“الباكسا أميركانا .. بدايات ونهايات” .. حلقة نقاشية جديدة بمركز آتون

تحت عنوان “الباكسا أميركانا .. بدايات ونهايات” عقد مركز آتون للدراسات حلقة نقاشية جديدة، مساء يوم السبت 20 يوليو، لخبير الشؤون الأمريكية إميل أمين، تمحور الحديث فيها حول رؤية الولايات المتحدة لمفهوم السلام، وما لهذه الرؤية من انعكاسات على تعاطي واشنطن مع كثير من القضايا والملفات، وعلاقاتها مع المناطق المختلفة من العالم، لا سيما الشرق الأوسط.
وعقدت الندوة بحضور لعدد من الباحثين والصحفيين والإعلاميين والمثقفين، من بينهم الكاتب الصحفي فتحي محمود مدير مركز آتون للدراسات، والإعلامية أمل نعمان، وأسماء الحسيني مدير تحرير جريدة الأهرام، والكاتب الصحفية حنان حجاج، وخبير العلاقات الدولية نبيل نجم الدين، والكاتب الصحفي سيد أبواليزيد، ونوجين يوسف عضوة أكاديمية جنولوجي في الشرق الأوسط، والدكتورة سحر حسن أحمد المتخصصة في علم التاريخ.
مفهوم “الباكسا أميركانا”
وقد استبق الأستاذ إميل أمين الحلقة النقاشية بتقديم لها عبر حسابه على موقع “فيسبوك” بتساؤل هو: “إلى أين تمضي الولايات المتحدة الأمريكية في حاضرات أيامنا؟”، حيث تبدو علامة الاستفهام المتقدمة، مثيرة للكثير من الشغب العقلي، ويوضح أن “الباكسا أميركانا” نعني بها زمن السلام الأمريكي المفترض والمتخيل، أوالوهمي الذي داعب الخيال الأمريكي يعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو الصنو والمرادف لفكرة الباكسا رومانا أو السلام الروماني في زمن الإمبراطورية الرومانية
وفي بدية حديثه، قال إميل أمين إن الحلقة النقاشية تعقد في توقيت تبدو فيه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مهب الريح؛ فمستقبل ترامب نفسه معرض لخطر، لأمرين، أولهما: الحقائق التي تتكشف رويداً عن علاقته بالرجل الفضائحي الاستخباراتي، جيفري أبستين، وخاصة في ضوء ما نشرته عنه صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية من علاقة وثيقة ولصيقة لترامب بعالم أبستين المرعب.
أما الأمر الثاني فهو الظروف الصحية للرئيس الأمريكي، حيث كشف عن إصابته بالقصور الوريدي المزمن، وهي حالة يحدث معها ضعف في تدفق الدم بأوردة الساق، ما يؤدي إلى التورم وأعراض أخرى، على نحو ظهر من خلال تورم ملحوظ لساقيه، مشيراً إلى مشهد تعثره في الصعود إلى الطائرة.
تساؤلات عديدة
وخلال الحلقة النقاشية طرح “أمين” عديداً من التساؤلات، منها هل نحن أمام بداية نهاية الإمبراطورية الأمريكية، أم ليس بعد؟ وهل التكتلات الصاعدة، مثل البريكس، يمكن أن تفت في عضد الولايات المتحدة؟، ثم الأهم ما الذي يجعل أمريكا دولة عظيمة بالفعل؟، وما الذي يمكن أن يؤدي إلى انحدارها؟، وإذا انحدرت هل تسقط تماماً؟.
وما بين أزمة جيفري أبستين ومرض ترامب المزمن، يقول إميل أمين إن هناك سياقات سريعة تحدث في الأيام الماضية داخل الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنه حسب الدستور الأمريكي حال غياب الرئيس يكمل الولاية نائب الرئيس، أي جيه دي فانس نائب الرئيس الأمريكي حالياً، منوهاً إلى أنه منذ فترة طويلة وهو ينادي الدول العربية بألا تنشغل بـ”ترامب” وإنما عليها التركيز مع جيه دي فانس؛ فهو تلميذ منظمة أوبوس داي المغرقة في الأصولية المسيحية.
ويلفت إلى أنه من المخيف أنه في يوم 5 يوليو وفي معهد كليرمونت أعطى “دي فانس” محاضرة أكد خلالها أن الولايات المتحدة هي أرض الدم، منوهاً على أنه لو تابعنا العقول التي ساهمت في تكوين تفكير جيه دي فانس سنجد أننا أمام شاب أسطوري، فقد ساهم في تكوينه فلاسفة ومفكرين وقامات يندر وجودها في عالمنا العربي، فلديهم فن صناعة الزعيم.
عالم مغاير
ويقول خبير الشؤون الأمريكية إننا مقبلين على عالم مغاير، والحروب التي نراها بهذا الشكل لن تكون بهذا الشكل، في ظل الذكاء الاصطناعي وما بعده، وما يجري من تطوير كبير للأسلحة، فالروس – على سبيل المثال – صنعوا صاروخاً على هيئة غواصة اسمه بوسيدن، أي يحمل اسم إله البحار في الميثولوجيا اليونانية، حيث يستطيع هذا الصاروخ عمل تسونامي للساحل الشرقي الأمريكي كله، أيضاً أمريكا تتحدث الآن عن القبة الذهبية، التي بالأساس تعود فكرتها إلى قبل 40 سنة وكانت وقتها في إطار المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، لكن الآن تفعل ذلك من أجل مواجهة الصين، مشيراً إلى أن واشنطن في السابق كانت تتقارب مع بكين من أجل عزل الاتحاد السوفيتي، لكن ما يحدث الآن العكس حيث تتجه إلى موسكو لعزل الصينيين.
وتطرق إميل أمين إلى فكرة الهيمنة في العالم، مستعيناً مرة أخرى بمفهوم “الباكسا”، موضحاً أنه في زمن الإمبراطورية الرومانية كانت تسمى باكسا رومانا، أي السلام الروماني، الذي كان يعني الهيمنة والسيطرة الرومانية على العالم كله. وهنا تسائل هل الصين حالياً قادرة على القيام بالباكسا الخاصة بها، أو الهيمنة الخاصة بها وتسحب البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة؟!.
ويقول في هذا السياق، إن الأمريكيين وقعوا في خطأ كبير حين تخيلوا أنهم بانهيار الاتحاد السوفيتي سينفردون بمقدرات العالم، مشدداً على أنه طوال تاريخ البشرية لم يكن هناك قطب واحد مهميناً، معتبراً أنه في الواقع تكاد تكون الولايات المتحدة مهيمنة بقدر كبير؛ وذلك لأمرين؛ أن الأمريكيين لديهم الرجال والمرجعيات، وعندهم قدرة على الإبداع وصناعة المفكر والمبدع غير المثقل بأعباء الحياة والمعيشة، وإلى جانب ذلك لديهم الثروة.
أمريكا دولة المتناقضات
ولفت إميل أمين إلى أنه في ظل قوة أمريكا هذه كان الحديث يدور دائماً حول ما إذا كان على واشنطن الهيمنة أم التعاون مع العالم؟ّ!، موضحاً في هذا السياق أن أمريكا هي الدولة التي تعيش فيها كل المتناقضات، وتجتمع فيها الأضطاد، فدينياً على سبيل المثال الدستور علماني فأول كلمتين به “نحن الشعب”، لكن في الوقت ذاته هناك كلمتان أخريان على الدولار هما “نثق بالله”.
ويضيف أنه في واقع الأمر فإن الولايات المتحدة هي بلد الشياطين، وهي بلد الخير في الوقت ذاته، هي دولة فيها كل شيء ونقيضه في الوقت ذاته، مبرراً ذلك بأنه ربما الآباء المؤسسين ومنهم جون أدامز وبنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون قصدوا هذا الأمر لكي لا يسيطر فريق على آخر، مشيراً إلى أن هذا ما يمكن تلمسه من خلال عملية توزيع السلطات في البلاد، ومراعاة التوازن بينهم بشكل كبير، بحيث لا تفتئت مجموعة على أخرى.
من يحكم أمريكا؟
وعلى ذكر الحديث عن السلطات الأمريكية، طرح إميل أمين تساؤلاً آخر، هل السلطات الحالية التي نراها هي الحاكمة؟، وهنا لفهم طبيعة السلطة الحاكمة الفعلية في الولايات المتحدة عاد إلى المراحل الأولى لتأسيس الدولة، فبعد الانتهاء من كتابة الدستور الأمريكي سنة 1876، سألت إحدى السيدات بندامين فرانكلين ماذا صنعتم جمهورية أم ديمقراطية؟، فأجابها جمهورية إن استطعتم السيطرة عليها؟، فيما يجري الحديث حالياً عن تراجع الجمهورية في البلاد وتحولها إلى الملكية، في إشارة منه إلى أن الرئيس لا يكون هو الحاكم الفعلي.
ويدلل على ذلك بأنه خلال الستينيات حذر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور من المجع العسكري الأمريكي، الذي يتكون من 3 أضلاع، هم أصحاب المصانع العسكرية، وأعضاء الكونجرس، والثالث جنرالات الحرب، وقال في هذا السياق إن الديمقراطية تضيع لأن أصحاب المصالح يريدون مصالحهم، وأعضاء الكونجرس والجنرالات يقودون الحرب على الأرض.
ويشير إلى أنه هنا تظهر جماعات الضغط؛ فقد كانت المجمع العسكري في الستينيات فقط، والآن أصبحت عديدة؛ فهناك لوبي النفط الذي وضع الملايين في صندوق بوش الابن ليفوز بالانتخابات الرئاسية 2001، ولدينا لوبي الأوراق المالية في وول ستريت، ولوبي الأدوية، ولوبي الموانئ، وتيار اليمين الذي يحكم بأفكار توراتية نصية.
كما أن الرئيس السابق جو بايدن حذر في خطاب الوداع من مسألة كارثية أخرى سمّاها الأوليجارشية التقنية، أي أن حكومة أمريكا اليوم مختطفة، أو ستختطف من شخصيات مثل إيلون ماسك وجيف بيزوس وغيره، أي أن بضع أفراد فقط هم من لديهم الثروة وهم من يتحكمون في الحكومة؛ فهذا المجتمع التفني الصغير واقعياً خطف روح أمريكا، فلديه المال ولديه التكنولوجيا.
هل ستستمر قوة أمريكا؟
تحدث إميل أمين كذلك عن مدى استمرارية القوة الأمريكية، وهنا يوضح أن معنى القوة متغير، فمؤخراً توفي جوزيف ناي المفكر الأمريكي الكبير الذي يرجع له مصطلح القوة الناعمة، ويشير هنا إلى أن واشنطن كانت في الخمسينيات محبوبة بالشرق الأوسط؛ لأنها لم تكن غازية إمبريالية وإنما كانت قوة ناعمة، غزت العالم بزجاجة الكوكاكولا، أي بقوتها الناعمة، وكانت تسير بشكل جيد حتى حدثت الاختطافات التي سبق وأشرنا إليها؛ فقد كانت قوة تحرير حتى حيث أوقفت الفاشية والنازية واليابانيين.
ويقول أيضاً في هذا السياق، إن أمريكا لديها من الأسلحة ما لم يخطر على بشر، وهذا ما أكده ترامب، وربما يكون للأمريكيين علاقة بالتلاعب بالمناخ، مشدداً على قناعته بأنهم يقومون بذلك بالفعل، كما شدد على أن التلاعب بالمناخ يحدث في الوقت الحالي بقوة، والأخطر ما يحدث في القطب الشمالي من عملية “إذابة” للجليد هناك لفتح ممرات في القطب الشمالي، حتى لا يحتاجون إلى قناة السويس أو إلى طريق الرجاء الصالح، لكن من المتوقع أن تحل كارثة على البشرية؛ فقد يتم إيقاظ بكتيريا وفيروسات مدفونة من مئاتت بل آلاف السنين.
العلاقة بين أمريكا وإسرائيل
تطرق إميل أمين كذلك إلى العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، وفي هذا السياق قال إن الجميع يظن أن إسرائيل تابعة للولايات المتحدة، إلا أنه يرى أن الواقع غير ذلك، فالعلاقة عضوية بينهما، مشيراً إلى أن الخطورة أن تل أبيب تمد جسر العلاقات مع القوى القطبية القادمة وفي المقدمة منها الصين.
وعلى ذكر إسرائيل تطرق خبير الشؤون الأمريكية إلى الأفكار التي تسيطر على الإسرائيليين، إذ يقول إنه من سنة 70 ميلادية عندما تم تدمير أورشليم وحدث الشتات اليهودي بعدها، ظلوا في كل عيد فصح عندما يصافح شخص فيهم الآخر يقول له “العام القادم نلتقي في القدس”، حتى أسسوا الدولة في 1948، فترة زمنية طويلة للغاية لكنهم كما لوكانوا جيل يسلم جيل، كما يشير كذلك إلى هيمنة المال الإسرائيلي على العالم.
ويدلل على مدى قوة إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية بالتسريبات التي كشف عنها تقرير موقع أكسيوس مؤخراً من أن رئيس الموساد الإسرائيلي طلب من ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط دعم خطة تهجير الفلسطينيين من غزة، وأن 3 دول أبدت انفتاحاً على استقبالهم هي إندونيسيا وليبيا وإثيوبيا، وهنا يربط بين مسألة التهجير ومواقف ترامب وتصريحاته الأخيرة بشأن السد الإثيوبي، حيث قال إن الرئيس الأمريكي يلاعب مصر وإثيوبيا بمسألة السد مقابل استقبال الفلسطينيين.
وتطرق كذلك إلى موقع إيران في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، إذ يرى “أمين” أن ضرب الولايات المتحدة للمفاعلات النووية الإيرانية كان “مسرحية”، وتم تصوير الأمر على أنه ضربة، إذ يرى أنه من طهران إلى تل أبيب إلى واشنطن نحن أمام حلف للمصالح المشتركة، منوهاً إلى خلفية تاريخية إذ أنه لولا الفرس لما كان لليهود بقية اليهود؛ فقد أعادهم قورش الفارسي بعد مرحلة السبي البابلي، مشدداً على أن هذه “التمثيليات” بين إيران وأمريكا وإسرائيل الهدف منها إحداث توازنات معينة في المنطقة.
مستقبل أمريكا
وقد استقبل إميل أمين في نهاية الحلقة النقاشية بعض التساؤلات والاستفسارات والتي كان منها سؤال حول توقعاته بشأن مستقبل الولايات المتحدة، فيرى أنه ما بين الفيدرالية والكونفيدرالية، فإن التفكك بدأ بالفعل؛ فأكبر ولايتين وهما تكساس في الجنوب وكاليفورنيا في الغرب ينادون بالانفصال، تكساس التي بها وادي السليكون وكبريات شركات التكنولوجيا.
ويلفت إلى أن الولايات المتحدة التي بنيت في الأساس على فكرة بوتقة الانصهار، أي انصهار الجميع وبناء كيان جديد، قد تراجع فيها هذا الفكر، إلا أنه رغم ذلك يرى أن القوة العسكرية والعلمية والاقتصادية الأمريكية تجعل واشنطن قادرة على الهيمنة، وهناك محاولات تحاول كسر هذه الهيمنة لكنها تواجه عقبات، كما أكد أن التفكك سيأتي من الداخل الأمريكي، لكن الإشكالية أن العالم مرتبط بالولايات المتحدة، فهي قوة وازنة.
وضع الشرق الأوسط
وتطرق إميل أمين في إجاباته على تساؤلات الحضور، وكان منها موقف الشرق الأوسط من السياسات الأمريكية في الفترة الحالية، وهنا يوضح أن هناك نقاشات كبيرة داخل الإدارة الأمريكية والأوساط السياسية حول أهمية الشرق الأوسط وأنه قد بات أقل فائدة لـ”واشنطن”، ومن ثم عدم الحاجة إلى الانخراط في مشكلات أكبر، وفي هذا السياق كانت هناك معارضة داخلية لأي دور أمريكي في المواجهة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وإيران، باعتبار أنها بالأساس معركة تل أبيب.
ويشير كذلك إلى أن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط كانت تقوم على تأمين النفط في ظل احتياج واشنطن له، وأيضاً تأمين إسرائيل، وفي الوقت الحالي فإن الأمريكيين لن يكونوا بحاجة إلى النفط، كما أن الإسرائيليين باتوا قادرين على حماية أنفسهم، فهناك تيار يرى أنه لا حاجة إلى الاتجاه نحو الشرق الأوسط.
ويؤكد هنا، في إشارة إلى ما يجري في سوريا وخاصة أحداث السويداء التي تدخلت فيها إسرائيل عسكرياً، أنه طالما ظلت إسرائيل في المنطقة فلن يكون هناك استقرار، كما أن القرار الأمريكي سيظل مرتهناً بما تريد تل أبيب. وفي هذا السياق، رفض إميل أمين فكرة أن دور الإسلاميين يتراجع كأداة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، “بديل الجولاني في الوقت الحالي”، في إشارة إلى الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع الذي ينحدر بالأساس من تنظيم القاعدة الإرهابي.



