الشيوخ أقرب إلى جموع الجماهير الكردية أكثر من النخبة الكردية المشتركة. ولذا، ربطت الكتلة الكردية مصيرها بالمشايخ ووقفوا معاً للدفاع عن الحكومة الإسلامية التقليدية المناهضة للدولة العلمانية الحديثة التى تأسسّت على أياد القوميين الأتراك.
وفى الأستانة ، انضم الكرد القوميون إلى المعارضة العثمانية لاسيما حزب “الحرية والائتلاف “، ونشروا كتاباتهم فى جريدة ” سربستى” لسان حال الحزب. وأسس الكرديان عبدالله جودت وإبراهيم تمو حزب “الديمقراطية العثمانى” المعارض للسياسة الاتحادية. ونشط الكردى لطفى فكرى فى حزب ” الحرية المعتدل” وأصدر جريدة ” تنظيمات”. وباندلاع الحرب العالمية الأولى، انخرط الكرد القوميون المؤيدين والمعارضين للاتحاديين فى الدعوة إلى الدفاع بإخلاص عن الوطن.
كردستان: تفاحة الحــرب
وإبان الحرب العالمية الأولى، غرقت كردستان فى أتون الحرب، وامتد مسرح العمليات الحربية من صارى قاميش شمالاً حتى خانقين جنوباً وأرزنجان غرباً. وتحت غطاء الخلافة الإسلامية ” السنية” والجهاد ضد الكفرة، استخدم الأتراك القوميون الكرد لتحقيق غاياتهم الحربية مما أوقف المحاولات الأولية الهادفة إلى تكوين وتنظيم فكرة قومية كردية. وراقب الأتراك القوميون الكرد القوميين عن كثب، وأعدموا أعداداً ليست بالقليلة منهم أثناء الحرب. وعبثاً، فشلت محاولات كامل بك بوتان من الأسرة البدرخانية والسيد طه ابن شقيق الشيخ عبيدالله النهرى لإقناع الروس بعدالة القضية الكردية والقيام بعمل مشترك ضد الأتراك لتحرير كردستان. وآنذاك، لم يكن لدى الإدارة الروسية سياسة محددة إزاء القضية الكردية، وامتزجت لديها بأبعاد فكرة استقلال أرمينية. ورغم صعوبة تحديد أعداد الجنود والكرد المحاربين فى ميادين القتال والمشتركين فى قوات حرس الحدود والجندرمة، فثمة أعداد غفيرة من الكرد لقت حتفها إثر المعارك الحربية والمجاعات والأوبئة. وفى كلمة، حل الدمار والموت بكردستان الفارسية والعثمانية ، وكذا، أجلت القوات العثمانية” 700,000″ ألف كردى قسرياً تحت غطاء الانسحاب أمام التقدم الروسى. وفى الواقع، استهدفت الأستانة تجريد الكرد من هويتهم القومية بعد إبعادهم عن زعمائهم التقليديين وتشتيتهم فى المدن العثمانية.
وفى مارس– آذار 1916م، أبرمت بريطانيا وفرنسا معاهدة ” سايكس بيكو” لتقسيم الممتلكات العثمانية فيما بينهما. وبينما شملت المنطقة الحمراء” البريطانية” من خانقين جنوب كردستان شمالاً حتى جنوب الكويت، ضمت المنطقة الزرقاء”الفرنسية” البلاد التى صارت تسمى سورية ولبنان والجزء الشمالى الغربى من كردستان؛ أى جنوب شرق تركيا حالياً. وفى 26 أبريل– نيسان 1916م، وافقت روسيا القيصرية سراً على هذه المعاهدة شريطة السيطرة على طرابيزون وشمال غرب كردستان أثناء فعاليات الحرب العالمية الأولى قبل أن تكشفها ثورة أكتوبر- تشرين الأول 1917م فى روسيا.
الألام والآمال الكرديـة
ومنذ إبرام هدنة مودروس فى 31 أكتوبر- تشرين الأول 1918م، عاود الكرد القوميون نشاطاتهم. وفى هذا السياق، استعادت ” جمعية تعالى وترقى الكرد” نشاطها تحت مسمى” جمعية تعالى كردستان”، وضمت إليها أعضاءً من العشائر الكردية مما يُشير إلى التوجه الجديد فى الحركة القومية الكردية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. وانتعشت مجدداً جمعية ” هيفى”، واندمجت مع بعض الشباب المنشقين عن جمعية تعالى وترقى الكرد فى جمعية “الرابطة الاجتماعية الكردية”. وآنذاك، انقسم النشطاء الكرد بين فريق طالب بـ ” كردستان مستقلة”، وفريق آثر إقامة حكم ذاتى محدود فى كردستان. وقد سعى الإنجليز إلى استخدام الكرد ضد الأتراك، ووعدوهم بتأسيس ” حكم ذاتى” ضمن الدولة العثمانية تحت سيطرة السلطان- الخليفة الذى سيكون تركياً. ولذا، بادر الأتراك بوعد الكرد منحهم حكماً ذاتياً محدوداً. وثمة شريحة كردية ليست بالقليلة تبنت “الجامعة الإسلامية” وتعاونوا مع الأتراك ضد الإنجليز خشية إقامة دولة أرمنية مسيحية فى الولايات ذات الأكثرية الكردية.
وفى مطلع عام 1919م، شجع قطاع من الأتراك القوميين الكرد على المطالبة بالاستقلال التام فى مؤتمر السلام بفرساى بغية إيقاف التوسع البريطانى بعد احتلال الموصل فى 7 نوفمبر– تشرين الثانى 1918م والحيلولة دون استقلال أرمينية الغربية. وفى الواقع، منذ هدنة مودروس ، اختلف النشطاء الكرد بشأن مطالبهم السياسية بين تأسيس كردستان موحدة مستقلة وبين حكم ذاتى مع الاعتراف بالسلطان كخليفة تطبيقاً لمبدأ حق تقرير المصير الذى أعلنه الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون (1913-1921م).
وقد كّرست الحرب العالمية الأولى وتداعياتها أهمية كردستان الجيوستراتيجية فى العلاقات الدولية لاسيما بعد اكتشاف البترول فيها، وغدا الكرد عنصراً مهماً فى الحركة السياسية. وقد أدرك الأتراك الكماليون – نسبة إلى الضابط مصطفى كمال- هذه الوقائع بوصفهم القوميين الجدد. ولذا، وقف الكماليون ضد الحركة الكردية، وأيدوا التدابير ضد المؤسسات الكردية فى آمد- دياربكر، ومنحوا ” وعوداً براقة” بشأن الاعتراف بحقوق الكرد القومية بغية الحفاظ على سلطتهم فى كردستان واستغلال الأغوات الكرد ضد الاحتلال الأجنبى. ومن المفارقات، انخدع عدد من القادة الكرد بهذه الوعود السرابية. وفى مؤتمر أرضروم المنعقد بين يومّى 10-29 يولية– تموز 1919م، أيّد الكرد القوميون الأتراك فى الحركة التركية التحررية الناشئة شريطة منح الكرد حكماً ذاتياً فى كردستان. ولم يرفض قادة الكرد تأسيس دولة تركية قومية شريطة أن تنال كردستان حكماً ذاتياً فى إطارها.
وأكدت مقررات مؤتمر أرضروم آنف الذكر على أن ولايات أرضروم وسيواس وآمد- دياربكر وخربوط وفان وبيتليس جزء لا يتجزأ من الدولة العثمانية ولا يُمكن سلخها أو تقسيمها ” تحت أية ذريعة”، ولذا، فإن قاطنيها من المسلمين يُعدون ” إخوة ولدوا من أب واحد وأم واحدة”. وبذا، استغل الأتراك الكماليون مشاعر الكرد” السنة” الدينية ضد التدخل الأجنبى وضد السكان المسيحيين فى البلاد. وفى أغسطس- آب 1919م، أرسل مصطفى كمال مقررات أرضروم إلى عدد من زعماء العشائر الكردية، ودعاهم إلى العمل ضد دسائس الأرمن وغيرهم من الأعداء. وقد استجاب بعض الأغوات ” الإقطاعيين” الكرد لنداء الكماليين. بيد أن أكثريتهم رفض مخرجات مؤتمر أرضروم نظراً لولائهم الشديد للسلطان- الخليفة وعدم اعترافهم بالكماليين الذين تجاهلوا مصالح الكرد القومية. ولذا، لم يُشارك إلا عدد محدود من الكرد فى مؤتمر سيواس يوم 11 سبتمبر– أيلول 1919م. ورغم نزعة الكماليين المعادية للإمبريالية، فقد اتسمت مخرجات مؤتمر سيواس بالتعصب القومى، وتجاهل حقوق الأقليات الدينية” الأرمن والآشوريين” والجماعات القومية والعرقية وبالأخص الكرد.
إخوة ولكن
وهكذا، أكدت قرارات مؤتمرىّ أرضروم وسيواس (1919م) وبنود الميثاق الملى الذى أقره برلمان الأستانة فى يناير-كانون الثانى 1920م على أن الكماليين لم يعترفوا بحقوق الكرد القومية واستغلوا الإقطاعيين الكرد لأغراضهم بحجة ” وحدة الدين والأمة”. ولذا، استعدت بعض القوى الكردية القومية لمواصلة النضال ضد الكماليين الذين أخذوا يُلاحقون قادة الكرد فى الأستانة. وفى هذا السياق، تُعد انتفاضة مالاطيا إبان صيف 1919م أول حركة جدية للكرد ضد الكماليين، شارك فى إعدادها بعض أعضاء “جمعية تعالى كردستان” مع الرائد الإنجليزى نؤيل الذى تواجد فى مالاطيا بدعوى أن السلطان قد كلفه بدراسة التناسب العددى بين السكان الأتراك والكرد والأرمن.
واستقبل خليل بك رحيم متصرف مالاطيا الرائد نوئيل ومعه نخبة من سلائل البدرخانيين والفرسان الكرد. وبدا أن ثمة ثورة معادية للأتراك الكماليين قد لاحت فى الأفق. وفعلاً، دعا خليل بك ممثلى عدداً من العشائر الكردية إلى عقد مؤتمر القادة الكرد فى بلدة شيرو على مسافة حوالى ” 20″ كم2 من مالاطيا. وتمخض المؤتمر عن تعيين خليل بك حاكماً على كردستان وتشكيل لجنة الدفاع عن حقوق الكرد والمبادئ الأساسية لتأسيس كردستان مستقلة. وقد بعث المؤتمرون بهذه القرارات فى رسائل إلى الزعماء الكرد. وعندما علم مصطفى كمال بنبأ الإعداد لثورة ضده، أرسل فيلقين من الفيالق العشائرية- الحميدية سابقاً- بقيادة ضباط من سيواس لإحباطها. وبسرعة، هربت القيادات الكردية واستُبعد نوئيل، وهرب المشاركون فى الحركة إلى أماكن مختلفة بعد فقدان قادتهم.
المؤامرة الدولية: الطريق إلى الثورة
هكذا، فشلت أول حركة كردية ضد الكماليين الذين انكشف جوهر سياستهم القومية المتطرفة. وفى المقابل، لم يقض الكماليون كلياً على الحركة الكردية؛ إذ تزامن ذلك مع اعتراف دولى مهم بحقوق الكرد القومية على نحو ما تجلى فى مقررات معاهدة سيفر المبرمة فى 10 أغسطس– آب 1920م. وقد اختص الباب الثالث من هذه المعاهدة بكردستان والكرد على نحو ما برز فى المواد من 62 إلى 64. وقد نصت المادة “62” على إقامة مناطق ذات حكم ذاتى أغلبية سكانها من الكرد فى إطار تركيا (حسب المشروع الذى يجب وضعه بواسطة نواب بريطانيا وفرنسا وإيطاليا). وقد ألزمت المادة “63” تنفيذ الحكم الذاتى فى الواقع، حسب المشروع الذى اقترحته اللجنة، خلال فترة زمنية مدتها ثلاثة شهور. وقضت المادة “64” بإمكانية لجوء الكرد إلى هيئة عصبة الأمم لطلب الاستقلال عن تركيا. وفى البند الأخير من المادة “64” اختص بالموصل التى من الممكن أن تنضم إلى مثل هذه الدولة الكردية المستقلة بموافقة دول الوفاق الكبرى وبعد تخلى تركيا عن المناطق الكردية.
ورغم أن معاهدة سيفر لم تدخل حيز التنفيذ، فإن مقرراتها مؤشر مهم عكس سياسات الدول الكبرى فى الشرق الأوسط لاسيما فى تحديدها لوضعية الحركة الكردية التحررية ومستواها التى لم يعد فى الإمكان تجاهلها. وقد نصت المعاهدة بداية على قيام كردستان ذات حكم ذاتى فى إطار تركيا، مع حق تحويلها خلال عام إلى دولة مستقلة وانضمام الموصل إليها لاحقاً. ورغم أنها ظلت حبراً على ورق، فإنها تُعد منعطفاً جد مهم فى تطور الحركة الكردية. ولاغرو؛ إذ تُعد أول وثيقة دبلوماسية دولية تتعرض لبحث إقامة ” حكم ذاتى محلى” فى المناطق ذات الأغلبية الكردية. ومنذاك، اكتسبت القضية الكردية أهمية دولية رغم الطابع الاستعمارى للمعاهدة. وفى الواقع، لم تسع القوى الغربية إلى منح الكرد الاستقلال، بل على النقيض، استغلوا طموحاتهم لأغراض استعمارية توسعية. فمثلاً، عندما استولى الإنجليز على جنوب كردستان ، قمعوا الحركة الكردية فيها، ولم يعترفوا بحقوق الكرد العراقيين فى الاستقلال. وفى نفس الوقت، أيد الإنجليز الحركة الكردية فى تركيا ضد الكماليين بغية الضغط عليهم ودفعهم إلى تقديم تنازلات.
وقد دخلت القضية الكردية منعطفاً خطيراً إثر مخرجات مؤتمرىّ أرضروم وسيواس وإبرام معاهدة سيفر حيث أسفرت فى الختام عن اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران فى عام 1925م. ومرة أخرى، طفت الصراعات على السطح فى منطقة ديرسم بين الكرد السنة والشيعة وبين الفيالق العشائرية “الحميدية سابقاً” وغير العشائرية” غير الحميدية”. وفى الواقع، حافظ الكماليون على هذه الفيالق لاستخدام الكرد فى إنجاز مخططاتهم. بيد أن الفيالق العشائرية ذات الولاء التام للسلطان رفضت الانصياع للأوامر الكمالية، وتمردت مراراً ضدها لاسيما الفيلق الذى كان يقوده العقيد خالد بك جبرانلى (1891-1918م).
وفى عام 1919م، تقّلد خالد بك جبرانلى منصباً حكومياً فى ديرسم، ولذا، استغل موقعه لتنظيم العشائر عنوة ضد الكماليين. وفى عام 1920م، بدأ دعاية قوية لفكرة استقلال كردستان والنضال ضد مخرجات مؤتمرىّ أرضروم وسيواس، وكذا، ضد البند الوارد فى ” الميثاق الملى” الناصة على” انضمام كردستان الشمالية إلى تركيا”. وارتأى خالد بك ورفاقه إمكانية نيل الحقوق القومية الكردية عن طريق القيام بثورة مسلحة بعد رفع الوعى القومى لدن الكرد ونشر الدعاية لأفكار النضال التحررى. ووزعوا السلاح على العشائر الموالية. وشجعوا الكرد على ارتداء الزى الكردى (القومى) وتعُّلم القراءة والكتابة باللغة الكردية، ونشر المؤلفات السياسية والأدبية الكردية.
وفى خط متواز، عقد الكرد سلسلة اجتماعات تنظيمية، واستقروا فى ربيع 1920م على أن تكون ديرسم مركزاً للحركة الكردية والشروع فى بدء الكفاح المسلح فى سبيل قيام كردستان مستقلة تضم ولايات آمد- دياربكر وفان وبيتليس وإيليازيغ وديرسم كوجكرى. وفى 15 نوفمبر- تشرين الثانى 1920م، أُرسل قادة الكرد مذكرة إلى الكماليين فى أنقرة طالبتهم بإبداء رأيهم بشأن الإدارة الذاتية لكردستان ( وفقاً لبنود سيفر) ، وإطلاق سراح جميع الكرد المعتقلين، وسحب الموظفين الأتراك من المناطق ذات الأكثرية الكردية، والانسحاب الفورى لجميع القوات التركية من منطقة كوجكرى.
ورغم اعتراف أنقرة بـ ” عدالة” المطالب الكردية ، فقد نصح الكماليون الكرد بعدم القيام بحركتهم. وفى نفس الوقت، بذلوا جهوداً واسعة لاستمالة الزعماء الكرد البارزين إلى جانبهم عن طريق الوعود والرشاوى. وقام مصطفى كمال بتعيين الزعيمين الكرديين ميكو أغا ودياب أغا فى المجلس الوطنى التركى الكبير عن ديرسم، وأشاع باتخاذ قرارات لمصلحة الكرد وسوف سيتم تلبية مطالب كردستان بوجه عام. ووقع الزعيمان ميكو ودياب فى المصيدة الكمالية، وصارا أداة فى أيدى سلطات أنقرة لقمع الحركة التحررية الكردية فى ديرسم. ورغم السياسة التوفيقية لبعض الزعماء الكرد، فإن الحركة لم تتوقف فى كردستان، ولم تخضع ديرسم عملياً للسلطات التركية. وتولى الزعيم الكردى الدينى سيد رضا السلطة الإدارية الذى لم يكن ضد التعاون مع الكماليين ولكن طالبهم بتلبية مطالب الكرد القومية فى إطار دولة فيدرالية موحدة.
شقاق لا وفاق
بيد أن المطالب الكردية لم تتجاوب مع مصالح الكماليين وطموحاتهم، ولذا، طالبوهم بوقف المقاومة والاستسلام حتى لا تتعرض جميع القرى الكردية للتدمير. ومن ثم، بدأت الصدامات بين الكماليين والكرد منذ بداية عام 1921م، وازداد القتال بينهما فى 6 مارس– آذار1921م، لاسيما فى منطقة عمرانية الذى انتهى بهزيمة الأتراك ورفع راية الكرد على مركز المدينة، واستولى الكرد على السلاح التركى. وبعد عمرانية ، انتفض كرد كوجكرى مع وحدة كردية من عشائر أواجيك بتحرير المنطقة فى 8 مارس- آذار1921م واعتقال عدد كبير من الكرد الإقطاعيين المتواطئين مع الأتراك الكماليين.
هكذا، اندلعت ثورة كوجكرى. وكسباً للوقت وشقاً للصف الكردى، أرسلت أنقرة فى 15 مارس- آذار1921م وفداً برئاسة القاضى الكردى شفيق البيتليسى للتفاوض مع الثوار شريطة وقف العمليات حتى نهاية المفاوضات. وأثناء المفاوضات، عززت أنقرة قواتها العسكرية، وأعلنت الأحكام العرفية (الحكم العسكرى) فى ولايات معمورة العزيز وإرزنجان وسيواس. ورغم أن قادة الكرد قد أدركوا بأن الكماليين يرمون إلى القضاء على الكرد، فإنهم صمموا على مواصلة القتال دفاعاً عن قضيتهم القومية. ومنعاً لاتساع جغرافياً الثورة الكردية ، سحبت أنقرة جزءاً من قواتها المرابطة على الجبهة اليونانية لمحاربة الكرد، ونقلت فيلق الفرسان الرابع عشر الجركسى الشرس إلى سيواس.
وقد دارت معارك طاحنة بين الكرد والأتراك لاسيما فى المنطقة الواقعة بين ديرسم وإرزنجان. وشارك فى المعارك جميع الكرد القادرين على حمل السلاح كباراً وصغاراً ورجالاً ونساءً. وبينما ازدادت ضراوة الهجوم التركى، انسحبت بعض العشائر الكردية من صفوف المقاومة الكردية واستشهد عدد كبير من القادة الكرد استشهاداً بطولياً على أرض المعركة. وأمام عدم تكافؤ القوى بين الأتراك والكرد، تراجع الثوار المناضلين، وسحق الكماليون ثورة عشيرة كوجكرى. ورغم هذا، لم تتمكن أنقرة من إخضاع ديرسم لحكمها بالكامل.
وقد فشلت ثورة كوجكرى بسبب عجز البنية العشائرية الكردية عن تحقيق الوحدة اللازمة فى الحرب من أجل الاستقلال، وكذا، تسببت الاختلافات الدينية والمذهبية فى عدم الثقة فيما بين الكرد ناهيك أن معظم قادة الحركة كانوا معزولين عن شعبهم ولم يُدركوا طموحاته وآماله ، وكذا، التفوق الهائل للقوات التركية وعدم مساعدة أوربا للكرد. ورغم فشلها، تُعد ثورة كوجكرى مهمة جداً بشأن تطورات القضية الكردية عقب نهاية الحرب العالمية الأولى ومعاهدة سيفر، وتُعد محاولة لتفعيل المواد 62 و 64 من سيفر لتأسيس حكماً ذاتياً فى شرق الأناضول.
نحو اغتيال الحُلم الكردي
وبعد انتصارات الكماليين على أرمينية الطاشناقية واليونان ودول الوفاق (الحلفاء)، أعلن المجلس الأعلى لدول الوفاق استعداده لإدخال تعديلات محدودة على المواد الخاصة بكردستان فى معاهدة سيفر. وفى مارس– آذار1922م، لم تطرح دول الوفاق المسألة الكردية ضمن مقترحاتها مما شجع الكماليين على إمكانية التخلى عن إدراجها فى جدول أعمال مؤتمر لوزان الذى انتهى فى 24 يولية- تموز 1923م، ولم تتضمن معاهدته أى ذكر عن كردستان. وبذا، تخلص الكماليون والمؤتمرون فى لوزان من فكرة ” كردستان مستقلة”، ولم يتبق سوى إضفاء”الشرعية” عليها فقط. ولم يعد ثمة حديث عن “استقلال كردستان”، وصارت المسألة تدور حول استغلال القضية الكردية بمهارة لبلوغ المآرب لاسيما بشأن مسألة ولاية الموصل. وعندما حشد الكماليون قواتهم على حدود الموصل كان بهدف استغلال الكرد فى النزاع التركى الإنجليزى حول الموصل. ولذا، ذهب الإنجليز والأتراك إلى لوزان وكلاهما مستعد للتنازل أمام الآخر فى المسألة الكردية.
وأثناء مداولات المؤتمرين فى لوزان بشأن ماهية الأقليات القومية فى تركيا، ثمة سؤال حول ما إذا كان الكرد لازالوا مصرين على انفصال كردستان عن تركيا وفقاً لمقررات سيفر. وارتضى الإنجليز باستطلاع رأى النواب الكرد فى المجلس الوطنى التركى الكبير. وبدعوى إبعاد الدول الأوربية عن التدخل فى الشأن التركى الداخلى، وافق النواب الكرد على أن تركيا للكرد والأتراك، ولا ينفصلون أبداً. وأعلن عصمت إينونو- رئيس الوفد التركى- بأن تركيا للشعبين التركى والكردى المتساويين أمام الدولة، ويتمتعان بحقوق قومية متساوية. وأمام هذه الصورة المخادعة، لم يُناقش المؤتمرون موضوع ” استقلال كردستان” وحذفوا ذكر الكرد من الوثائق الرسمية. وبذا، قنن الكماليون والإمبرياليون الغربيون نفى حقوق الكرد القومية فى تركيا بموجب مقررات لوزان. وحسب المادة 38 : ” تتعهد الحكومة التركية منح جميع السكان الحماية التامة والكاملة لحياتهم وحريتهم دون تمييز فى العرق والقومية واللغة والدين”.
هكذا، إذا كان موقف النواب الكرد فى المجلس الوطنى التركى الكبير قد صب بامتياز فى الصالح التركى القومى، فإنه على النقيض تماماً قد أضر مصالح الكرد القومية فى تركيا. وإذا كانت مقررات سيفر قد عززت وضعية كردستان من منظور القانون الدولى، فإن مخرجات لوزان كانت ردة إلى الوراء فى ساحة القانون الدولى. وإذا كانت مؤامرة لوزان قد أنهت موضوع” كردستان مستقلة” فى تركيا، فإنها وضعت الحركة الكردية القومية خارج القانون، ومنحت تركيا الكمالية وسائل تجاهل مصالح الكرد القومية فى الجمهورية التركية التى حلت محل الدولة العثمانية. ومن ثم، سعت تركيا الجديدة لاستيعاب مناطق كردستان الشمالية التى دخلت فى زمام حدودها المصطنعة إثر لوزان 1923م. وبذا، وجهت لوزان ضربة شديدة إلى الحركة الكردية القومية وبالأخص فى تركيا.
وإذا كانت القوى الغربية قد هندست وضعية كردستان الشمالية على النحو آنف الذكر، فقد ارتبط هندسة وضعية كردستان الجنوبية بصناعة دولة العراق والمصالح البريطانية فى الخليج والصراع الاستعمارى حول نفط كردستان لاسيما فى الموصل وكركوك وغيرهما. وكما تآمر الاستعماريون على الحراك الكردى فى الشمال، فقد تآمروا أيضاً فى الجنوب ضد حراك الكرد بزعامة الشيخ محمود البرزنجى مع بقاء وضع ولاية الموصل غير محسوم حتى عام 1925م. وامتدت عدوى الحراك الكردى إلى كردستان الشرقية داخل حدود الدولة القاجارية فى إيران وبالأخص حركة إسماعيل سيمكو بين عامىّ 1920- 1925م عندما سقطت الأسرة القاجارية وحلت محلها أسرة بهلوى التى أسست حكماً مركزياً قوياً فى إيران. وكما ارتبطت كردستان شمالاً وجنوباً وشرقاً بالاستعمار البريطانى ومصالحه، فقد انخرطت كردستان الغربية ( جبل الكرد” عفرين لاحقاً” وكوبانى والجزيرة ” محافظة الحسكة”) فى أتون الاستعمار الفرنسى وصناعة سوريا الحديثة وترسيم الحدود قيصرياً بين العراق وسورية وتركيا.
نحو ثورة مسلحة
فى أعقاب مؤامرة لوزان 1923م، شهدت العلاقات التركية- الكردية تدهوراً مضطرداً. ولاغرو؛ إذ راقب الأتراك الكرد مراقبة لصيقة لأنهم يُشكلون أكبر مجموعة عرقية غير تركية فى تركيا ما بعد الدولة العثمانية. ولذا، شكلوا تهديداً جدياً لوحدة الجمهورية التركية الجديدة القومية. وأدركت الإدارة التركية الجديدة بأن قطاعاً لا يُستهان به من الكرد يطمحون إلى تشكيل دولة مستقلة. وهنا، عمد الكماليون إلى عرقلة هذا التوجه الكردى القومى بداية ، ثم القضاء عليه وتحريم التفكير فيه ختاماً. ونفى الأتراك القوميون الزعماء العشائريين والمفكرين الكرد من دعاة القومية الكردية إلى غرب الأناضول، وتم حظر استخدام اللغة الكردية. وقد تمت هذه الإجراءات فى خط متواز مع رفض القادة الكرد الدينيين والعشائريين المحافظين لإلغاء الخلافة الإسلامية فى 24 مارس- آذار1924 وإبطال العمل بالشريعة الإسلامية.
وقد أسفرت هذه المتغيرات عن اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران التى تُعد علامة فارقة فى مسار النضال الكردى، ولجوء الكرد إلى القوة المسلحة للحصول على حقوقهم القومية. وقد بدأ الاستعداد لهذه الثورة بتأسيس “جمعية استقلال كردستان” ( آزادى) السرية فى أرضروم إبان مايو- آيار1923م برئاسة العقيد خالد بك جبرانلى. وقد تمكن جبرانلى من إقامة تعاون مع العديد من زعماء العشائر الكردية والضباط الكرد فى الجيش التركى علاوة على رجال الدين ذوى النفوذ لاسيما الشيخ سعيد بيران صاحب النفوذ الواسع فى كردستان الشمالية (التركية). ونجح يوسف ضياء فى الاتفاق مع الشيخ سعيد على تبادل المعلومات وتنسيق الإجراءات للقيام بثورة كردية.
ورغم سرية التحركات الكردية، فقد أفشت عشيرة خورميك الكردية بعض أسرارها. ولذا، اعتقلت القوات التركية يوسف ضياء وخالد بك جبرانلى تمهيداً لمحاكمتهما عسكرياً فى بيتليس مع غيرهم من القيادات الكردية الوطنية. وحل الشيخ سعيد محل العقيد خالد فى رئاسة آزادى التى انتوت القيام بثورة وإطلاق سراح جميع القادة الكرد المعتقلين. وفى نوفمبر– تشرين الثانى 1924م، قررت آزادى بدء انتفاضتها فى كردستان- التركية فى نوروز ( رأس السنة الكردية) 1925؛ أى 21 مارس- آذار 1925م. وتنقل على رضا ابن الشيخ سعيد بين أماكن متعددة لمناقشة خطط الثورة ومعوقاتها المحتملة لاسيما الخلاف بين الكرد السنة والعلويين الرافضين المشاركة فى الثورة باعتبارها ” ثورة سنية”. وعبثاً، حاول الشيخ سعيد إقناع العشائر العلوية الاشتراك فى الحراك الكردى ضد جمهورية تركيا الجديدة.
اندلاع الثورة
وفى 8 فبراير- آب 1925م، اندلعت صدامات مسلحة بين أنصار الشيخ سعيد فى بلدته بيران وبين قوات الشرطة التركية التى طالبت الشيخ بتسليم بعض الكرد المحتمين به. وعندما طلب الشيخ عدم اعتقالهم “احتراماً له” ، رفض الضابط التركى مؤكداً عدم احترامه إلا لقوانين الجمهورية التركية مما أدى إلى حدوث اشتباكات أسفرت عن اعتقال الضابط ومقتل بعض الجنود الأتراك. وبذا، انفجرت الثورة مبكراً عن موعدها بحوالى أربعين يوماً.
وبعد واقعة بيران، تصاعدت وتيرة الأحداث بسرعة، وتعالت نداءات الشيخ سعيد مطالبة بالثورة وبدعم الكرد القوميين ابتغاء نُصرة الدين واستعادة الخلافة التى كانت لاتزال ماثلة حية فى وجدان الجماهير. وبعد فترة وجيزة، انتشرت الثورة فى “14” ولاية بشرق تركيا؛ كردستان الشمالية، وسيطر الثوار على عدد من المدن الرئيسية، ونجحوا فى احتلال آمد-دياربكر وأرغانة ومالاطيا وغيرها. واتخذ الشيخ سعيد مدينة كينج عاصمة مؤقتة لكردستان، وتحّول كل كردى إلى ” مجاهد فى سبيل الله”، وامتلك الشيخ سعيد كل السلطات الدينية والدنيوية، وأُرسلت جميع الضرائب والأسرى إلى كينج. ولاريب أن خبرة الثوار القتالية فى المناطق الجبلية الوعرة قد يسرت لهم الانتشار، وعرقلت العمليات العسكرية للقوات التركية. وفى الولايات الشرقية، فاقت أعداد الكرد “600” ألف ثلاثة أضعاف أعداد الأتراك، وتعاطف مع الثوار حوالى “100” ألف من الجراكسة والعرب والأرمن وممثلى الطوائف الآشورية وغيرها. لهذا، نجحت ثورة الشيخ سعيد فى مراحلها الأولى، وشملت نيرانها كل كردستان، وهددت الولايات الشرقية حتى كاد عرش تركيا يهتز.
وجدير بالذكر أن التفوق الكردى لم يكن نتيجة هجوم منظم لقوات نظامية، بل فصائل عشائرية قادها شيوخ الدين وزعماء العشائر والضباط المستقلين من الجيش التركى. ورغم هذا، تفوق الثوار الكرد عسكرياً منذ اندلاع الثورة فى 8 فبراير– شباط وحتى 3 مارس– آذار 1925م عندما تقلد عصمت إينونو رئاسة الوزراء التركية. ورغم أن الشيخ سعيد ركز فى دعاياته على الإسلام السنى والخلافة الملغاة، فقد اهتم بقية القادة الكرد برغبتهم فى تشكيل دولة كردية مستقلة بعد السيطرة على آمد- دياربكر.
وقد أدرك الشيخ سعيد بأن قواته غير كافية لتحرير آمد- دياربكر. ولذا، أجرى مفاوضات لتسليمها دون قتال مع سلطاتها التركية، وفى نفس الوقت، كسباً للوقت وإتاحة الفرصة أمام كرد المدينة للقيام بثورة. وعندما رفضت القيادة التركية تسليم المدينة، اشتبكت الفصائل الكردية الضعيفة مع القوات التركية المتفوقة فى معارك ضارية وغير متكافئة أسفرت عن استشهاد ” 150″ كردى، وتشتت الباقون عبر الجبال وفى الغابات. وبدأت أوضاع الثوار تزداد سوءاً من يوم لآخر بعد أن حاصرهم أربعين ألف جندى من الشمال وثلاثين ألف جندى من الجنوب. وفى 26 مارس-آذار 1925م، شنت القوات التركية المسلحة النظامية هجوماً على مناطق آمد- دياربكر وفارتو ومعمورة العزيز، وطوقت الثوار من جميع الجهات للحيلولة دون ارتدادهم إلى العراق وسورية وإيران. وقد انقلبت كفة القتال لصالح القوات التركية بعد انتشار الفوضى والنهب، واندلاع الخلافات بين زعماء العشائر الكردية وتواطؤ جزء منهم مع أنقرة وبالأخص عشيرة خورميك فى خط متواز مع تكثيف الجهود التركية لخنق الثورة التى أساءت أنقرة تقدير حجمها ومداها منذ اندلاعها وتصنيفها بحركة قطاع طرق ورجعيين.
تكريس استراتيجيات القمع والإنكـار
وجدير بالتسجيل أن الرأى العام التركى والإقليمى والدولى قد أولى اهتماماً ملحوظاً بثورة الشيخ سعيد بيران. وقد سعت أنقرة إلى استئصال شأفة هذه الثورة حتى لا تخرج كردستان من زمام سلطتها، وانتشار هذه الحمى من الكرد إلى بقايا الأرمن، وكذلك العشائر الكردية الجانحة إلى الانفصال عن تركيا لاسيما بعد إثارة مشكلة الموصل. وأمام هذه التحديات، كّلف مصطفى كمال رفيقه المقرب جداً عصمت إينونو لتشكيل وزارة عسكرية صارمة فى 3 مارس – آذار 1925م. وقد اتخذت الوزارة إجراءات أقسى وأشد من إجراءات سابقتها بعد أن حظيت بسلطات واسعة لتحرير كردستان من أياد الثوار الكرد وفقاً لقوانين حفظ الأمن الجديدة التى أقرها البرلمان التركى وتأسيس محكمتين للاستقلال ذات صلاحيات مطلقة أولاهما فى أنقرة وثانيتهما فى آمد- دياربكر. وقد وافقت السلطة المركزية بأنقرة فى 31 مارس-آذار 1925م على تنفيذ أحكام الإعدام فى منطقة الانتفاضة بعد التصديق عليها فقط من الحاكم العسكرى للمنطقة.
ومنذ مطلع أبريل- نيسان 1925م، دشنت تركيا الكمالية القومية المتطرفة إستراتيجيتها السافرة إزاء المسألة الكردية وقوامها: القمع الدموى الوحشى للثورة، تجريد الكرد جميعاً من السلاح، توزيع الكرد إلى مناطق بعيدة وإحلال الأتراك محلهم بحيث لا تكون لهم الأكثرية. وقد استخدمت أنقرة وسائل القمع الوحشى وشراء الضمائر للقبض على الشيخ سعيد رأس الحركة الكردية مما يُؤدى إلى دحرها. ومنذ 8 أبريل- نيسان 1925م، اندلعت اشتباكات عنيفة ، أسفرت عن أسر الشيخ سعيد فى 21 أبريل– نيسان مع “34” من أبرز رفاقه، وألقى الباقون سلاحهم. وقد صاحبت عملية قمع الثورة وفى أعقابها سلسلة من المحاكمات الميدانية والترحيلات الجماعية والإجراءات العقابية الجماعية القاسية بغية كسر روح المقاومة الكردية واستئصال آخر آثار معارضة الحكم التركى.
وفيما يخص الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن قمع ثورة الشيخ سعيد، فثمة تباين فى عدد القتلى والجرحى والمرحلين والديار والقرى المدمرة. ففى صفوف المدنيين الكرد وممتلكاتهم ، تم تدمير “206” قرية وحرق “8758” منزل وقتل “15206” من الشيوخ والنساء والأطفال. وبين عامّى 1925-1928م، تم ترحيل “500” ألف كردى إلى غرب الأناضول، مات منهم حوالى “200” ألف كردى أثناء مسيرات الترحيل القسرية. وفى ميادين القتال، تكبد “2400” كردى بين قتيل وجريح. وأنفقت السلطات التركية “60” مليون ليرة تركية على عمليات قمع ثورة الشيخ سعيد.
الكردية خيانة عظمى
وعقب إخماد الثورة ، عقدت ” محاكم الاستقلال” سلسلة من المحاكمات بدأت فى آمد- دياربكر يوم 27 مايو-آيار واستمرت حتى 28 يونية-حزيران 1925م. ومن المفارقات، سيّس النائب العام التركى الاتهامات بما يُخالف وقائع الجغرافيا وحقائق التاريخ: ” إن أسباب وأصول الثورة الأخيرة التى اندلعت فى الأقاليم الشرقية من أرض الآباء والأجداد التركية الأبدية لا تختلف بشئ عن تلك التى حدثت فى ماضى ليس ببعيد وأدت إلى نشوء البوسنة والهرسك… الفكرة والهدف من وراء الثورة الكردية هما الفكرة ذاتها والهدف ذاته اللذان أفسدا سورية وفلسطين”. وفى ختام لائحة الاتهام، أوجز رئيس المحكمة قائلاً: ” بعضكم أغرته دوافع الأنا الشخصية، وبعضكم الآخر النصيحة الأجنبية ونوازع الغيرة السياسية ، لكنكم جميعاً بدأتم الثورة بدافع إنشاء دولة كردية مستقلة. على منصة الإعدام ستدفعون ثمن البيوت المدمرة وأنهار الدماء التى أرقتموها”. وفى ختام المحاكمات، يوم 28 يونية- حزيران تم إعدام الشيخ سعيد مع “53” قائداً كردياً.
ويُلاحظ أن الإعدامات طالت من أسهموا فى إعداد ثورة 1925م من قبيل الضباط الكرد الذين خدموا فى الجيش العثمانى والشيوخ مالكى الأراضى والأعضاء السابقين فى مجلس مبعوثان السلطان ونواب المجلس الوطنى التركى الكبير وتجار وصحفيين وحقوقيين ومعلمين وغيرهم من ممثلى المثقفين الكرد الناشئين. ولاريب أن هؤلاء جميعاً قد توحدوا على فكرة النضال فى سبيل التحرر الكردى من النير التركى. وقد تركت ثورة 1925م أثراً عميقاً فى تاريخ الشعب التركى مما انعكس بوضوح فى الثقافة الكردية.
ورغم الانتقادات التى وجُهت إلى ثورة الشيخ سعيد عام 1925م، فإنها تُعد من أكبر الانتفاضات الكردية الشعبية التحررية العامة. ولم تكن صناعة غربية، وعلى النقيض استثمرتها بريطانيا وفرنسا وروسيا السوفيتية للتقارب مع نظام الجمهورية التركية الجديد وحل المشاكل العالقة من قبيل الموصل.
ورغم القمع الوحشى والدموى والإبادى لثورة الكرد عام 1925م، فإن فكرة الثورة والمقاومة وحُلم كردستان مستقلة لم تمت. وبعد عامين، وتحديداً فى أغسطس – آب 1927م، وُلدت منظمة خويبون التى نظمت وقادت حركة التحرر الكردى: ثورة أغرى داغ 1927-1930م لتبدأ حلقة جديدة مهمة فى تاريخ النضال الكردى. وكما بلورها المفكر والمناضل أوجلان: ” وسيكتسب خط الشيخ سعيد معناه الحقيقي عندما يقترن بنموذج الأمة الديمقراطية في الوقت الراهن”.
مصادرة الدراسة
- باسيلي نيكيتين:الكرد، دار الساقي، بيروت، 2001م.
- بله ج شيركو: القضية الكردية، القاهرة، 1930م.
- جليلي جليل وآخرون: الحركة الكردية في العصر الحديث، بيروت، 2013م.
- كمال مظهر أحمد: كردستان في الحرب العالمية الأولى، بيروت، 1984م
- ……………..: انتفاضة 1925م في كردستان، بيروت، 2001م.
- عبد الله أوجلان: مانيفيستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية، المجلد الخامس، الطبعة الثالثة، القاهرة، 2017م.
- م. س. لازاريف: المسألة الكردية 1917 – 1923، بيروت، 1981م
- وديع جويدة: الحركة القومية الكردية، بيروت، 2013م.
- روبرت أولسون: تاريخ الكفاح القومي الكردي، بيروت، 2013.
10- غنثر ديشنر: الكرد شعب بدون دولة .. تاريخ وأمل، بيروت، 2014م.