دراسات

تقويض الدبلوماسية التقليدية:الحرب في زمن السوشيال ميديا

تحليل: د. أحمدفتحي .. يمثل استخدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً منصة “تروث سوشيال” خلال الصراع الأخير بين إسرائيل وإيران، سابقة تاريخية في كيفية تفاعل القادة السياسيين مع الأحداث الجيوسياسية الحساسة، ففي حين أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من المشهد السياسي الحديث، لم يسبق لأي زعيم سياسي أن استخدمها بهذا الشكل المباشر وغير التقليدي للتأثير على مسار نزاع دولي.

وتسعى تلك الورقة البحثية إلى تحليل عميق لاستخدام ترامب لتروث سوشيال خلال تلك الفترة الحرجة، مع التركيز على طبيعة منشوراته، وتأثيرها المحتمل على الديناميكيات الدبلوماسية، وكيف يختلف هذا النهج عن الممارسات الدبلوماسية التقليدية، كما ستتضمن الورقة تحليلاً شاملًا لمنشورات ترامب على تروث سوشيال خلال الصراع.


الاستخدام غير المسبوق

لطالما كانت وسائل التواصل الاجتماعي أداة للقادة السياسيين للتواصل مع جماهيرهم، لكن استخدام دونالد ترامب لها يمثل خروجاً جذريًا عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية، ففي حين يستخدم الرؤساء السابقون وسائل الإعلام بحذر، مع التركيز على الرسائل المنسقة والبروتوكولات الدبلوماسية، اتسم نهج ترامب بالصراحة والمباشرة، وغالبًا ما كان يستخدم الأحرف الكبيرة واللغة الحادة، ذلك النهج الذي كان سمة مميزة لحملاته الانتخابية وفترة رئاسته الأولى، حيث جعل من الأمر عادة يومية امتدت لأكثر من عقد، مستخدمًا إيها في رسم السياسات، وإثارة الجدل، وجذب انتباه العالم، كل ذلك من هاتفه المحمول، لكن نشاطه الحالي على المنصات الاجتماعية يفوق حتى أكثر أيامه إثارة للجدل خلال فترة رئاسته الأولى، إذ تظهر البيانات أنه غرد 14 مرة في أكثر أيامه نشاطًا على تويتر في أوائل عام 2017، وهو رقم لا يوازي شيئًا مقارنة بـ138 منشورًا أطلقها عبر حسابه على تروث سوشيال في يوم واحد خلال شهر مارس الماضي، واكتسب الأمر بعدًا جديدًا خلال الصراع بين إسرائيل وإيران.

ويعد التخطيط العسكري في المواجهات مسألة دقيقة، قد تتطلب سنوات من التفكير الاستراتيجي والعديد من طبقات الخبرة، حيث يعمل القادة العسكريون المخضرمون على وضع سيناريوهات دقيقة لضرب الأهداف وتحقيق الغايات دون أن تخرج الصراعات عن السيطرة، لكن ترامب ابتكر طريقة أخرى لإدارة الحروب وممارسة ما يرافقها من سياسات الدولة: أن تنشر كل شيء ببساطة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتؤكد أدريان واتسون، المتحدثة السابقة باسم مجلس الأمن القومي، أن أي تعليق يصدر عن رئيس الولايات المتحدة بشأن الأمن القومي الأمريكي يتم تفسيره على أنه سياسة رسمية، بغض النظر عن الشكل الذي اتخذته الرسالة، ليسلط الضوء على المخاطر الكامنة في الدبلوماسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يمكن أن تؤدي الرسائل غير المنسقة إلى سوء تفسير أو سوء تقدير، مما يعرض العلاقات الدولية للخطر، ومع ذلك، يرى مؤيدو ترامب أن أسلوبه المباشر يساعد في توضيح رسالته وموقفه لجميع الأطراف المعنية، ويضع ضغطاً إضافياً على إسرائيل وإيران للامتثال لمطالب الولايات المتحدة.

وأشار كينيث وينشتاين من معهد هدسون إلى أن استراتيجية ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي تهدف إلى “إلغاء الوسيط”، حيث لا يثق بالبيروقراطية في نقل رسائله، ويفضل إيصالها مباشرة وبصراحة وفي الوقت الفعلي، وهذا يضمن أن الرسالة تأتي منه مباشرة، مما يزيل أي شكوك حول نواياه، بينما يحمل هذا النهج مخاطر خاصة عند التعامل مع مسائل دبلوماسية دقيقة بمصطلحات مطلقة، مثل الحديث عن “تدمير كامل” للمواقع النووية أو “وقف إطلاق نار دائم” كما في حالة الصراع بين إسرائيل وإيران.

وتشير الدراسات الإعلامية إلى أن القادة حول العالم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي بشكل متزايد، خاصة خلال فترات الاضطرابات الاجتماعية، لتحويل الانتباه من القضايا الداخلية إلى قضايا السياسة الخارجية، مما يتوافق مع نظرية التحويل، حيث يسعى القادة إلى صرف انتباه الجمهور عن المشاكل المحلية عندما يكون موقفهم مهددًا، وقد أظهرت دراسة[1] أجريت على استخدام القادة لوسائل التواصل الاجتماعي أنهم يزيدون من نشاطهم على هذه المنصات ويغيرون الموضوعات التي يتناولونها خلال فترات الاضطرابات.

وفي سياق الصراع الإسرائيلي الإيراني، استخدم ترامب تروث سوشيال ليس فقط للإعلان عن الأحداث، بل أيضاً للتعبير عن آرائه وتوجيه الأوامر والتحذيرات، وحتى الدفاع عن حلفائه، وهذا الاستخدام المكثف وغير المفلتر لوسائل التواصل الاجتماعي يمثل تحولاً كبيراً في ممارسة الدبلوماسية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل العلاقات الدولية في العصر الرقمي.

تحليل استخدام ترامب لتروث سوشيال خلال صراع إسرائيل وإيران

خلال الصراع الأخير بين إسرائيل وإيران، تحولت منصة تروث سوشيال إلى ساحة رئيسية لنشاط دونالد ترامب الدبلوماسي، حيث استخدمها للإعلان عن الأحداث، والتعبير عن مواقفه، وحتى توجيه الأوامر والتحذيرات. يمكن تقسيم تحليله إلى عدة جوانب:

الإعلان عن العمليات العسكرية والنتائج

كان ترامب سباقاً في الإعلان عن الضربات الجوية الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية، بل وقدم تفاصيل حولها على تروث سوشيال. ففي 22 يونيو 2025، بعد الضربات، نشر ترامب “لقد أكملنا هجومنا الناجح جداً على المواقع النووية الثلاثة في إيران، بما في ذلك فوردو ونطنز وأصفهان. جميع الطائرات الآن خارج المجال الجوي الإيراني. تم إسقاط حمولة كاملة من القنابل على الموقع الرئيسي، فوردو. جميع الطائرات في طريقها إلى الوطن بأمان. تهانينا لمحاربينا الأمريكيين العظماء. لا يوجد جيش آخر في العالم يمكنه فعل ذلك. الآن هو وقت السلام! شكراً لاهتمامكم بهذا الأمر”

في المنشور الأول، حاول وضع حد لحرب – ظل مستشاروه طيلة عطلة نهاية الأسبوع يؤكدون أنها ليست حربًا فعلية مع إيران – وذلك من خلال دعوة العدو علنًا للانضمام إليه في إنهائها، وفي المنشور الثاني، أعلن أن السلام قد تحقق بالفعل (كما أطلق اسمًا على الحرب، حرب “12 يوم”).

هذا الإعلان المباشر، الذي جاء قبل التقارير الرسمية، أثار دهشة حتى بين المسؤولين الأمريكيين، حيث علم بعضهم بالضربات لأول مرة من خلال منشورات ترامب، ليتجاوز ترامب القنوات التقليدية لنشر المعلومات، مفضلاً المباشرة والسرعة التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي.

فرض وقف إطلاق النار

كان إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران على تروث سوشيال في 23 يونيو 2025 لحظة فارقة. فقد كتب “تهانينا للجميع! لقد تم الاتفاق بالكامل بين إسرائيل وإيران على وقف إطلاق نار كامل وشامل (في غضون 6 ساعات تقريباً من الآن، عندما تكون إسرائيل وإيران قد أنهتا مهامهما الجارية والنهائية!)، لمدة 12 ساعة، وعند هذه النقطة ستعتبر الحرب قد انتهت”، لكن في الواقع، لا يوجد ما يضمن أن المعركة قد انتهت هنا، لا يمكن إنهاء حرب بمجرد التمني بذلك، فشعار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن “المهمة أنجزت”، في سياق حرب العراق، لا يزال شاهدًا على خطورة مثل هذا الوهم.

ومع ذلك، لم يدم هذا الهدوء طويلًا، فبعد ساعات قليلة، استأنفت إسرائيل هجماتها، مما دفع ترامب إلى التعبير عن إحباطه وغضبه على تروث سوشيال. في 24 يونيو 2025، نشر “إسرائيل لا تسقطوا تلك القنابل أعيدوا طياريكم إلى الوطن، الآن!”. كما صرح للصحفيين بأنه “غير سعيد” بإسرائيل، مشيراً إلى أن كلا البلدين “لا يعرفان ما يفعلانه”، مما يبرز استخدام ترامب المنصة ليس فقط للإعلان عن السياسات، بل أيضاً للتعبير عن مشاعره الشخصية ومحاولة التأثير على سلوك الدول في الوقت الفعلي.

وأصر ترامب على أن الضربات التي استهدفت ثلاثة مواقع نووية إيرانية كانت “هائلة”، وروج لادعاء بأن منشأة “فوردو” النووية الحساسة قد “تم تدميرها”، رغم أن التقديرات الأولية الأمريكية والإسرائيلية كانت أكثر تحفظًا وبحساسية تجاه التداعيات السياسية لأي ارتفاع محتمل في أسعار النفط، حث “الجميع” على الإبقاء عليها منخفضة، واقترح أن تقوم وزارة الطاقة بـ”الحفر فورًا”، رغم أن هذه ليست من مهامها المباشرة، بل وأثار قلق قاعدته الانعزالية عندما تحدّث صراحة عن فكرة السعي لتغيير النظام في طهران.

التشكيك في الإعلام التقليدي

لم يقتصر استخدام ترامب لتروث سوشيال على الصراع المباشر، بل امتد ليشمل الدفاع عن حلفائه وتحدي الروايات الرسمية. فقد دافع عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضد تهم الفساد، واصفاً إياها بأنها “حملة مطاردة ساحرات”، ومؤكداً أن الولايات المتحدة “ستنقذ بيبي نتنياهو”، كما تحدى ترامب تقارير الاستخبارات الأمريكية التي كشفت عنها CNN وقللت من شأن الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية الإيرانية، مؤكداً أن الضربات “دمرت” قدرة إيران النووية، مما يوضح استخدام ترامب تروث سوشيال لتشكيل الرأي العام، وتوجيه السرد، وحتى تقويض مصداقية المؤسسات الرسمية عندما تتعارض تقاريرها مع روايته.

منصة ترامب تجارة حرب

كانت منصة تروث سوشيال فكرة انطلقت من أزمة، بعدما تم حظر دونالد ترامب من تويتر وفيسبوك إثر أحداث “اقتحام الكابيتول” حين اقتحم أنصار دونالد ترامب مبني بعد تحريض من ترامب عقب خسارته في الانتخابات الرئاسية في 2020 أمام جو بايدن، ليؤسس ترامب المنصة لتكون أداته الإعلامية المطلقة، لكن سرعان ما تحولت المنصة، تحت مظلة شركة Trump Media & Technology Group (TMTG)، إلى مشروع له بعد سياسي واستثماري، تخللته انطلاقة محفوفة بالتحديات، وخطط توسع مالي كبيرة، وصولًا إلى غرفة عمليات لإدارة الصراعات بعد الفوز الرئاسي الثاني لترامب، وتقدر حصة ترامب في الشركة الأم للمنصة بأكثر من 2 مليار دولار.

بعد دخول ترامب رئاسيًا في 2025، حاولت المنصة الاستفادة من الزخم السياسي عبر إطلاق خطط تطور شاملة تشمل تروث+ كخدمة بث، وTruth.Fi كمنصة مالية، ويعد الإعلان عن الضربة الأمريكية على المنشئات النووية الإيرانية نقطة تحول لمنصة تروث، حيث رصد موقع “داون ديتيكتور”، المتخصص في تتبع الأعطال الرقمية، ارتفاعًا في البلاغات حول تعطل تروث سوشيال بسبب حجم الضغط العالمي على المنصة لمتابعة تفاصيل نشر ترامب لتفاصيل الضربة الأمريكية، وهو الأمر الذي استلغته الشركة المالكة للمنصة لإعلان خطة لإعادة شراء أسهم بقيمة 400 مليون دولار، قبل أن ترتفع أسهم الشركة في البورصة الأمريكية نتيجة مواصلة ترامب لنشر تفاصيل تتعلق بمستقبل الصراع مع إيران لتتحول تروث سوشيال إلى مشروع متعدد المحاور منصة تواصل اجتماعي، بث رقمي، خدمات مالية، وخزينة بيتكوين، تعتمد على ممارسات الرئيس ترامب على حسابه الشخصي بالمنصة باعتباره المصدر الرسمي الأبرز للمعلومات بالولايات المتحدة.

آثار مستقبلية على الدبلوماسية السياسية

إن استخدام ترامب لتروث سوشيال خلال صراع إسرائيل وإيران يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل الدبلوماسية والعلاقات الدولية في العصر الرقمي، يمكن تلخيص الآثار الرئيسية فيما يلي:

تقويض الدبلوماسية التقليدية

لقد أدى نهج ترامب المباشر وغير المفلتر على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تقويض القنوات الدبلوماسية التقليدية. فبدلاً من الاعتماد على البيانات الرسمية، والمفاوضات السرية، والبيانات الصحفية المنسقة، فضل ترامب الإعلان عن السياسات والنتائج عبر منشورات قصيرة ومباشرة، ليقلل من دور الدبلوماسيين والمؤسسات الدبلوماسية، ويجعل عملية صنع القرار أكثر عرضة للتقلبات الشخصية والردود الفورية.

تحدي مفهوم “الدبلوماسية الهادئة”

لطالما كانت الدبلوماسية الهادئة، التي تعتمد على المفاوضات السرية والحلول الوسط، هي السائدة في العلاقات الدولية، ومع ذلك، فإن نهج ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي يتحدى هذا المفهوم، مفضلاً الشفافية المفرطة والمواجهة العلنية، وهذا يمكن أن يغير طبيعة المفاوضات الدولية، ويجعلها أكثر علنية وتأثرًا بالرأي العام.

زيادة عدم اليقين والمخاطر

إن استخدام لغة مطلقة وعاطفية في مسائل دبلوماسية حساسة يزيد من عدم اليقين والمخاطر، فعندما يعلن رئيس دولة عن وقف إطلاق نار قبل تأكيده من الأطراف المعنية، أو يهدد بردود فعل “لم يسبق لها مثيل”، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى سوء فهم وتصعيد غير مقصود، وقد أظهرت الدراسات الاكاديمية أن الرسائل السياسية غير المنسقة يمكن أن تؤدي إلى سوء تفسير أو سوء تقدير، مما يعرض العلاقات الدولية للخطر.

التأثير على الرأي العام

تسمح وسائل التواصل الاجتماعي للقادة بالتواصل مباشرة مع جماهيرهم، متجاوزين وسائل الإعلام التقليدية. هذا يمكن أن يكون فعالاً في حشد الدعم المحلي، ولكن يمكن أن يؤدي أيضاً إلى تضليل الرأي العام الدولي أو إثارة ردود فعل سلبية، فمنشورات ترامب، التي كانت موجهة في المقام الأول إلى قاعدته الانتخابية، كان لها صدى عالمي، مما أثر على تصورات الدول الأخرى للسياسة الخارجية الأمريكية.

التواصل الاجتماعي كأداة للضغط

استخدم ترامب تروث سوشيال كأداة للضغط على الأطراف المعنية، فمن خلال التهديدات العلنية والتحذيرات المباشرة، حاول ترامب إجبار إسرائيل وإيران على الامتثال لمطالبه، هذا النهج، وإن كان غير تقليدي، قد يكون فعالاً في بعض الحالات، ولكنه يحمل أيضاً مخاطر التصعيد وعدم الاستقرار.


[1] Barberá, P., Gohdes, A. R., Iakhnis, E., & Zeitzoff, T. (2022, May 22). Distract and Divert: How World Leaders Use Social Media During Contentious Politics. SAGE Journals. https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/19401612221102030

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى