دراسات

أهمية الشرق الأوسط والتغيرات الجيوسياسية عالميًا .. بالتنافس على ممرات الطاقة والتجارة

تحليل: الدكتور رائد المصري / أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية


توطئة

تحاط المناطق الإستراتيجية غالباً بإهتمامٍ كبيرٍ في مناطق مختلفة حول العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، الواقعة في قلب العالم، والتي تحتوي على موارد غنية من أهمها مصادر الطاقة مثل النفط، والغاز الطبيعي، وغيرها من خيرات، بالإضافة إلى أهميتها الحضارية والدينية والإستراتيجية، كانت قبلة ومحطَّ أنظار القوى التي تحكم العالم عبر التاريخ والعصور، ومع ظهور النظام العالمي الجديد 1990، وتبعات الأحادية القطبية، إزدادت أهمية الشرق الأوسط، خاصة في هذه المرحلة بعد أحداث 11 سبتمبر وبدايات الربيع العربي، نظرًا لعودة روسيا إلى ميدان الصراع في سوريا وإنكفائها بعد سقوط النظام، فأثَّرت على ميزان القوى بالمنطقة بصفة خاصة وفي المنطقة بصفة عامة، وأصبحت التفاهات الدولية بين روسيا وأمريكا، هي المهيمنة على الصراع وتؤطره بما يخدم مصالحهما، بعيداً عن أي إعتبارات ومصالح للشعوب.

ومع تزايد إهتمام دول الخليج لدور الصين في الشرق الأوسط، خاصة بعد إحتضان السعودية للقمم الصينية، التي أنتجت التعاون الإقتصادي معها، وإتمام الإتفاق مع إيران، ضمن متغيرات كان من شأنها دعم الشرق الأوسط للتمتع بأكبر قدر من الإستقلالية والتأثير الإقليمي، بسبب تعدُّد الكثير من الخيارات ومروحة أكثر للتحالفات مع عدد من الشركاء الإستراتيجيين الفاعلين.

ويبدو أن الشركاء التجاريين الرئيسين بالعالم، باتوا في حمى تنافس متصاعد، للحفاظ على مصالحهم الإقتصادية والسياسية، وعدم ترك إدارة الإقتصاد العالمي لطرف دون آخر، حيث يتصاعد التنافس على إيجاد ممرات تجارية عابرة للحدود، تتركز فضاءاتها في الأطراف التي تقع في حساباتهم الإستراتيجية الحالية والمستقبلية، أو ما يمكن أن نطلق على تلك المنافسة الدولية الجديدة تسميتها بــ”حرب الممرات التجارية”، وقد بدأتها الصين بمبادرتها الحزام_الطريق، عام 2013، وخطُّطت أن يكون أحد تلك الممرات لهذه المبادرة عبر دول الشرق الأوسط، وبدأت بالتنفيذ بخطىً متسارعة، ثم طرحت الولايات المتحدة الأميركية بعد عشر سنوات، إنشاء ممر إقتصادي لتعزيز الإتصال والتكامل الإقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا، ينطلق من ميناء موندرا في الهند إلى ميناء الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة، ومن ثم ربط لسكك الحديد إلى السعودية والأردن، ثم إلى ميناء حيفا في فلسطين.

يهدف هذا البحث هنا، من أجل الوقوف على أهداف أهمية التغيرات في إقليم الشرق الأوسط وخاصة بعد إندلاع الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، ومحاولة تصفية الحساب بين هاتين الدولتين، وتوسيع دائرة النفوذ بالمنطقة، بمواجهة بعيدة عن إستخدام الوكلاء والاذرع العسكرية، في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق واليمن، وكذلك محاولة السيطرة على الممرات التجارية العابرة للحدود، التي هي ركيزة وجوهر الصراع الإقتصادي والتجاري بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، لغرض التحكُّم في سلاسل التوريد العالمية من جهة، ومحاولات الولايات المتحدة الأميركية إعتماد الهند شريكًا تجارياً، يمكن أن يكون منافساً للصين من جهة أخرى، إلى جانب شركائها الإستراتيجيين في الخليج العربي.

 على أنه وفي ظل التحوُّلات الدولية المتلاحقة، وهو ما أثَّر في إعادة ترتيب القوى في النظام الدولي والمحاور الإقليمية والدولية المهيمنة، برزت ديناميكيات جديدة في التفاعلات الدولية، وفي تحوُّل القوى وأوضاع الدول، في مشتركات تتركَّز على أن معايير قوة ومكانة الدول، وديناميكية سياستها الخارجية، تعتمد بشكل كبير على مفاهيم وأدوات القوة، مثل الموقع الجغرافي للدولة، ومزاياها الجيوسياسية بالنسبة لخريطة المحاور والممرات التجارية العالمية، التي تحوِّل الحركة الإقتصادية والتجارة البحرية في العالم وتأثيراتها المحتملة، على مكانة ووزن الدول من خلال موقعها في ممرات تجارية إستراتيجية.

إن التنوُّع الذي تتمتَّع به منطقة جنوب آسيا وغربها في إقليم الشرق الأوسط، يوفِّر الفرص الهائلة والمزايا الكبيرة للتجارة والإستثمار والنمو الإقتصادي، كما يظهر النجاح الملحوظ الذي حقَّقته المنطقة في العقود الأخيرة، بعد أن إزدهرت إقتصاداتها وأصبحت أكثر تشبيكاً مع بعضها البعض وحول العالم، وتلعب منطقة جنوب آسيا وغربها، بشكل عام وإقتصادها الأكبر كالصين والهند خصوصاً، دوراً متزايد الأهمية في الإقتصاد العالمي، وإن البنية الأساسية الإقليمية الجيدة والتخطيط، يؤدي حتماً إلى خفض تكاليف التجارة، ويشجِّع أيضاً على إعادة الهيكلة الصناعية لتحقيق الكفاءة، ومن ناحية تهدف الممرات الإقتصادية إلى سد فجوات البنية التحتية الإقليمية، التي تتفاوت بين دولة إلى أخرى، ومن ناحية أخرى تعمل على تعزيز التنمية الإجتماعية والإقتصادية لتخفيف الأعباء عن الفقراء، فهي عامل مساعد على زيادة التدفقات التجارية وتراكم رؤوس الأموال، وتخلق فرص العمل بالحد من الفقر، وقد أدَّى النمو الإقتصادي المستدام، إلى زيادة الطلب على خدمات النقل، لذا أصبحت شبكات النقل الفعالة ذات أهمية كبيرة للتعاون الإقليمي، مع تخفيف الحواجز الجمركية بشكل عام، كذلك فإنَّ تحسين البنية التحتية من خلال الممرات الإقتصادية، قد شجع شبكات الإنتاج عبر جنوب وغرب آسيا، وعزَّز التجارة الإقليمية والعالمية، وحقق التكامل الإقتصادي نسبياً في المنطقة.

التنافس على الريادة

عمليات التنافس والصراع على الشرق الأوسط هي معضلات جدلية منذ القدم، مرَّت بها المنطقة عبر كل العصور، وهو يعني أن هذه المنطقة ستبقى محطَّ أنظار كل القوى الدولية بأبعادها ومصالحها، نظراً لأهميتها وخيراتها ومواردها وثرواتها الطبيعية، فطبيعة التفاعلات الدولية الجديدة، أفرزت أنماط مختلفة لبواعث التهديد والإضطراب، ممَّا يفسر حالة إنتقال محور القوة، بسبب ما لحق به من تطورات تكنولوجية جديدة، جعلت العالم قرية صغيرة يُصعب التحكم في الكثير من القضايا.

هنا يقول المفكر والمناضل الأممي “عبدالله أوجالان” بمعرض حديثه في مانيفستو الحضارة الديمقراطية، بأن الواقع الجديد، جعل إعادة التفكير بمنزلة إسرائيل في المنطقة أمراً ضرورياً، فيشير الى أننا بإستطاعتنا القول بكل يُسْر أن سياق إنشاء إسرائيل هو بمثابة مؤشر أولي على تصاعد الهيمنة الأنكلوساكسونية داخل المنطقة، حيث جرت هيكلة إسرائيل بصفتها القوة النواة للهيمنة الجديدة في المنطقة، بعد التدمير المتعمد للإمبراطورية العثمانية، أي أن ما تمثله هيمنة إنكلترا_أميركا بالنسبة الى العالم ، تقوم به إسرائيل بالنسبة الى الشرق الأوسط كقوة مهيمنة جديدة، وبتعبير آخر، فإن إسرائيل ليست مجرد دولة قومية يهودية صغرى، بل وهي قوة مهيمنة في الوقت عينه.(1)

إذن الأهمية الجيو_إسترتيجية للشرق الأوسط، برزت مع ظهور المصالح ومعها الأهمية الجيو_إقتصادية، حيث إن المنطقة التي تندرج ضمن مصطلح الشرق الأوسط، لا تزال غامضة الحدود، فهي تضيق وتتَّسع حسب الأولويات والمصالح الجيو_إقتصادية والجيوسياسية للقوى الكبرى، فمجموع الدول التي تندرج ضمن مصطلح الشرق الأوسط غير متجانسة الخصائص بوجود دول غير عربية كتركيا، وإسرائيل، وإيران، وغير إسلامية كالكيان الإسرائيلي، وقد ذهب البعض لإعتبار الشرق الأوسط كمصطلح يضم مجموعة من الدول، هو تعبير إستراتيجي إستعماري، يهدف إلى طمس الحقائق التاريخية والحضارية المرتبطة بالمنطقة، كما أنه يضيق ويتَّسع على خريطة العالم، وفق مصالح وأهداف الدول الاستعمارية التي لديها مصالح إستراتيجية في المنطقة، وهناك فجوة كبيرة في الثروات بين مختلف المناطق، التي تندرج ضمن مصطلح الشرق الأوسط، بل هناك عدم تجانس في الثروة حتى داخل المنطقة الواحدة، كشبه الجزيرة العربية مثلًا، وأيضًا تعاني دول الشرق الأوسط، من وجود أزمات وجودية، تشكِّل تحديات خطيرة لمستقبل الكثير من دول المنطقة، المهددة بالتفكُّك خاصة اليمن، وليبيا، وسوريا، وحتى العراق، إلى جانب مجموع الدول الأخرى التي عرفت أزمات سياسية أقل حدة.

هذا بالإضافة إلى تعدُّد المتنافسين على الشرق الأوسط، حيث لم تعدْ محل إهتمام أمريكي فقط، بل كعكة تثير شهية مختلف القوى، خاصة بعد إكتشاف كميات ضخمة من الغاز شرق المتوسط، ونتيجة سياسة الصين الإستثمارية التوسُّعية بإتجاه إحياء طريق الحرير، فقد حظيت منطقة الشرق الأوسط بالإهتمام الكبير لدى مخططي السياسة التركية، وبرزت تلك السياسة التي سلكتها أنقرة في التوجُّه نحو توظيف الموارد التركية وطاقاتها الإقتصادية، وفي بناء صرح سياسي إقليمي جديد، قائم على التعاون مع الدول الإقليمية، إذ ترغب تركيا بإستبدال التنافس التقليدي بين الأطراف القائمة على فرض الزعامة الإقليمية على الهيمنة، بنمط أكثر حداثة يمكن أن تصبح بموجبه تركيا أكثر أهمية، كما تمتلك إيران المقوِّمات الأساسية في أداء دور إقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وَفقًا لعدد من الأسس التي قامت عليها الإستراتيجية الإيرانية، المتمثلة في المصالح القومية الإيرانية، التي تستثمر المواقع الإستراتيجية والموارد الاقتصادية، كأدوات في الحفاظ على هذه المصالح، بما يمكِّنها من تعزيز  قوتها وتأثيرها الإقليمي، والذي يثبِّت السيطرة والتأثير على المعابر المائية في الخليج وفي فرض أيديولوجيتها.

كما تعتبر الأحداث التي إندلعت منذ العام 2011 ، نقطة تحول إستراتيجية فاصلة في تاريخ الشرق الأوسط في العصر الحديث، بما حملته من تغيُّرات وتحوُّلات كبرى، ما زالت تلقي بثقلها ووقائعها على الصعيد الدولي والإقليمي حتى الآن، بعد أن أعطى التنافس السياسي والأيديولوجي بين تركيا وإيران زخمًا أكبر، واليوم بين إيران وإسرائيل، فقد أدى سقوط الأنظمة في تونس، وليبيا، ومصر، بالإضافة إلى الإنتفاضات في سورية التي سقط نظامها المتحكِّم بمفاصل الدولة لستين عام، واليمن، إلى تقويض النظام السياسي في الشرق الأوسط؛ حيث سعت كل من تركيا وإيران إلى إستغلال النظام الجديد الناشئ في المنطقة خصوصاً في سوريا، لتحقيق مصالح لكل منهما في الشرق الأوسط، إلى حد توتُّر العلاقات بينها بسبب عدد من القضايا، لذا فإن النظرة بين أنقرة وطهران لتحولات المنطقة، كانت مختلفة بشكل تام، حيث سعى القادة الإيرانيون إلى تصويره بأنه صحوة إسلامية مستوحاة من الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، التي أطاحت بالشاه، بينما إعتبرت  أنقرة هذه التحولات، التعبير الأكثر رغبة للشعب من أجل نشر الديمقراطية وتحقيق الشفافية، وربما فرصة لتعزيز النفوذ الإقليمي لأنقرة.

أما عن توجُّهات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، في ظل الإدارة الديمقراطية لباراك أوباما والجمهورية لدونالد ترامب، فإن التغيُّر في السياسات الأمريكية في عهد أوباما إلى عهد ترامب، هو تغيُّر في الوسائل وليس في الأهداف، فلا يمكن فصل توجُّهات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، في ظل إدارة أوباما أو إدارة ترامب عن المبادرات الأمريكية السابقة، فإختلاف نهج إدارة ترامب عن نهج إدارة أوباما، لا يعني تغيُّر ثوابت السياسة الخارجية لدى أي إدارة، ولكن الاختلاف يكمن في طريقة إستعمال وسائل السياسة الخارجية، فمنهم من يرى أن الإدارة الأمريكية هي الأنجح، ومنهم من يرى أن الإدارة السياسية والدبلوماسية هي الأفضل.

إن السياسة الخارجية الأمريكية، هي محصلة تفاعل مجموعة من العوامل، قد ساهمت في رسم توجهاتها، حيث نجد أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد في ظل إدارتي الرئيس أوباما، والرئيس دونالد ترامب، لا تُعبر عن تصورات الرئيسَين للمنطقة فقط، وإنما هناك العديد من الإعتبارات التي تلعب دوراً في تحديد هذا التوجُه، التي من أهمها إلتزامات الإدارات السابقة، وهو ما وجدت إدارة الرئيس أوباما والرئيس ترامب نفسيهما مقيدتين، لإتخاذ إجراءات تتلاءم والإلتزامات المفروضة عليهما.

فبالنسبة لسياسة الرئيس أوباما وجو بايدن في الشرق الأوسط، فهي تميَّزت بالتذبذب والتردُّد، وكانت غير حاسمة في الكثير من القضايا الخارجية، وهذا بدوره نتيجة الإرث المُثقَل بالأزمات التي ورثاها من الإدارة السابقة، لذلك لم يتم التخلي عن أسس السياسة الخارجية، وعدَّلا الأساليب والسياسات اللازمة لتطبيقها، ميلًا إلى وسائل الترغيب أكثر من وسائل الترهيب، والإبتعاد تماماً عن التهديد بإستخدام القوة المسلحة، أما بالنسبة لسياسة الرئيس ترامب في الشرق الأوسط، فقد تميَّزت بشكل تام، فهو يواصل ضرب وفك الإرتباط وعدم التدخل بأزمات المنطقة، غير أنه يخالف سياسة أوباما وبايدن في التعامل مع الملف الإيراني، الذي تمَّ إلغاء سياسة الحوار معه ثم عاد وفعَّلها، كما أن وصول ترامب للحكم، عزز بشكلٍ كبير الدور الإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط، مقابل إضعاف مختلف القوى الإقليمية الأخرى.

أما إسرائيل وعلى أثر حروبها الدائمة على إستقرار المنطقة، تعود الى أن هناك علاقة مسبِّبة بين وجود إسرائيل وأزمات المنطقة ومشكلاتها، فإرتباط هذه الإشكاليات والأزمات سببه وجود إسرائيل، مما أدَّى إلى حالة صراع دائم ومزمن في المنطقة، وهناك تساؤلات منها: هل طبيعة أزمات المنطقة ومشكلاتها مرتبط بوجود إسرائيل؟ وما دور شعوب المنطقة وأنظمتها في المحافظة على بلادهم وتجنبها الأزمات؟ وهل ستبقى المنطقة في حالة صراع وأزمات في ظل وجود إسرائيل؟.

أن وجود إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، قد تسبَّب في كل المشكلات والأزمات التي تعيشها المنطقة، مع تلاقي مصالح  الغرب المستعمر بكل قواه مع المصالح الإسرائيلية، بالإضافى الى إزدواجية المعايير الدولية في التعامل مع تل أبيب، والإنحياز التام  إلى  مصالحها، حيث أسهم وجود إسرائيل في المنطقة إلى إستمرار التجزئة والتفكك للدول المحيطة، وممارسات إسرائيل ضد الشعوب يثبت الدور الوظيفي الذي قامت به، من بث الخلافات والتفرقة بين ومنع الإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي.

لكن وعلى ال منرغم إختلاف سياسات الرؤساء الأمريكيين خاصة منذ عام 2003 مع إيران بالمنطقة، إلاَّ أن هناك ثلاثة أهداف رئيسة للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، تمثلت في حماية الأمن القومي الأمريكي، وضمان وجود وأمن إسرائيل، وتأمين مصادر الطاقة والممرات البرية والبحرية لنقلها، وقد شكلت كلٌ من السعودية، وإيران، ركيزتين أساسيتين في تنفيذ السياسة الأمريكية عبر مراحل مختلفة، وبينما تحوَّلت العلاقات الأمريكية الإيرانية من التحالف إلى العداء، بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، فقد حافظت العلاقات السعودية الأمريكية على إستقرارها، وإستمر التحالف الأمريكي _ السعودي في مواجهة  ما سموه بــ”العداء الإيراني”.

ووفقًا للمنظور  الجيوسياسي الأمريكي، فإنه كلما زاد التهديد الإيراني زاد حجم التباعد والتنافس والصراع بين السعودية وإيـران، وهو ما تجلَّى في عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وترامب، وكلما إتجهت العلاقات الإيرانية الأمريكية نحو الإنفراج والتقارب، توترت العلاقات السعودية الأمريكية وإضطرب الوضع في إسرائيل، وظهر هذا بصفة خاصة في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي لم يستشر أقرب حلفائه حين عقد الإتفاق النووي مع طهران عام 2015.

بناء على ذلك، يتَّضح حجم وتأثير التوجهات السياسية الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، على العلاقات السعودية الإيرانية، وهذا ما يؤكد أن العامل الخارجي المتمثل في البيئة الدولية الإقليمية، هو الأكثر تأثيراً على العلاقات السعودية الإيرانية، وهو من المحددات المرتبطة بالمتغيّرات الأيديولوجيى أو المذهبية، لكن في النهاية جاءت الوساطة الصينية لتقرِّب وُجُهات النظر، وتمهِّد لعودة العلاقات السعودية الإيرانية، لتنتهي سنوات القطيعة بين الدولتين، وبعد عدة جولات من المفاوضات خاضها الطرفان منذ عام 2019 برعاية العراق ثم سلطنة عمان، بالإضافة إلى لقاء وزيرا خارجية البلدين على هامش مؤتمر بغداد بدورته الثانية في الأردن عام 2022 .

وعلى المقلب الآخر فإن سياسة روسيا في الشرق الأوسط، هي جزء من إستراتيجية أوسع، تهدف إلى إنشاء نظام دولي، يحمي روسيا من التدخل الغربي في شؤونها الداخلية، ويضمن لها المساواة الندية مع الولايات المتحدة في الممارسة العملية، فمن جهة تسعى موسكو إلى إنشاء متغيِّر إقليمي، لأنها تعتقد أنه أفضل نموذج لإقامة النظام الدولي الذي ترغب، وتواجد روسيا في الشرق الأوسط أيضاً قضيةً تُعد تحدياً أمنياً هائلاً، وحتى الآن لم يتم تسجيل معارضة لخطورة موسكو من التواجد الجدي في منطقة الشرق الأوسط، فيسود الإرتباك بسبب النقص في فهم تعقيدات الإستراتيجيات والإجراءات الروسية، إضافة إلى فقدان الوعْي بالفروق الدقيقة الكثيرة في الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى أن سورية، تمثل مزايا النهج التكتيكي والمعاملات وحدود السياسة والقدرة الروسية، فصراعات روسيا في الشرق الأوسط منذ عام 2000، كانت بسبب البحث عن دور كلاعب إقليمي من جهة، وتحييد مصالحها الأمنية والإقتصادية عن أية نزاعات، وقد أتيحت فرصة لروسيا في إيجاد صلة بالقوة في المنطقة، حيث لم تَعد روسيا راضيةً عن لعب دور وهمي في المنطقة فقط، وإنما تريد أن تؤكد نفسها كقوة حقيقية ملموسة بالواقع الدولي والإقليمي، وتعتقد أنه يجب أن يكون لديها القدرة والإرادة السياسية، لممارسة التأثير خارج حـدودها، وقد نجحت موسكو في التقليل النسبي من النفوذ الغربي والأمريكي في بلاد الشام في مرحلة ما، وإنشاء معادلة إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، والبحر الأبيض المتوسط، وأوروبا من خلال تدخلها في سورية مباشرة من العام 2015 لغاية العام 2024، والتوسع الدراماتيكي الذي تلا ذلك بشكلٍ عام في الشرق الأوسط، ومع تزايد الثقة بدأت روسيا في الترويج لنفسها كوسيط في نزاعات الشرق الأوسط بما في ذلك اليمن، واليوم في الصراع على ملف التخصيب النووي بين إيران وواشنطن ومع إسرائيل، فهي مصمِّمة على إستبدال الولايات المتحدة بصفتها المفاوض الرئيس في النزاعات الإقليمية، واليوم تواجه روسيا تناقضات وتحديات داخلية وإقليمية، تهدد إستدامة تواجدها في الشرق الأوسط، تعززها نتائج معادلة توازن القوى الإقليمي العالمي مستقبلًا في المنطقة، وبعد غرقها في الحرب مع الغرب في أوكرانيا منذ العام 2022. (2)

الصراع على الطاقة والنفوذ في حوض المتوسط  

في سياق التمدُّد التركي نحو ليبيا، وبدء التنقيب عن مصادر الطاقة هناك، تطرّق الإجتماع الأخير لوزراء الدفاع في حلف شمال الأطلسي للشكوى الفرنسية، من تصرفات سمَّتها عدائية، قامت بها البحرية التركية ضد سفن أوروبية تعمل ضمن مهمة تطبيق حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، وذلك لتسليط الضوء على صراعات الطاقة والنفوذ في البحر الأبيض المتوسط، حيث تلاحقت أحداث عدة متعلِّقة بإستخراج وملكية الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، فالخلاف على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ورفض تركيا بدء قيام قبرص بأي عمليات تنقيب، طالما ظلت أزمة إنقسامها قائمة، وأدَّىذلك إلى تجاذب بين مصر وتركيا، فالأخيرة رفضت إتفاقية ترسيم خط الحدود البحرية بين القاهرة وقبرص الموقَّعة العام 2013، بإعتبار تمس بحقوقها الإقتصادية، وتصاعد التجاذب مع مبادرة مصر، تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط في 2015 بعد إكتشافات كبيرة في مصر، ويضم المنتدى إسرائيل والاردن وقبرص واليونان وايطاليا وانضمت اليه فرنسا حديثاً.

إذن، يخفي تداخل الحدود البحرية بين مصر وإسرائيل وقبرص ولبنان وتركيا واليونان وبعيداً ليبيا، تسابقاً للفوز بالثروة الجديدة في حوض المشرق، وهو يشكل طفرة الغاز المنتظرة فيه، كما طفرة النفط في الخليج العربي في بداية السبعينات، لكن تقديرات المخزون فيه قد تصل على الأقل إلى 3454 مليار قدم مكعبة من الغاز، حيث أن قربه من أوروبا يعطيه ميزة تفوق مثل حوض بحر الشمال الحيوي، فالخطر الحقيقي يكمن في تعارض دول حوض المشرق السبعة مع بعضها بعضاً منذ عقود، والأدهى أن يؤدي التنافس على موارد الغاز والنفط المكتشفة، إلى مسار جديد للصراع في منطقة مأزومة تعيش منذ 2011 ، ويمكن لتداخل صراع النفوذ بين القوى الكبرى والإقليمية، والتجاذب حول الطاقة أن يهددا بإتخاذ النزاع أبعاداً أكثر خطورة في المستقبل القريب، فلا يمكن تجاهل أهمية حروب المياه في تشكيل المشهد الشرق الأوسطي، مع ندرة هذا الذهب الأخضر، والأمثلة لا تنقص حول أنهار الفرات والأردن واليرموك والنيل، وكان لذلك دور في إندلاع حرب حزيران/يونيو 1967، واليوم يمثل الصراع حول سد النهضة الكبير فوق النيل مصدر قلق متزايداً، وهنا فإن أمن الطاقة العالمي وعلاقته بموارد وإحتياطات البترول في الشرق الأوسط، سلَّط الأضواء على هذه المنطقة الواقعة في قلب  العالم  ووسط الكرة الأرضية، وقاد ذلك واشنطن لبلورة سياساتها من خلال العمل على خطين، وهما حماية إسرائيل، والتحكُّم بمواقع ونقل الطاقة.

واليوم، مع إكتشافات الغاز والبترول الصخري، وأفق إستنفاد موارد البترول الخام، يزداد التركيز على الغاز الطبيعي، ولذا تتنبَّه روسيا في سوق تصدير الغاز، وهي تملك لوحدها نحو ربع إجمالي إحتياطيات الغاز المؤكدة في العالم، ويشكل إنتاجها 71 في المئة من واردات الغاز لوسط وشرق أوروبا، فتطور إكتشافات حوض المشرق بات يهدد هيمنتها على السوق الأوروبية، ويمكن أن يحرِّر الإتحاد الأوروبي من التبعية لروسيا في مجال طاقة الغاز، لكن ديمومة النفوذ الروسي العسكري أو السياسي لن تمنح موسكو القدرة على التحكم بمشهد الطاقة المتغير من شرق المتوسط إلى الخليج، وترابط ذلك مع طلبات السوق والمصالح المزدحمة، ولذا، فإنَّ تقديم الحرب في العراق في الماضي على أنها من أجل الطاقة لم يكن دقيقاً، بل كانت له أبعاد متعددة، وهذا ينطبق اليوم على الحروب السورية وعلى الحرب على إيران، التي لها جوانب تتصل بالسيطرة على موارد الطاقة وطرقها، لكنها معنية أساساً بتغيير وجه الإقليم بمجمله وإعادة تركيبه(3).

أثر الطاقة ومستقبلها على الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط

 تطوّر المشهد الدولي لمصادر الطاقة خلال الأعوام الماضية بشكل دراماتيكي، بإكتشاف إحتياطيات نفطية وغازية جديدة، إضافة إلى دخول مصادر جديدة إلى السوق، أهمّها البترول المستخرج من الصخر النفطي، وتطوّر تصنيع الوقود البيولوجي أو الحيوي وإستهلاكه، وهو ما أضاف عوامل تأثيرٍ جديدة على السوق الدوليّة، التي شهدت تقلّبات حادّة في الأسعار، وأثّرت بشكلٍ كبيرٍ على النموّ الإقتصادي والإستقرار السياسي العالمي، وقد شهد الطلب العالمي على الطاقة، تزايدًا كبيرًا بلغت نسبته 157% بين العامين 1970 و2013 ، حيث تزايد الطلب بشكلٍ بارز في البلدان النامية التي شهدت ثورة صناعية، ومن المتوقّع أن يزيد الطلب الإجمالي بحوالى 49% إضافية حتى العام 2040.

فقد شكّل الصراع على ممرّات الطاقة ومعابرها وسلاسل التوريد، أحد الأسباب الخفيّة للصراعات الجديدة في شرق أوروبا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكان أحد أسباب التململ الصيني والعودة الروسيّة إلى حلبات هذه الصراعات، تحت مسمّيات ومبرّرات أمنيّة، بينها غايات إقتصاديّة، تتمثّل بالمحافظة على مستوى التأثير الحالي في هذه السوق الحيويّة، أو تأمين تدفّق النفط بما يتوافق مع المصالح الخاصة بكلّ منهما، وهنا تُطرح تساؤلات عديدة، حول ماهيّة التغّيرات المرتقبة في مصادر الطاقة، وأثرها على الروابط الجيوسياسية المتشابكة بالمصالح الإقتصاديّة، ذات العلاقة بمنابع النفط وممرّاته، كما تحيط الضبابية بالمدى المؤثر على طبيعة التحالفات القائمة ومتانتها، ومراكز التأثير الإقليميّة والدوليّة، وعلى إستقرار بعض الدول أو الأقاليم، سلباً أو إيجاباً.

وهنا، تُشير حسابات منظّمة الطاقة العالميّة، المبنيّة على أنماط إستهلاك الطاقة الحاليّة، إلى مضاعفة الطلب العالمي على الطاقة بحلول العام 2050، حيث تزايد الطلب على الفحم الحجري بمعدّل 300%، والغاز بمعدّل 138% والنفط السائل بمعدّل 69%، وسيكون حتماً الأثر الأكبر لهذه الزيادات دراماتيكياً على المناخ العالمي، وهو ما أدَّى إلى إطلاق دعوات لإجراء تغييرات أساسيّة في سياسات الطاقة العالميّة، ويتمثّل الخطر الأكبر للأجيال القادمة في تشوّه نظام الطاقة الإقتصاديّة، البيئيّة أو السياسيّة، إذ يستمرّ العالم في حالة نهمٍ متزايد لإستهلاك الطاقة، بهدف مواكبة ركب التطوّر التكنولوجي، وتلبية متطلّبات الأجيال العصريّة، فيما تتزايد بالتوازي مع هذه الحالة مفاعيل ظاهرة الإحتباس الحراري، التي تتسبّب في التغيّرات المناخيّة المتقلّبة، وأثَّرت سلباً على الأمن الجسدي والإقتصادي للبشر، من خلال حدّة العواصف المسبّبة للفيضانات، وموجات الحرّ المسبّبة للحرائق، كما يتدهور الأمن الغذائي العالمي، الذي أصبح أكثر هشاشة، بسبب تغيّر أنماط الفصول والأثر السلبي على الثروة النباتيّة والحيوانيّة.

هذا  ويعتمد مفهوم توفير الطاقة أو الإستخدام الأمثل لمصادرها، مقاربة ترتكز على إعتماد سياسة سلبيّةٍ ذات أثر إيجابي، بدأته الكثير من الدّول مرغمة، بسبب الأزمات الناتجة عن الحروب، وإنقطاع الإمداد، وغلاء الأسعار وغيرها، وقد تطوّر هذا المفهوم لاحقًاً ليشمل الجهات التي ترغب بتوفير مصادر الطاقة، والمحافظة على بيئة نظيفة للأجيال القادمة، عبر الإستهلاك المسؤول من خلال التصميم المدروس للأبنية الحديثة، وإستعمال الأجهزة الكهربائية الموفّرة للطاقة، وترشيد الإستهلاك الصناعي والمؤسساتي، من خلال توقيت عناصر التعرفة وتحديدها.

كما تسعى الدول الفقيرة بمصادر الطاقة الأحفوريّة، للتخفيف من نسبة إعتمادها على الدول المصدّرة للوقود الأحفوري، كما تسعى العديد من الدول الغنيّة بمصادر الطاقة الأحفوريّة، إلى إطالة أمد إستغلال إحتياطاتها، من خلال إستغلال مصادر الطاقة المتجدّدة المتوفرة لديها، إنطلاقًاً من كونها طاقة مجّانيّة غير مكلفة وغير قابلةٍ للنضوب، وقد تبيّن أنّ مصادر الطاقة المتجدّدة، التي يمكن الإستفادة منها بالتقنيات المتوافرة حتى تاريخه، لا تكفي لسدّ العجز في الطلب، كما لا تسمح بالإستغناء عن الوقود الأحفوري الملوّث، ممّا يؤدّي إلى تصنيف الطاقة المائية والطاقة الشمسيّة بين مصادر الطاقة الثانويّة غير الأساسية، على الرغم من إحتياطاتهما غير المحدودة، والمتوافرة على كامل الكرة الأرضيّة، وعلى الرغم من الفشل أو التأخير الذي يظهر عند مراجعة الإحصاءات العالميّة،  فهناك تجارب ناجحة في بعض الدول، التي تسير بخطى حثيثة على طريق التخفيف من إستهلاك الوقود الأحفوري، بإستخدامات أفضل للطاقة، أو إستعمال أجيال جديدة من التجهيزات الأقلّ إستهلاكًا، بهدف التوفير أو تحقيق الإكتفاء الذاتي، مع ما يعنيه ذلك من النواحي، الاقتصاديّة، البيئيّة والسياسيّة.

المحيط الجغرافي  يحظى بدور مهم في حياة الأمم والكيانات، ومنها منطقة الشرق الأوسط، كونه يقدّم فرصاً وإمكانات كبيرة، إلاّ أنّه قد يشكّل أيضاً مصدراً للمخاطر ترتبط بالموارد الطبيعيّة، نقول هذا الكلام لأنه في السنوات الأخيرة، أدّى تغيّر مفهوم القوّة إلى تغيير المقاربة في تحليل عناصرها، وبالتالي تغيّر مفهوم الإستقلال للدول والكيانات، فالدول المستقلّة قانوناً، ليست بالضرورة مستقلّة مادياً أو فعلياً، كون بعضها قد يكون ذا تبعيّة ما لدولة أخرى، حيث تشكّل التبعيّة الإقتصاديّة شكلًا من أشكال عدم الإستقلال، وتعتبر الضغوطات الإقتصاديّة من أهمّ الشروط الممكن إستثمارها سياسياً، وإنطلاقًا من ذلك، قامت العديد من الدول، خصوصاً في البلدان الرأسماليّة الكبرى، بإستعمال الضغط الإقتصادي بشكل مكثّف، كوسيلة للتعامل السياسي ولمواجهة التهديدات الموجهة إلى مصالحها، وفي هذا الإطار، تمّ إنشاء هيئات عالميّة وتكتّلات، تهدف إلى التعامل الجماعي والمتماسك تجاه الدول الأخرى، وصولًا للضغط عليها، وتهديدها بفرض العقوبات والجزاءات إذا لم تمتثل لرغباتها، وقد تحوّلت جماعات الضغط الإحتكارية، إلى منابر للترهيب والتهديد الإقتصادي والسياسي، فمجرّد تشكيلها ومعرفة هويّة أعضائها وغاياتها، فإن ذلك يُثير الكثير من علامات الإستفهام، من أبرز هذه التكتّلات الإحتكاريّة: الكارتل النفطي كمنظّمة الطاقة الدوليّة والكارتل المالي المسمَّى نادي باريس ولندن، رغم أن قرار الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة رقم 62/197، قد أشار إلى الحاجة لتفعيل توصيات “القمّة العالميّة للتنمية المستدامة” كإطارٍ للعلاقات بين الحكومات، بهدف وضع “خطة جوهانسبرغ” موضع التنفيذ، للإسراع في زيادة الحصّة الإجماليّة للطاقة المنتجة من مصادر متجدّدة، ضمن حصص الإنتاج العالمي للطاقة، وذلك من خلال زيادة الوعي لأهمّية الطاقة على التطوّر المستدام وإزالة الفقر، عبر تطوير المصادر الحاليّة وإيجاد مصادرٍ جديدة للطاقة المتجدّدة، منعاً للسطو على مقدرات الدول، منها دول الشرق الأوسط، وتعرضها لإختراقات أمنية وإستراتيجية، على الرغم من ذلك، يبقى إنتاج الطاقة من المصادر التقليديّة، حتى لو كانت ملوّثة، خياراً استراتيجياً قائماً على المدى الطويل، نظراً لعدم توافر أيّ بدائل تكفي حجم الطلب الضخم، لذلك يبقى إستخدام الوقود الأحفوري بجميع مصادره، أحد أهمّ مصادر إنتاج الطاقة على المستوى العالمي، مع ما يعنيه ذلك، من إستمرار الصراعات على مصادره وممرّاته، بما يضمن مصالح الأطراف المعنيّة، يُضاف إلى ذلك الطاقة النوويّة ذات الإنبعاثات المتدنّية، مع الأخذ بعين الإعتبار مخاطرها العالية من الناحية البيئية والأمنية، وما تتركه من توتّرات ترتبط برغبة الدول في تملُّك التكنولوجيا النووية لرفع مكانتها على الساحة الدولية.

من هنا، فقد عانى الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين، من مداخيل مالية سمحت بزيادة ثروات عدّة بلدان مصدّرة للنفط، لكنّها جعلتها مسرحاً لصراع القوى العالميّة، التي ترغب وتطمح للسيطرة على مصادر الطاقة، وعلى الرغم من ضخامة المحافظ الماليّة للعديد من دول الشرق الأوسط، التي تمتلك مع دول المغرب العربي حوالى 60% من إحتياطات النفط السائل، و45% من إحتياطات الغاز العالميّة، فما زالت الأخيرة غير محتسبة ضمن خريطة العولمة الدوليّة، ففي مجموعة العشرين للدول التي تمثّل أكثر من 90% من الناتج العالمي الخام، هناك بلدان إثنان فقط هما المملكة العربيّة السعوديّة وتركيا، في الوقت ذاته إمتلكت إسرائيل التقنيّة النوويّة منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، كما إنضمّت إيران إلى النادي النووي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتتحدّث بعض التقارير عن سعي العديد من الدول العربيّة النفطيّة، إلى إمتلاك التكنولوجيا النوويّة أسوة بإيران، التي تعتبر المنافس التاريخي للعرب، هذا بالإضافة إلى مصادر الطاقة المتجدّدة كالطاقة المائيّة في كلّ من تركيا، سوريا، لبنان ومصر، الطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح في معظم بلدان المنطقة.

من هنا يمكن فهم البُعدين الجيوسياسي والجيوإستراتيجي للطاقة في الشرق الأوسط أو آسيا، من خلال دراسة النقيضين في هذا المجال، فمن جهة، يعتبر الاتّحاد الروسي عملاقًاً في إنتاج الطاقة وتصديرها، بسبب مقدّراته وموارده الطبيعيّة الضخمة، ممّا يحتّم عليه المحافظة على حصّته في أسواق الطاقة، والدفاع عن إحتكاراته وعلاقاته التاريخية أو المستجدّة، ومن جهة أخرى، تعتبر الصين مصنعاً ضخماً يعيش ويعمل فيه معظم عمّال العالم، وهي أضحت العملاق الصناعي والتجاري، الذي تَصدّر إستهلاك الطاقة العالمي أمام الولايات المتّحدة، التي أصبحت في المرتبة الثانيّة، ممَّا يحتّم عليها العمل على إستمرار تدفّق مصادر الطاقة وتأمين معابرها.

وقد أثمرت الجهود والضغوط الروسيّة في جعل الغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص، يعترفان بالدور الروسي في أمن الطاقة الأوروبيّة، وتجسد ذلك بعد الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، حيث تعود الأهمّية بشكل خاص إلى قرب الطرفين الجغرافي، الذي يمكن أن يترجم مرونة في تلبية حاجات الطاقة المفاجئة، نظرًا لتغيّر أنماط المناخ، بسبب الإحتباس الحراري، وبنتيجة الأزمات تبيَّن  أنّ أكثر المتأثرين سلباً في دول الاتّحاد الأوروبي، كان المستهلكين الصغار وأصحاب المنازل، كون الإحتياطات التي كانت متوافرة، سمحت للحكومات بتلبية معظم حاجات المؤسسات الكبيرة ومحطّات إنتاج الطاقة، لكنّها كانت قاصرة عن تلبية الطلب بالمفرّق، ممّا أثّر بشكل كبير على الرأي العام الذي ينشد الإستقرار في الإمدادات، من جهة أخرى، لا يمكن فصل العودة الروسية العسكرية المباشرة إلى الشرق الأوسط، ومن ثم إنكفائها بفعل الضغط الغربي للإستفراد بالشرق الأوسط، من خلال ما سمّي بعاصفة السوخوي في سوريا، عن محتوى التقارير التي كانت قد تحدّثت عن مشاريع ربط غاز الشرق الأوسط بأوروبا عبر سوريا وتركيا، بهدف إعفاء أوروبا والسياسة الغربية بشكل عام، من تبعات الإعتماد على إمدادات الطاقة الروسية.

أمّا في المقلب الآخر، فتعتمد الصين مقاربات جيوسياسية وجيوإستراتيجية لأمن الطاقة الضرورية لإقتصادها، فعلى الرغم من تباطؤ بكين خلال العامين المنصرمين، تستمرّ في إندفاعتها التي تسعى من خلالها إلى تأمين إمداداتها النفطيّة عبر الإستثمار الخارجي في قطاع النفط، بما يؤدي إلى إستيراد النفط الذي تنتجه شركات صينية في الخارج، بدلًا من شراء النفط من الأسواق العالمية، وتحاول الصين من خلال هذه السياسة، التعويض بالحضور الفاعل في سوق الطاقة الدولي، عبر الحضور المادي والإستثمار المالي، ممّا يمنحها مقدّرات مهمّة للتحكّم في سوق الطاقة العالمي.

كما يتوقّع أن تبقى مصادر الطاقة التقليديّة والبنية التحتيّة المستخدمة في إستخراجها، وفي إنتاجها وتوزيعها، عنصراً رئيسياً في منظومة الطاقة العالميّة، وذلك على الرغم من الجهود التي يبذلها واضعو السياسات العالميّة لتغيير المعادلات القائمة، لكنّ تعقيدات السياسة العالميّة وتزايد حدّة المنافسة والتطوّر التكنولوجي، وضعت الإستقرار العالمي على مسار طويل من التغيير، مليء بالتحدّيات وبالغموض وعدم اليقين، مما غيّر من التوازنات القائمة، التي قامت عليها أنظمة بعض البلدان وعلاقاتها الدوليّة بأشكالها المتعدّدة وتناقضاتها الغريبة.

هذا وتشير شبكة المصالح المعقّدة بتقاطعاتها ومعادلاتها، إلى نتيجة تبدو منطقيّة، تتمثّل بإستمرار الولايات المتّحدة في إستيراد نفط الشرق الأوسط ذي الكلفة المتدنّية، بالتوازي مع تطوير قدراتها وإستثماراتها للمحافظة على الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، بما يُبقي خياراتها مفتوحة بين أقنية الإتّصال والإستيراد من المصادر ذات الكلفة المتدنّية من جهة، وبين المحافظة على قدرة داخلية أو إقليمية للتعويض عن النقص المحتمل في الإمدادات، ويؤمّن هذا الخيار المرونة الضرورية لأمنها القومي، كما يثبّت سياستها القائمة على الهيمنة على أسواق الطاقة العالميّة، من خلال العمل على تطويق روسيا، أو تقليص نفوذها كحدّ أدنى في كلّ من أوروبا الشرقية، آسيا الوسطى وسوريا وممرات الخليج في هرمز وباب المندب، عبر خلق بدائل تخفّف من تأثير روسيا في سوق النفط العالمية وطموحاتها في زيادة حصتها، إضافة إلى ذلك تستمرّ الولايات المتّحدة في إستدارتها نحو الشرق، في محاولة لفرملة تمدّد الصين في الشرق، من خلال تطويق توسّعها ونشاطاتها العسكرية من جهة، وفتح أقنية إتّصال مع جارتها اللدودة فيتنام، التي تشكّل سوق يدها العاملة الرخيصة بديلًا مهمًّا عن اليد العاملة الصينية.

وعليه فقد أظهر دفع الإدارة الأميركية بإتجاه الإتفاق النووي مع إيران، الهامش الواسع الذي أصبحت الولايات المتّحدة تتمتّع به في علاقاتها مع دول الخليج بشكل عام، لكنّ ذلك لا يعني أنّ سياستها في المنطقة قد تغيّرت بشكل دراماتيكي، وفي حين يربط بعض التقارير هذه اللُّيونة بإرادة الإدارة الحالية ويصفها بالمرحلية،كما نُقل عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قوله: “يحدّد دور روسيا في سوق الطاقة العالميّ، بطرق عدّة، تأثيرها الجيوسياسي”، فهذا  يلخّص النظرة الروسيّة الحاليّة والمستقبليّة للطاقة، ودورها في السياسة والإقتصاد، وقد أثبتت روسيا أنّها لا تهادِن عندما يتعلّق الأمر بمصالحها الإستراتيجيّة، وتشير التطوّرات الحالية إلى إستمرار التشدّد الروسي في السياسة القائمة على تأمين الحضور الفاعل في سوق الطاقة الدوليّة، حتّى ولو أدّى ذلك إلى التدخّل العسكري، حيث تريد أن تحتفظ بمكانتها الحاليّة، لا بل أن ترفع من شأنها، من خلال المحافظة على تحكّمها في أسواق الطاقة الأوروبيّة بشكلٍ خاص، تشكّل هذه العوامل مجتمعة، أسباباً هامّة للعدائيّة السياسيّة والديبلوماسيّة، والعسكريّة، التي تميّزت بها المقاربات الروسيّة خلال السنوات الأخيرة، والمتوقّع إستمرارها خلال السنوات المقبلة.

أمّا لناحية الصين، فقد تغيَّرت جوهرياً إستراتيجيّتها المتّبعة لديها، من خلال تعاملها مع محيطها وفي سياستها الدوليّة، فبعد عقود من إعتماد مقاربات مسالمة، بدأت الصين خلال العقد الأخير سياسة مشاكسة، إقليمياً ودولياً، فهي تعتبر أنّ المحافظة على معدّلات نموّها تتطلّب منها رفع حجم تجارتها الآسيويّة إلى تريليون دولار سنوياً خلال العشر سنوات المقبلة، إذ شكّلت المناورات التي أجرتها مؤخّراً في المناطق المتنازع عليها مع اليابان وتحرّشها المستمر بجيرانها، أحد أهمّ مؤشّرات التململ الإقليمي بهدف فرض السيطرة على المنطقة بشكل عام وبحر الصين، بشكل خاص إمتداداً لتحرير طريق الحرير حزام واحد، وإستكماله دون إفتعال حروب وأزمات، كما يعتبر حلفها الإستراتيجي مع روسيا، من خلال تغيير مقارباتها الدبلوماسيّة في الشرق الأوسط، أميركا الجنوبيّة وأفريقيا، بالإضافة إلى مواقفها في مجلس الأمن، في صلب طموحاتها لزيادة أسواق التصريف لديها وتوسيعها من جهة، وتأمين حرّية وصولها إلى منابعِ الطاقة من جهة أخرى.(4)

هناك تغيير في خريطة توزّع مصادر الطاقة عالمياً خلال العقد الأخير، توازياً مع تغيّر كبير في أنماط الإستهلاك للعديد من الإقتصادات الناشئة، وهي تغيُّرات ترافقت مع تطوّر معدّلات إستهلاك الطاقة المتجدّدة وتزايدها، وإستمرار الأبحاث والإستثمارات في مجالات جديدة ، بهدف التحرّر من التبعيّة الإقتصاديّة، مما سمح بزيادة مستوى الإستقلاليّة السياسيّة للدول والكيانات، وفي هذا الإطار، تطوّرت مصادر الطاقة وتغيّرت النظرة الاستهلاكيّة في الوعْي الإجتماعي والسياسي، التي كانت تركّز على المدى القريب، لتشمل التخطيط للمستقبل البعيد، إلّا أنّ هذا التطوّر لم يكن حكراً على النفط، بل تعدّاه إلى إستعمالات الطاقة المتجدّدة، الوقود الأخضر والإستخدامات الأمثل، ويعلّق آمال كبيرة على إيجاد مصادر طاقةٍ جديدة، وعلى زيادة إنتاجيّة المصادر المتجدّدة منها، من خلال إيجاد تقنيّات جديدة تسمح بإستثمارها بشكل أكثر فعاليّة، وتخفّف من الإعتماد على المصادر التقليديّة، كما يتوقّع أن يستمرّ الوقود الأحفوري في طليعة مصادر الطاقة، نظراً لتزايد الطلب العالمي، وعدم كفاية مصادر الطاقة الأخرى، ويحتلّ هذا الوقود مركزه، بسبب نضوج التكنولوجيا والمعرفة اللازمتين لإستخراجه، ولإنتشارهما في جميع أنحاء الأرض، غير أنّ المصادر التي كانت تقتصر على النفط السائل، أصبحت أكثر تنوّعاً بسبب إكتشاف إحتياطيات جديدة من الغاز الطبيعي والنفط الصخري، ممّا سيُعيد رسم خريطة الإحتياطيات العالميّة وإعادة إحتساب المعادلات التي أرست التوازنات المعتادة منذ منتصف القرن الماضي، هذا وتشكّل المصادر الجديدة من الطاقة، التي يتمّ إكتشافها وإستثمارها، في البلدان التي لا تحتوي على موارد تقليديّة بشكلٍ خاص، فرصةً لها بالتقليل من إعتمادها على بلدان أخرى في أمن الطاقة، هذا الأمر من شأنه أن يخفِّف الأعباء المفروضة على مجتمعاتها، ويسمح لها بالإستثمار في الداخل، بالإضافة إلى التخفيف من إرتهانها الإقتصادي والسياسي للخارج، كما تشكّل الإكتشافات الجديدة وإعادة توزيع بعض الأدوار من خلال شكل الصراعات الناشئة في الشرق الأوسط، كأحد مؤشرات إعادة رسم خريطة العلاقات الدوليّة، بما ينعكس تغييرات في مناطق أو بلدان، كانت بمنأى عنها لمدّة من الزمن، ويعدّل في الثوابت الجيوسياسية التي سادت في الماضي القريب.

حين توجد أقاليم الإنتاج، نجد أقاليم الإستهلاك، فأقاليم الإنتاج ليست بالضرورة مستفيدة من النتائج الإيجابيّة، حيث عانت العديد منها الآثار المدمّرة، الناتجة عن صراع القوى العالميّة للسيطرة على منابع النفط والغاز، بهدف تأمين إستمرار تدفّقها، والتحكّم بالإستثمارات والأرباح الناتجة عن إستغلالها، كما أرست التوازنات التي تأسّست بعد الحرب العالميّة الثانية، المشهد الجيوسياسي الذي تعوّدنا عليه من تحالفات وأنظمة وصراعاتٍ مباشرة أو بالواسطة، فربما ستؤدي التحوّلات في خريطة مصادر الطاقة، إلى تغيير بعض المعادلات التي سادت لفترة من الزمن،  معطوفة على آثار التغييرات في الخريطة على المشهد السياسي العالميّ المتوتّر، ممَّا سيشكّل لوحة تكون عبارةً عن مرحلة إنتقاليّة، بين الوضع الحالي والوضع الغامض بعد العام 2035.

المضائق والممرات وعسكرة موارد الطاقة

 الإقتصادات الحديثة تتطلَّب في العالم اليوم، موارد حيوية لا يمكن الإستغناء عنها، وأي خلل في توازن العرض والطلب على الطاقة، يؤدي إلى صراعات وتوتُّرات دولية، مما يدفع الدول لإتخاذ إجراءات إستباقية لحماية مصالحها الطاقوية، وفي ظل شح الموارد الطاقوية لدى معظم الدول الكبرى، تبرز روسيا كقوة طاقوية عظمى، بفضل ما تمتلكه من إحتياطيات ضخمة من الوقود ألأحفوري، وهذا التفاوت في الثروات الطاقوية، أشعل فتيل التنافس بين الدول، ودفعها لإنتهاج سياسات عدوانية في إدارة الموارد، وهو ما حوَّلها إلى أداة جيوسياسية لتحقيق المكاسب والتأثير، وتوضَّح هذا التنافس في الأزمة الأوكرانية، التي كشفت عن هشاشة النظام العالمي في ظل التنافس الشديد على الموارد، حيث أثبتت هذه الأزمة، أن الطاقة ليست مجرّد سلعة إقتصادية، بل أصبحت ساحة صراع جيوسياسي، فحرب روسيا في أوكرانيا، التي تضم مناطق غنية بالطاقة، كشفت عن مدى عمق الترابط بين الأمن الطاقوي والأمن القومي للدول، وقد أدَّت هذه الأزمة إلى إرتفاع أسعار الطاقة، وتقلُّبات في الإمدادات، مما زاد من حدة التنافس بين الدول الكبرى للسيطرة على الموارد الطاقوية.

كما يُعتبر الاقتصاد عصب الحياة والإستقرار حول العالم، ولا بدَّ له من شرايين تُضخُّ منها الطاقة، وتمرُّ عبرها التجارة والسلع والصناعات المختلفة، في إطار التبادل التجاري والصناعي والزراعي بين الدول والقارات المختلفة، وقد برز حاليًا نحو إثني عشر مضيقاً وقناة، وأهم تلك الشرايين والممرات البحرية حول العالم، نجد في المنطقة العربية أو منطقة الشرق الأوسط خمسة منها، في ترتيب مختلف من حيث الأهمية، هذه الممرات هي مضيق هرمز وباب المندب، وقناة السويس، ومضيق جبل طارق، ومضيق البوسفور، حيث يُضيف كل مضيق أو قناة منها، قيمة إقتصادية ومالية وإستراتيجية خاصة، وكما أنها نقاط عبور وسلاسل إمداد وطرق تجارة، فإنها تعتبر مفاصل إستراتيجية للسياسات المتعلقة بالدول المطلّة عليها، ومساحات للتنافس والإهتمام الدولي، ونقاط تقاطع للعديد من التحديات الجيوسياسية والمخاوف الأمنية، بالنظر لأهميتها المتزايدة.

وهنا تتنوع التحديات التي تتعرَّض لها الملاحة البحرية حول العالم، فهناك التوتُّرات الإقليمية والصراعات العسكرية، ومعها التحالفات والمشاريع الدولية، وصراعات الهيمنة والأطماع والتغيرات المناخية، تنعكس تلك التحديات في منطقة الشرق الأوسط، وتتزايد مخاوف الإرهاب والقرصنة والتلوث البيئي، والحوادث البحرية، ومحاولات السيطرة المختلفة على الممرات البحرية، يضاف إليها التوترات الناتجة عن فرض واقع جديد، تسعى إليه الصين وقوى أخرى، عبر ما يسمَّى مبادرة الحزام والطريق، ومع هذه التغيرات والإحتدام الجيوسياسي، وإرتفاع تكلفة الشحن، أصبحت هذه الممرات في صدارة الإهتمامات حول إستقرار الإقتصاد العالمي عموماً، وإستقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.

كما تُعد هذه الممرات جزءاً من المياه السيادية للدول التي تطل عليها من اليابسة، ويحق لها التمركز في هذه المناطق، والإستفادة من الثروات الطبيعية والبحرية، إلاَّ أن هذه الدول لا تملك الحق في حظر أو منع السفن التجارية أو العسكرية من المرور عبر هذه المضائق، كما ليس لها الحق في أخذ رسوم مادية مقابل مرور السفن في الممرات، التي تكوَّنت بفعل الطبيعة وليست بجهد بشري، ولكن بعضها كما هو الحال في باب المندب، قد تستفيد الدول المطلة عليه، من نشاط الموانئ القريبة منه كاليمن وجيبوتي، أما التي هي من صنع الإنسان كقناة السويس، فيحق للدولة التي شُقت على أراضيها أخذ الرسوم، وتملك الحق بإدارة وتنظيم الملاحة عبرها، وبخصوص مضيق البوسفور، فإنَّ تركيا تفرض عليه رسوم مرور بموجب إتفاقية مونترو، كون تشكل هذه الممرات مصدر دخل مهم للدول الواقعة عليه، وهو ما يعني أيضا أن أي عقوبات أو مخاطر أو تهديدات قد تؤثر على إقتصادها.

قد يشكل ذلك أهمية خاصة للدول المحيطة والمشاطئة لهذه الممرات، وتزداد الأهمية حول العالم، إذا ما عرفنا أن موارد الطاقة من النفط والغاز، وما يقارب 9% من السلع الغذائية والخدمات الصناعية وغيرها، تنقل عبر البحار، بسبب إنخفاض كلفة الشحن والنقل عبرها، وهو ما يعطي ممرات الشرق الأوسط البحرية أهمية بالغة، إذ تربط بين ثلاث قارات، وتمرُّ عبرها النسبة الأكبر من الطاقة والسلع المختلفة، بل تشكل عنق الزجاجة وممراً ضيقًاً للسفن بمختلف حمولاتها الهائلة.

وللممرات البحرية أهمية كبيرة للدول الواقعة عليها، وكذلك للدول المشاطئة للبحار التي تمرُّ منها، فإنَّ دول منطقة الشرق الأوسط، تمنح هذه الممرات أهمية بالغة، كون معظم إنتاج النفط والغاز العالمي يتم في هذه الدول، كالسعودية والعراق والإمارات وقطر وإيران وغيرها، وكذلك التصنيع والإستهلاك والكثافة السكانية للدول المشاطئة للبحار الواقعة فيها هذه الممرات، وأيضاً للدول القريبة منها كالصين والهند وغيرها، ناهيك عن الدول الإفريقية والأوروبية المحادة للشرق الأوسط من مختلف الإتجاهات، وهو ما يجعل ممرات الإقليم الشرق أوسطي، أكثر أهمية للدول ولموقع هذه الممرات، الأمر الذي يلعب دوراً مهما في إستقرار الإقتصاد العالمي والإقليمي عموماً، وإستقرار الشرق الأوسط بشكل خاص، فنجد أن مضيق هرمز يحتل المرتبة الأولى بين المضائق والممرات في الوطن العربي كأكبر ممر لناقلات النفط، والغاز الطبيعي في العالم، ويقع بين سلطنة عمان وإيران بطول 161 كم وعرض يصل الى 34 كم في أضيق نقطة منه، ويمرُّ عبره ما بين 18 إلى 20 مليون برميل نفط خام، وقرابة 25% من الغاز المسال من المملكة العربية السعودية والإمارات والعراق والكويت وقطر وغيرها، إلى جميع أنحاء العالم.

ويحتل باب المندب المرتبة الثانية، من حيث الأهمية الإستراتيجية للممرات المائية في منطقة الشرق الأوسط، كونه المدخل الجنوبي لمنطقة البحر الأحمر وخليج عدن، ومنه تمرُّ السفن التجارية إلى البحار المفتوحة بين أوروبا والشرق الأوسط والهند وكذلك إفريقيا، ويقع المضيق ضمن المياه الإقليمية اليمنية، رغم وجود دول مطلة عليه من القارة الإفريقية، وهي أريتريا وجيبوتي، إلاَّ أن المياه الصالحة لمرور السفن، تقع على الجانب اليمني، وتقدر حجم الطاقة والتجارة العالمية التي تمر عبره ما بين 10 إلى 20 بالمئة، أما قناة السويس فهي ثالث ممر مائي متقارب جغرافياً مع باب المندب ومضيق هرمز، فهي تقع على كامل الأراضي المصرية، وتربط بين البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وتسهم بمرور نحو 12% من التجارة العالمية، وتعرَّضت القناة للعديد من المخاطر بسبب الحروب والنزاعات، كان أبرزها أثناء الحرب مع الكيان الإسرائيلي، ففي العام 1967، إحتُلت سيناء من قبل إسرائيل، وظلت قناة السويس مغلقة بوجه الملاحة الدولية قرابة أحد عشر عاماً، إلى أن تم تنظيفها من السفن الغارقة والألغام، وعادت للسيادة المصرية بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973م.

وكما شكَّلت القنوات والمضائق، ممرات ونقاط عبور بين البحار والقارات والبلدان المختلفة، فإنه يمكن إعتبارها نقاط إلتقاء للعديد من المصالح والتحديات والمخاوف، وهنا نقصد الحديث عن منطقة الشرق الأوسط، والتي تعاني مجموعة من الأزمات والصراعات والظروف السياسية، نتيجة لتوزيع القوة والنفوذ بين الدول الكبرى والفاعلة في المنطقة، وهو ما أثَّر على إستقرار حركة الملاحة البحرية، حيث تتداخل السياسة الدولية والمصالح الإقليمية، والتفاعلات بين القوى الكبرى، في تحديد سيطرة وتأثير الدول على الممرات البحرية الإستراتيجية، مثل مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس والبوسفور وغيرها، وهذا ما يمكن تسميته بالتحدِّيات الجيوسياسية.

فمنطقة الشرق الأوسط والممرات البحرية فيها، تعيش تحديات أمنية، منها الأمن البحري الذي لا يتمتع بالإستقرار الكافي بعد، فيما تتكرَّر وتتكرَّس الأحداث بشكل كبير في باب المندب، الذي يمرُّ عبره ربع التجارة العالمية من السلع والطاقة، وفي حين يتأثر باب المندب بهذه الأحداث المتمثلة في القرصنة والأنشطة الإرهابية في البحر الأحمر، فإنه يتأثر معه نشاط  قناة السويس، وتحاول السفن سلوك ممرات أخرى أكثر أماناً، وهذا يدل على أن هناك من يسعى إلى زعزعة وإقلاق وإغلاق هذه الممرات، حتى يتسنَّى لها تفعيل نشاط الممرات الواقعة تحت نفوذها، أو تقليل نشاط ممرات الدول المعادية، وبالتالي الضغط على قوى كبرى في إطار تقاسم النفوذ، على هذه الممرات، التي تنعكس عليها التوترات العالمية والطموحات الجيوسياسية بشكلها الأوسع.

هنا لا بدَ من فهم التاريخ، ليتم فهم الحاضر، ففي قلب الشرق الأوسط المشتعل، تتجدد اليوم المواجهة بين إيران وإسرائيل، وهي مواجهة ليست جديدة، بل إمتداد لصراع عميق الجذور، تتشابك فيه الإيديولوجيا والتاريخ، بينما يركِّز كثيرون على الملفات الأمنية أو النووية، يغفلون النظر إلى الخلفية الحضارية التي تصنع هذا الصراع، وتمنحه أبعاداً أكثر تعقيداً، وعليه فإن إيران في سلوكها الإقليمي، لا تتصرف كدولة قومية حديثة، بل كإمبراطورية دفينة غارقة في العمق التاريخي، وتعود إلى الحياة بثوبٍ ديني أيديولوجي وبجوهر فارسي، يمتد إلى آلاف السنين، ويظهر في طموحاتها الإقليمية التي تسعى فيها، لإعادة تشكيل مناطق نفوذ كانت ضمن الإمبراطوريات الفارسية القديمة، إذ أن شعار تصدير الثورة ليس سوى غلاف شرعي لمشروع جيوسياسي أوسع، يسعى لإستعادة الهيمنة على منطقة المشرق العربي، من خلال تحالفات طائفية، وتحريك أذرع مسلحة، وفرض نفوذ على دول تعاني من إنقسامات داخلية، تقابلها إسرائيل من منظور ديني وتاريخي، كخصم وجودي للعرب والمسلمين، منذ تأسيسها عام 1948 على أنقاض نكبة فلسطين وحتى اليوم، تجلّى عداؤها من خلال الإحتلال والإستيطان والتهجير، ومجازر دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا، وليس إنتهاءً بغزّة اليوم.

هو عداء له أبعاد سياسية وأمنية، لكنه يتجذر في العقيدة التلمودية، التي تنظر إلى العرب بسحق حقهم في الأرض، وضرب كرامتهم عبر العقيدة اليهودية المتطرفة، ومن هنا، فإن الصراع مع إسرائيل وبين إيران وإسرائيل يبقى في عمقه، صراعاً ظرفياً قابلًا للتغيّر، فأيام عهد الشاه، كان هناك تعاونًا أمنياً وإقتصادياً بين الطرفين، ولا شيء يمنع وفق المتغيرات الإقليمية، من إعادة التفاهم بين الطرفين خلف الكواليس، فإيران تستخدم خطاب المقاومة لمراكمة النفوذ الإقليمي، بينما تستفيد إسرائيل من بقاء إيران كعدو غير مباشر، لصرف الأنظار عن عدوانها الأساسي على الفلسطينيين والمسلمين، وللترويج لضرورة تحالفها مع أنظمة عربية، تحت عنوان الخطر الإيراني، كما أن مصطلح الهلال الشيعي، لا يبدو أنه يعبّر بدقة عن المشروع الإيراني، الذي يتجاوز البعد المذهبي إلى بعد حضاري فارسي، فهو يسعى لإعادة تشكيل الحزام الجغرافي من طهران إلى بغداد فدمشق، وبيروت، وصولًا إلى صنعاء، ويبدو أنه إعادة إحياء لإمبراطورية سابقة في قالب ديني وعسكري جديد.

فالمنطقة اليوم صارت أمام صراعين متوازيين، صراع سياسي وظرفي بين إيران وإسرائيل، تحكمه التوازنات وقد ينتهي بصفقة، وصراع عقدي وديني أبدي بين إسرائيل والأمة الإسلامية، يستند إلى عقيدة دينية عنصرية، ترى في المسلمين أعداء دائمين، حيث أن إسرائيل لم تكن يوماً حليفة موضوعية للعرب ولن تكون، بل هي عدو مركزي، يتغذّى على تفكُّك المنطقة، ويتّخذ من صراعاتها وسيلة للتمدُّد، فهي خطر وجودي ليس لأنها دولة نووية فقط، بل لأنها كيان ديني متطرف يقوم على الإقصاء والعداء العقدي.

ومن هنا بدأنا نشهد التأثير المباشر والخطير على الممرات البحرية في الشرق الأوسط، وفي التهديدات الجيواستراتيجية والتحديات الأمنية، بسبب الصراع الدولي والإقليمي، والدور السلبي الذي تلعبه القوى الإقليمية المتمثلة في إسرائيل وإيران وتركيا، الأمر الذي نتج عنه مخاطر أمنية تفوق قدرة دول المنطقة على مواجهتها، وهو ما فتح الباب أمام التدخلات الخارجية، وزيادة حدة التنافس عليها، فحرب روسيا مثلا تأثر بها مضيق البوسفور سلباً، حيث أدَّت العقوبات على روسيا إلى بحث الدول التي تستفيد من التبادل التجاري مع روسيا عن طرق أخرى للطاقة، بالمقابل تستخدم إيران في صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، مضيق هرمز كوسيلة ضغط، ويظهر ذلك من خلال تهديداتها المتكررة بإغلاق المضيق، الأمر الذي قد يؤدِّي إلى نتائج عكسية مباشرة على أسعار الطاقة العالمية، وبسبب التوتُّر كان إستهداف ناقلات نفط سعودية وإماراتية في بحر عُمان قبالة سواحل إمارة الفجيرة، كما تمَّ إحتجاز ناقلة بريطانية في الخليج، رداً على إحتجاز بريطانيا لناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق، ولطالما أثَّرت قناة السويس في الصراعات وتأثرت بها، إضافة لذلك فإن حرب لبنان الأخيرة، لو توسَّعت أكثر، لكانت قد إنتقلت إلى المتوسط، وأدَّت إلى خنق القناة إلى جانب ما هي عليه من تأثيرات سلبية نتيجة أحداث البحر الأحمر.

وللدلالة، فقد أسندت إيران للحوثي في اليمن مهمة تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، من خلال إغلاق مضيق باب المندب وضرب السفن التجارية لإسناد غزة، وهو الأمر الذي أثَّر على نشاط الملاحة البحرية في قناة السويس، بل وإعتبره البعض عاملًا من عوامل كثيرة للضغط على مصر للقبول بسياسة التهجير، كما فسَّره محلِّلون على أنه تخادم إيراني أمريكي، سمح بزيادة التواجد العسكري الدولي على باب المندب، فيما يرى آخرون أن هذا يأتي في إطار مساعي إيران، لجني ثمار المأساة الفلسطينية، لتحقيق مكاسب لا تصبُّ في مصلحة الأمن القومي العربي، بقدر ما يمكنها من محاولة إقتسام النفوذ مع القوى الغربية، وذلك على حساب الإستحقاقات العربية، وحركة الملاحة في هذا المضيق، وما يتسبَّب به من تأثيرات سلبية على موانئ الدول المشاطئة، وتتعدَّد التحليلات في هذا السياق، ومن أبرزها أن كثافة التواجد العسكري في البحر الأحمر، قد جاء نتيجة حتمية للصراع، وإحتياطًاً لا بدَّ منه تحسباً لأي حرب كبرى قد تحدث، كما تسعى واشنطن للحفاظ على هيمنتها العالمية، وتحقيق السيطرة البحرية الكاملة، من خلال بناء القواعد المطلة على الممرات، كقاعدة كامب ليمونيير في جيبوتي، المطلة بشكل مباشر على باب المندب، وقاعدة الظفرة الجوية المطلة على مضيق هرمز، وقاعدة العيديد في قطر، والقاعدة العسكرية للأسطول الخامس في البحرين، بالإضافة إلى الاستعانة بالقطع البحرية للربط العملياتي الديناميكي بين القواعد المنتشرة على مسافات مختلفة، من كل مضيق أو ممر بحري.

كما أجرت روسيا والصين وإيران أيضاً، مناورات بحرية مشتركة في خليج عمان في مارس 2024، بينما كان الحوثيون يهاجمون السفن التجارية في البحر الأحمر، حيث شارك في هذه المناورات أكثر من 20 سفينة وزوارق قتالية ومروحيات بحرية، فموسكو تسعى لتعزيز نفوذها من خلال مقترحات للأمن الجماعي في المنطقة، وتخطِّط لإنشاء قاعدة بحرية في السودان، مما يعكس رغبتها في وجود دائم في البحر الأحمر، فيما تجهد الصين لتوسيع نفوذها، ولكن بإستراتيجية تعتمد على الإقتراب التجاري والاقتصادي، حيث سيطرت على عدد كبير من الموانئ البحرية الرئيسية، وتستثمر في البنية التحتية لهذه الموانئ، في إطار مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها عام 2013، والتي أثارت مخاوف القوى الغربية من تعزيز النفوذ الصيني في المنطقة، بالإضافة إلى تأسيس أول قاعدة عسكرية لها خارج الصين في جيبوتي.(5)

إن ما يشهده العالم والشرق الأوسط من وجود القواعد العسكرية، لأهم القوى في العالم في دولة جيبوتي، التي تستضيف تسع قواعد عسكرية أجنبية، تابعة لكل من فرنسا وأمريكا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والصين واليابان، بالإضافة إلى تشكيل تحالفات بحرية لتأمين الملاحة في باب المندب، وكذلك المناورات البحرية التي تجري بين الصين وروسيا ودول أخرى في بحر العرب، يعكس بكل وضوح صورة أكبر للصراع الجيوسياسي على مستوى المنطقة، وأهمية هذه الممرات في إستقرار الشرق الأوسط من عدمه.

المنافسة الجيوسياسية وإبعاد الصين

أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق، أو ما يعرف بطريق الحرير الجديد في عام 2013، بهدف تعزيز الترابط الإقتصادي والتعاون بين الصين وبقيّة العالم، من خلال تطوير شبكة واسعة من البُنى التحتية والتجارية، وهدفها كذلك السعي إلى تعزيز دور الصين العالمي في السياسات الدولية، ضمن المنافسة المحتدمة مع الولايات المتّحدة الأميركية، وهذا له علاقة بكل من إيران وسوريا والعراق ولبنان، وكامل إقليم الشرق الأوسط، حيث تشنُّ اليوم حرباً كبرى على إيران، بعد أن سقطت سوريا ودُمرت قوة حزب الله في لبنان، وتمّ سحق حركة حماس في غزة.

هذا وتتألف مبادرة الحزام والطريق من قسمين، الأول هو الحزام الإقتصادي لطريق الحرير، وهو جزء برّي يهدف إلى ربط الصين بآسيا الوسطى وروسيا وأوروبا، ويمرّ عبر عدّة ممرّات إقتصادية، وهو ممر له موروث قديم قائم على تجارة الحرير التاريخية التي تعود إلى أكثر من 2500 سنة، حين كانت تجارة الحرير كنز الإمبراطوريّات الصينية المتعاقبة.

وكذلك طريق الحرير البحريّ للقرن الحادي والعشرين،وهو الجزء البحريّ، ويهدف إلى ربط الصين بجنوب شرق آسيا والمحيط الهندي وإفريقيا وأوروبا عبر الموانئ البحريّة، وهذا ما فعلته من خلال سياسات بناء الموانئ، أو إلتزامها عبر المحيطين الهندي والهادئ، فمبادرة الحزام والطريق الصينية تُعرف أيضاً بطريق الحرير الجديد، مشروع أطلقته الصين عام 2013 ، بهدف تعزيز الترابط الإقتصادي والتعاون بين الصين وبقيّة العالم، بهدف تعزيز الإتّصال وتقوية البنية التحتية، عبر بناء وتطوير شبكات واسعة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ، وخطوط الأنابيب وشبكات الإتّصالات السلكية واللاسلكية، لربط المناطق المشاركة، كذلك تنشيط التجارة والإستثمار وتسهيل تدفّق السلع والخدمات ورؤوس الأموال بين الدول المشاركة، وفتح أسواق تصدير جديدة للصين، وتأمين سلاسل التوريد العالمية، ويكون التعاون المالي أساسي، في تعزيز التكامل بين الدول المشاركة وتسهيل المعاملات الماليّة والإستثمارات، بالإضافة الى التبادل الثقافي والإجتماعي، وتعزيز التبادلات الثقافية والشعبية بين الدول، وبناء روابط أقوى بين الشعوب، من أجل تحقيق التنمية المشتركة بدعم التنمية الإقتصادية والإجتماعية في الدول المشاركة، وخاصّة الدول الأقلّ نموّاً، من خلال مشاريع البنية التحتية والإستثمارات، وهذا ما تدعو الصين إلى مقارنته مع المشاريع الغربية، التي تستخرج الأرباح من دول العالم الثالث من دون منافع أو تنمية، مع تعزيز نفوذ عملة اليوان الصيني من خلال تدويل العملة الصينية وجعلها أكثر حضوراً في التجارة العالميّة.

فالمبادرة تعمل على التكامل مع الدول والمنظّمات الدولية المشاركة، لوضع سياسات مشتركة، عبر التركيز على ربط البنية التحتية، وإزالة الحواجز أمام التجارة والإستثمار وتعزيز التبادل، لتسهيل الإندماج الماليّ، والسَّعي إلى إنشاء روابط أوثق بين الشعوب، من خلال تعزيز التبادلات والتعاون الثقافي، كما أكدت بكين، أنّ أهدافها هي تحقيق الفائدة لجميع الأطراف المشاركة، مرحّبة بإنضمام جميع الدول والمنظّمات الدولية، بحيث لا تقتصر المبادرة على منطقة جغرافية معيّنة، مع الإلتزام بالتعاون النظيف من أجل تنمية شاملة ومستدامة، وتشجّع على التنمية التي يقودها الإبتكار، وبإختصار، فإن مبادرة الحزام والطريق هي إستراتيجية صينية طموحة، تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الإقتصادي العالمي، من خلال ربط الصين بالدول الأخرى، عبر شبكات ضخمة من البنية التحتية والتجارية، بهدف تعزيز النموّ المشترك والتعاون، تستند على العمل مع الدول والمنظّمات الدولية المشاركة لوضع سياسات مشتركة

هنا، ومن خلال هذه المبادرة التكاملية، تلعب إيران دوراً محوريّاً وإستراتيجيّاً، بسبب موقعها الجغرافي والإستراتيجي، والذي جعلها ملتقى الطرق التاريخي، فإيران تقع في قلب أوراسيا، ولذا هي نقطة وصل تاريخية وجغرافيّة بين الشرق والغرب، على إمتداد طريق الحرير القديم، وتتمتّع إيران بسواحل طويلة على الخليج العربي وبحر عمان، تعطيها أرجحية ووصولا سهلاً إلى الممرّات المائيّة الدوليّة، خاصّة مضيق هرمز، الذي يمثّل شرياناً رئيسيّاً لنقل النفط، كما توفّر ممرّاً برّياً مهمّاً لربط الصين بآسيا الوسطى ثمّ أوروبا، وهو ما يقلّل من تكاليف النقل بشكل كبير مقارنة بالطرق البحريّة، بالإضافة لكل ذلك فإن إيران تمتلك إحتياطات هائلة من النفط والغاز، في حين تُعتبر الصين مستورداً رئيسياًّ للنفط الإيراني، ولذا فإن رؤية الصين تتجه لضمان إمدادات طاقة مستقرّة وطويلة الأمد من إيران، وربّما دمج طهران في ما يسمَّى جسر الطاقة الآسيوي العالمي المستقبلي، فيما تساعد إيران الصين على تنويع مصادر الطاقة الخاصّة بها، لتقليل إعتمادها على ممرّات بحريّة محدّدة غير آمنة، في حال تعرَّضت لأي حصار.

بالمقابل، تعتبر إيران مبادرة الحزام والطريق، مخرجاً لكسْر وضرب العزلة الإقتصادية المفروضة عليها، بسبب العقوبات الدولية، وقوة مضافة لتعزيز تجارتها وإستثماراتها مع الصين والدول الأخرى المشاركة في المبادرة، وتطلب الإستفادة من الإستثمارات الصينية في مشاريع البنية التحتية، لتطوير شبكاتها اللوجستية، بما في ذلك السكك الحديدية والطرق والموانئ، وتعزيز دورها كمركز تجاري إقليمي، والهدف هو الإندماج أكثر في الممرّات التجارية الإقليمية والعالمية، عبر مشاريع الحزام والطريق، مع التركيز على المشاريع المشتركة لتطوير شبكات السكك الحديدية التي تربط إيران بالصين وآسيا الوسطى وتركيا، لتسهيل نقل البضائع وتقليل أوقات العبور، السعي إلى تطوير موانئها، مثل ميناء تشابهار وميناء بندر عبّاس، لتعزيز دورها في طريق الحرير البحري، وبشكل أوضح، تُعتبر إيران شريكاً حيويّاً للصين في مبادرة الحزام والطريق، ليس فقط بسبب موقعها الجغرافي ومواردها الهائلة، لكن أيضاً لكونها جزءاً من إستراتيجية الصين الكبرى، لتوسيع نفوذها الإقتصادي والجيوسياسي عالميّاً، وتعتبرها فرصة للتغلّب على التحدّيات الإقتصادية وتعزيز دورها الإقليمي والدولي.

لكن الإشكاليّة في الأبعاد الجيوسياسية لهذه المبادرة، تكمن في تحدّي الهيمنة الأميركية، إذ ترى كلّ من الصين وإيران في مبادرة الحزام والطريق، فرصة لتحدّي الهيمنة الأميركية في النظام الإقتصادي والسياسي العالمي، وتعزيز نظام دولي متعدّد الأقطاب ينافس واشنطن وتفردها في قيادة العالم، ولذلك عقدت الصين وإيران إتّفاق شراكة إستراتيجية شاملة لمدّة 25 عاماً، كإطار للتعاون الإقتصادي والتجاري، ومن هنا ترى إيران الصين شريكاً إقتصادياً موثوقاً به، وداعماً في مواجهة العقوبات وتعتمد عليه، بينما تسعى الصين إلى الإستفادة من موقع إيران ودورها في تعزيز مبادرتها العالميّة.

وفي المقابل نرى من خلال ذلك، بأن هناك إرتباط واضح بين سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه إيران، وهدفه الأوسع لإحتواء التمدّد الصيني، حيث لم تكن سياسة الضغط الأقصى على إيران موجّهة فقط لتقييد برنامجها النووي وسلوكها الإقليمي، بل كانت تهدف أيضاً إلى تقويض علاقات إيران المتعمّقة مع الصين، وبالتالي تأكيد الهيمنة الأميركية في المنطقة ومواجهة النفوذ العالمي المتزايد لبكين، وخاصة أن الإدارة الأميركية الجديدة تنظر إلى الإتّفاق الاستراتيجي لمدّة 25 عاماً بين الصين وإيران، على أنّه تهديد مباشر للمصالح الأميركية، وهي تعمل لعزل إيران إقتصاديّاً، لكي لا تتمكّن من تقديم بديل جذّاب للصين، في إطار مبادرة الحزام والطريق، ولتحييد دورها كعقدة حيويّة في هذه المبادرة، حيث أتت العقوبات الأميركية المشدّدة لخنق الإقتصاد الإيراني، وقطع أيّ مصادر تمويل محتملة يمكن أن تستخدمها الصين في مشاريع البنية التحتية أو التجارة مع إيران، وإحدى الإستراتيجيات الكبرى لإدارة ترامب، هي إعادة تأكيد الدور الأميركي المهيمن في الشرق الأوسط، بعدما رأت أنّ الإدارات السابقة ربّما قد تراجعت عن هذا الدور، وهو ما فتح الباب أمام قوى أخرى مثل الصين وروسيا لزيادة نفوذها، كان التعامل مع إيران جزءاً من هذه الرؤية الأوسع، لإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة لمصلحة الولايات المتّحدة.

إلاَّ أن ما هو مؤكّد، أنّ المنافسة الجيوسياسية مع الصين، محور رئيسي لسياسة ترامب الخارجية بشكل عامّ ومع إيران، بموقعها الجغرافي الإستراتيجي ومواردها من الطاقة، هي لاعب رئيسي في مبادرة الحزام والطريق، وبالتالي إضعاف إيران أو إبعادها عن المدار الصيني، كان يُنظر إليه أمريكياً وإسرائيلياً كخطوة ضرورية، لإحتواء نفوذ بكين في منطقة حيويّة، من هنا كانت سياسة الضغط الأقصى على إيران، وهو ضغط على الصين نفسها، لتلتزم تطبيق العقوبات الأميركية وتقليل تعاملاتها مع إيران، وهو ما كان يمثّل جزءاً من حملة ترامب الأوسع، لمواجهة الممارسات التجارية الصينية التي إعتبرها غير عادلة، ومن هنا، يمكن القول إنّ سياسة ترامب تجاه إيران كانت متعدّدة الأوجه، لكنّ تعتبر سياسة إحتواء التمدّد الصيني هي جزء لا يتجزّأ من هذه الإستراتيجية، إذ كانت الإدارة الأميركية، ترى أنّ تقويض العلاقات بين طهران وبكين، سيخدم المصالح الأميركية الإستراتيجيّة في الشرق الأوسط وعلى الصعيد العالمي.

أما في ما يتعلّق بالحرب مع إيران، هناك تقارب في الأهداف الاستراتيجيّة العامّة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكنّهما مختلفين في الأساليب والتوقيتات التكتيكيّة، وفي مدى التصعيد المطلوب وتوقيتاته، فالأهداف المشتركة تقع في منع إيران من تملُّك السلاح النوويّ، وكلاهما يعتبر أنّ إيران نوويّة تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وتهديداً خطيراً للمصالح الأميركية والإقليمية، وكلاهما يسعى إلى تقويض شبكة الوكلاء الإقليميين لإيران، كحزب الله والحوثيين والفصائل العراقية والسورية المدعومة من إيران، والحدّ من قدرتها على التأثير في المنطقة، وإن لم يكن بالضرورة تغيير النظام بشكل صريح، فإنّ كليهما يهدف لإجبار إيران على تغيير سياستها في المنطقة، والتخلّي عن طموحاتها النوويّة.

أمّا التعارض والاختلاف فهو تفضيل الدبلوماسية على الخيار العسكري، حيث يرغب نتنياهو بالخيار العسكري، أو على الأقلّ التهديد العسكري الصريح والمستمرّ، كوسيلة رئيسية لمنع إيران من إمتلاك سلاح نوويّ تمهيداً لتقويض قدراتها، ويعتبر أنّ الضغط الإقتصادي وحده قد لا يكون كافياً، وأنّ العمل العسكري الوقائي قد يكون ضروريّاً، لذلك غالباً ما كان نتنياهو يدعو إلى عمل أكثر حسماً وسرعةً ضدّ البرنامج النووي الإيراني، وهو إفتعل حرباً حقيقية وأراد توريط ترمب فيها مباشرة طلباً للحسم العسكري، وبينما كان ترامب يدعم الضغط، وكان أكثر حذراً بشأن التورّط في حرب كبرى مكلفة، مفضّلاً التركيز على أميركا أوّلاً، وتجنّب الإنجرار إلى صراعات إقليمية مكلفة، حيث أنّ أيّ حرب شاملة مع إيران ستكون لها تداعيات إقتصاديّة وجيوسياسيّة ضخمة على الولايات المتّحدة والعالم، أمّا نتنياهو فهو يدرك أيضاً المخاطر، لكنّ إسرائيل ترى أنّ التهديد الوجودي الإيراني، يتجاوز تلك المخاطر، وبالتالي قد تكون أكثر إستعداداً للمجازفة.

وفي المحصّلة، يتقاطع ترامب ونتنياهو بأهداف مشتركة في مواجهة التهديد الإيراني، إلّا أنّ تكتيكاتهما وتقديراتهما للمخاطر، ومدى إستعداد كلّ منهما للتصعيد العسكري، تختلف في كثير من الأحيان، فيميل نتنياهو إلى رؤية العمل العسكري ضرورةً حتميّة، بينما ترامب على الرغم من خطابه القاسي، كان يفضّل الضغط الأقصى مع بقاء الباب مفتوحاً، ولو شكليّاً للدبلوماسية، وتجنّب حرب واسعة النطاق قدر الإمكان، وهذا أدّى إلى بعض التوتّرات والتباينات في المواقف العلنيّة والخاصّة بين الطرفين.

وفي المقلب الإقتصادي الآخر، تعتبر بكين منطقة الخليج مسرحاً أساسيّاً في لإستراتيجيّتها لإزاحة النفوذ الأميركي، وإعادة تشكيل ديناميكيّات القوّة العالمية، فهذه المنطقة توفّر لبكّين خيارات مختلفة لتحدّي الهيمنة الأميركية، عبر تزويد الصينَ بالطاقةَ التي تحتاج إليها لدعم إقتصادها الصناعي، وتوفّير المنطقة ما يقرب من نصف واردات الصين من النفط الخام، وترى بكين أنّ أمن الطاقة على المدى الطويل، ضروريّ لإستقرار النظام، بالإضافة الى أن الشرق الأوسط هو ممرّ جيوسياسي يربط شرق آسيا بأوروبا وإفريقيا، وقد أعطت مبادرة الحزام والطريق الصينية، الأولويّة للموانئ والممرّات اللوجستية، ونقاط الوصول التجارية في جميع أنحاء الخليج، وهو ما يمنح بكين نفوذاً على طرق التجارة البحريّة والبرّية الرئيسيّة، ويُتوقّع أن يُسهم طريق الحرير الرقمي، وهو الركيزة التكنولوجيّة لمبادرة الحزام والطريق، بما يصل إلى 255 مليار دولار في الناتج المحلّي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجين وأن يولّد 600 ألف وظيفة في قطاع التكنولوجيا بحلول عام 2030.

كما توفّر المنطقة للصين مزايا كبيرة من وفرة رأس المال والفرص لتصدير تقنيّاتها، يمكن لصناديق الثروة السيادية في السعودية والإمارات، أن تكون مصادر إستثمار راسخة ومستقرّة سياسياً للشركات الصينية، جاعلةً دول الخليج شركاء مثاليّين لبكين، في سعيها إلى عولمة سياستها الصناعية، وتوسيع نطاق منصّاتها التكنولوجيّة،وإذ تسعى دول الخليج إلى تحقيق تحوُّل رقمي سريع، يمكن أن يمنح هذا الشركات الصينية فرصاً أكبر، للحصول على التمويل وفرصاً كبرى ومزايا لتشكيل أنظمة بيئية تكنولوجيّة ناشئة من الصفر، كما تساعد المنطقة الصين على تقويض ضوابط التصدير وأنظمة العقوبات الأميركية، ويمكن للمنطقة وخاصّة الجهات الخاضعة للعقوبات مثل إيران، والصين العمل معاً للالتفاف على القيود والعقوبات الغربية، فمن خلال الإستفادة من الشبكات الإقليمية والقنوات المالية الغامضة، تُسهّل الشركات الصينية نقل التقنيّات الحسّاسة ورؤوس الأموال، مقوّضةً فعّاليّة العقوبات الأميركية وكاشفةً حدود القوّة الإقتصادية لواشنطن.

و هنا طوّرت الصين طريقة لإستيراد النفط الإيراني، مع تجنّب الشبكات المالية وخدمات الشحن الغربية، بإستخدام ناقلات النفط  المسمَّى بالأسطول المظلم، تشحن إيران النفط إلى الصين وتتلقّى المدفوعات من خلال بنوك صينية أصغر، ومع تراجع المصافي الكبرى المملوكة للدولة، بسبب مخاطر العقوبات، يتمّ الآن التعامل مع حوالي 90 في المئة من صادرات النفط الإيرانية بواسطة مصافي صينيّة صغيرة ومستقلّة، وهو ما يضعف التحالفات التي تقودها الولايات المتّحدة، وتشويه سمعة النفوذ الأميركي، فتُقدّم بكين نفسها بديلاً إستراتيجيّاً غير مُقيّد بالظروف السياسية لواشنطن، وتُروّج لروايات مُناهضة للولايات المتّحدة، تُصوِّر السياسة الأميركية مُزعزعةً للإستقرار، ومُهتمّةً بمصالحها الذاتية.

أما الولايات المتّحدة من جانبها، فلم تعدْ تنظر إلى الشرق الأوسط كمسألة هامشيّة، بل كساحة حيويّة للمنافسة الإستراتيجية مع الصين، وما يؤكد ذلك، هو تعهُّد السعودية بإستثمارات مرتبطة بالولايات المتّحدة بقيمة 600 مليار دولار، بما في ذلك أكثر من 100 مليار دولار في صفقات شراء أسلحة، وفي الوقت نفسه، تُعِدّ واشنطن صفقةً تهدف إلى إقصاء الصين عن البنية التحتية الخليجية المستقبلية في مجالات الذكاء الاصطناعي والمراقبة والحوسبة السحابيّة، حيث تُعدّ هذه الإتّفاقيات جزءاً من إستراتيجية الإدارة الأميركية للتصدّي لنفوذ الصين المتزايد من خلال جعل السيادة الرقمية محوراً أساسيّاً للشراكات الأمنيّة الأميركية، ويتجلّى هذا التحُّول في قرار ترامب رفع العقوبات عن دمشق، في محاولة لإعادة دخول ساحة إستراتيجيّة، تنازلت عنها إدارة أوباما للصين وروسيا وإيران، ولمنع بكين من إحتكار منطقة محورية إستراتيجيّاً في الشرق الأوسط، ففي منطقة تتّسم بالولاءات المتغيّرة وعدم اليقين الإستراتيجي، تؤكّد واشنطن  من جديد إلتزامها المتجدّد بتشكيل توازن القوى، في إعادة لإحياء دورها الذي أهملته لينوات عديدة.

في الختام

نحن إذاً، أمام مشهد جديد للطاقة في الشرق الأوسط،  ولتوازنات القوى الدولية والإقليمية المفروضة بفعل التحديات المستحدثة، بعد أن إزدادت أهميته خاصة في هذه المرحلة، بسبب عودة روسيا والصين إلى ميدان الصراع والتنافس، وإنكفاء موسكو بعد سقوط النظام، فأثَّرت على ميزان القوى داخل سوريا بصفة خاصة، وفي المنطقة بصفة عامة، وأصبحت التفاهات الدولية بين روسيا وأمريكا، هي التي تهيمن على الصراع وتؤطره، بما يخدم مصالحهما، بعيداً عن أي إعتبارات ومصالح الشعوب.

ولذلك تزايد إهتمام دول الخليج لدور الصين في الشرق الأوسط، وإحتضنت الرياض للقمم الصينية، التي أنتجت التعاون الإقتصادي معها، والإتفاق مع إيران، كلّها متغيِّرات أحدثت تبدُّلات تتعلق بدعم الشرق الأوسط، للتمتع بأكبر قدر من الإستقلالية والتأثير الإقليمي، بسبب تعدُّد الخيارات والتحالفات، مع عدد من الشركاء الإستراتيجيين الفاعلين.

ويبدو أن القوى الدولية الكبرى وبغية الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في العالم اليوم، باتت في تنافس متصاعد، لعدم ترك إدارة الإقتصاد العالمي لأطراف بعينها، حيث يزداد التنافس على إيجاد ممرات تجارية عابرة للحدود، ضمن حساباتهم الإستراتيجية الحالية والمستقبلية، أو ما يمكن أن نطلق على تلك المنافسة الدولية الجديدة بــ”حرب الممرات التجارية”، التي بدأتها الصين بمبادرتها الحزام-الطريق، عام 2013، وخططت لها لتمر عبر دول الشرق الأوسط، وبدأت بالتنفيذ بخطى متسارعة، ثم جاءت الفكرة المقابلة من قبل الولايات المتحدة الأميركية بطرح ممر إقتصادي، لتعزيز الإتصال والتكامل الإقتصادي بين آسيا والخليج العربي وأوروبا، ينطلق من ميناء موندرا في الهند، ثم يمرُّ إلى ميناء حيفا في فلسطين.

كما أن التقنيات الحديثة للتنقيب عن الغاز والبترول في أعماق سحيقة تحت مياه البحار، أبرزت إحتمال إحتواء حوض شرق المتوسط على مكامن وثروات للغاز تحتوي على إحتياطات هائلة، وهذه المنطقة هي كذلك البوابة لإحتياطات النفط والغاز الرئيسية في العالم في منطقة الشرق الأوسط والخليج حتى الآن، ومع مرور الوقت ستترك الإكتشافات الحديثة آثارها على التوازنات العامة في المشهد الجيوبوليتيكي، وهو ما يؤسِّس لإندلاع نيران أزمات إقليمية محتدمة، أو كامنة تشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وحتى روسيا وإيران.

فمن مصر إلى سورية عبر لبنان وإسرائيل وقبرص، يعتبر هذا المورد سلاحاً بحدين، في منطقة تشهد حرباً دولية، تبرد حيناً وتسخن أحياناً كثيرة، وحروباً بالوكالة وأزمات إقليمية مزمنة، وخلال مدى قصير من الزمن، سوف تصبح مصر وإسرائيل من مصدِّري الغاز الأساسيين، إذ سيكون الإنتاج في المستقبل أكبر بكثير من إحتياجات أسواقهما المحلية، ولأنه سيتم تسييل كميات من هذا الغاز في المرافق المصرية الموجودة، ستتجه من هناك الصادرات نحو أوروبا، حيث تراجع إنتاج بحر الشمال وهولندا بشكل حاد، لكن الصعوبة ستكمن في منافسة الغاز الروسي الرخيص الثمن، وفي هذا، تفسير واضح للجانب الإقتصادي من اللُّعبة الدولية الكبرى للسيطرة على الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، ومن جهة أخرى، يدلِّل بدء الحفر الإستكشافي قبالة سواحل قبرص، على أن حوض المشرق قد يحتوي على إحتياطات الغاز الهائلة، وكما إسرائيل، سيكون لبنان موطناً لإحتياطات كبيرة من الغاز في منطقته الإقتصادية الخالصة، ويرجّح أن تمتلك سورية أكبر إحتياط نفطي في المشرق، إلى جانب إحتمال وجود حقول جديدة للغاز والنفط في شمال وغرب العراق، تنتظر الإفراج عنها، وهو ما سيعزِّز التنافس ويؤسِّس لحروب مستقلبية حول موارد الطاقة في الشرق الأوسط، إذ ترتبط كل تلك القضايا، بقدرة كل دولة في الدفاع عن سيادتها وحقوقها ومصالحها، خلال حقبة إنهيار أو تفكك أو تبعية بعض الدول العربية المعنية، وإذا كان لا يُستبعد تماماً أن يتطور الصراع المتعدد الأطراف حول الطاقة، إلى مواجهة أو حرب إقليمية، تندرج في هذا الاطار، مسألة تحديد أو تعيين الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والحديث عن إحتمال إستئناف التوتر الإقليمي.

لكن الجبهة الأخطر تتمثل بالطموح التركي في إيجاد مصادر طاقة في عرض ، قبالة قبرص أو ليبيا أو اليونان، والقدرة في السيطرة والإستحواذ على أمن الممرات البحرية والموانىء وسلاسل التوريد وأمن الطاقة حول العالم، وفي قلب الشرق الأوسط، وربما ينذر بحقبة صراع وتجاذب طويلة المدى، اذا لم يكن هناك من كوابح إقليمية ودولية تجعل من الأفضل أن يكون إقتسام موارد الطاقة مدخلاً للتعاون، بدل الموت من أجل المياه أو البترول أو الغاز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع..

1-عبدالله أوجالان، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس الطبعة الثالثة،صفحة 458.

2-عبدالله خالد،مجلة شؤون عربية،العدد 195، 2023،الموقع الإلكتروني: https://arabaffairsonline.com/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7%D9%81%D8%B3-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A/

3-د. خطار أبو دياب – باريس، الأبعاد الجيوسياسية لصراعات الطاقة والنفوذ في شرق المتوسط  

https://www.awalan.com/Article/5603/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A7%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D9%88%D8%B0-%D9%81%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B7

4-العقيد الركن إسطفان الشدياق، مصادر الطاقة المستقبلية وأثرها على الواقع الجيوسياسي،مجلة الدفاع الوطني، العدد 97 – تموز 2016

5-مجلة جرهم ــ عميد عبد الرحمن الربيعي، باحث بالشؤون العسكرية والسياسية، الموقع الإلكتروني:

https://www.jurhum.net/news/210

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى