دراسات

التحول والإنتقال الى السياسة الديمقراطية في الشرق الاوسط

تحليل: الدكتور رائد المصري .. أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية .. دعا المفكر والمناضل عبدالله أوجالان زعيم حزب العمال الكردستاني، وفي خطوة غير مسبوقة وتعتبر مفصلية في تاريخ الصراع الكردي التركي،  دعا حزبه إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه،عبر رسالة مؤثرة ومفاجئة قرأها أحمد ترك، القيادي في حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب، خلال مؤتمر صحفي عقد في فبراير 2025،وهو ما يمهد الطريق لعملية سلام جديدة في تركيا، وإعادة تشكيل التحالفات في سوريا، حيث تحمل هذه الدعوة فرصة لإنهاء صراع دامٍ إستمر لعقود، لكن نجاحها يعتمد على تجاوب الأطراف المعنية.

المناضل أوجالان وهو المعتقل منذ عام 1999 في سجن جزيرة إمرالي، شكلت دعوته نقطة تحول تاريخية في الصراع المستمر منذ ثمانينيات القرن الماضي، بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، ومع ذلك، فهي تحمل دلالات سياسية وأمنية عميقة، وتأتي في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيوسياسية متسارعة، خاصة مع التطورات الجارية في سوريا والعراق، والتوترات المتصاعدة بين أنقرة وحلفائها الغربيين بشأن الملف الكردي.

حزب العمال الكردستاني لعب دوراً في كسب الوجود الكردي ووضع الشعب الكردي أمام حقيقة تاريخية تتعلق بالثبات والثقة بالذات، وبأن هناك كرد، وتحقق ذلك بفضل حزب العمال الكردستاني، ففي هذا العصر تم إثبات وجود الكرد كحقيقة بناءة، بفضل نضال حزب العمال الكردستاني الذي دمغ نجاحه بيده، إذ يُعد أهم مكتسب تاريخي له، ولذلك أصبح حزب العمال الكردستاني جزءاً من التاريخ.

إن حزب العمال الكردستاني كما يورد المناضل أوجالان هو التنظيم الذي دمر إنكار الوجود الكردي في العصر الحديث ووجد معناه التاريخي في إثبات وبناء الوجود الكردي، بإكتساب الوعي بالوجود والفوز به، حيث أنه من المهم تعميقه ليأخذ مكانه في التاريخ بهذا الشكل، لأنه إحتل المكان الأكثر أهمية في تاريخ الكرد كوجود ضد إنكار الوجود، والصهر والإبادة، وضد الإبادة العرقية.

فيعتبر المفكر والمناضل عبدالله أوجالان أن الحزب قد قدم مسؤولياته وخدماته بشكل كبير، وأنجز نجاحات كبرى، والأساس الذي إعتمد عليه حزب العمال الكردستاني، أي اشتراكية الدولة القومية، ليس مبدأ اشتراكي، وبما أنه يؤدي إلى أساس أيديولوجي وإنهيار فيجب التخلي عنه، فقد خاض حزب العمال الكردستاني حرب إثبات الهوية الكردية ونجح فيها، وبما أن حزب العمال الكردستاني تنظيم إشتراكي مشيَّد، فمن الطبيعي ألا يتمكن من توفير الحرية، لكنه تمكن من توفير الهوية وهذا هو إسهامه الإيجابي في التاريخ.

يقول أوجالان بأنه بدأ الكفاح المسلح من الصفر، حيث كانت هناك أسباب موجِبة، لأنَّ النَّهج الأساسي كان موجوداً بشكل عام في فترة البداية، وكان النضال التحرري الوطني القائم على إستراتيجية الدولة القومية هو الإتجاه السائد، لكن في الواقع الجديد، وجَبَ التخلِّي عن الدولة القومية، ليجلب معه التخلي عن الكفاح المسلَّح، من أجل التحرر والكفّ عن العمل بإستراتيجية التحرر المسلح أيضاً، وعليه، فإن الحزب مفهوم طبقي، وقد تمَّ بناؤه لحمل الطبقة إلى السلطة، أي أنه الجسر بين السلطة والطبقة، فبنظر أوجالان بات الحزب حدث طبقي ويعمِّق الطبقة، وبالتالي، يجب التخلِّي عن هذا الفهم للطبقة_الحزب، دون العمل على تأسيس حزب جديد سواء في سياق نقد الماضي، أو عند رسم منظور ورؤية للمرحلة القادمة.

التطور التاريخي والأبعاد الداخلية التركية

إعتبر مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان أن هناك حاجة إلى تحوُّل كبير، من أجل إصلاح العلاقات بين تركيا والأكراد في البلاد، بعد القرار التاريخي الذي إتخذه الحزب بحلّ كيانه وتسليم السلاح، معتبراً أن ما يقوم به، ينطوي على جرأة تامة وتحول كبير، والعلاقة التركية_الكردية أشبه بعلاقة أخوية مقطوعة، يتقاتل الإخوة والأخوات، لكنهم لا يستطيعون العيش بعضهم من دون بعض، داعياً إلى إتفاق جديد قائم على مفهوم الأخوة، وإلى ضرورة إزالة  كل الأفخاخ وحقول الألغام التي تُفسد هذه العلاقة، وإصلاح الطرق والجسور المقطوعة، في حين تراقب أنقرة عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني، حيث يتوقع المراقبون أن تُظهر الحكومة التركية إنفتاحاً متجدداً تجاه الأكراد، ويعتبر حزب العمال الكردستاني أن حلّ نفسه، يوفر أساساً قوياً للسلام الدائم والحل الديمقراطي، داعياً البرلمان التركي إلى لعب دوره عبر تحمل مسؤوليته التاريخية.

ففي رسالته قال أوجالان، إعقدوا مؤتمركم وإتخذوا قراراً، ويجب على جميع المجموعات إلقاء أسلحتها، ويجب على حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه، ولم يكتفِ الزعيم الكردي بذلك، بل تحمَّل المسؤولية التاريخية عن هذه الدعوة، ممَّا يعكس تحوُّلاً جذرياً في موقفه، بعد عقود من الصراع المسلح ضد الدولة التركية، فهي نقطة تحول في صراع دموي مستمر منذ عقود، ففي الداخل التركي، يتوقع أن تفتح دعوة أوجالان الباب أمام عملية سلام جديدة بين الحكومة التركية والأقلية الكردية، التي تُقدّر بنحو 20% من سكان البلاد، وقد تؤدي هذه الخطوة إلى نوع من تقليل التوترات الداخلية، خاصة في المناطق الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية، التي شهدت على مدار عقود مواجهات عنيفة بين الجيش التركي ومسلحي حزب العمال الكردستاني.

وتؤدي كذلك الى تعزيز الإستقرار السياسي والإجتماعي، ممَّا قد يسهم في دمج الأكراد بشكل أكبر في الحياة السياسية والإجتماعية التركية، وهو ما قد يعزِّز الوحدة الوطنية، ويخفِّف من حدة الإستقطاب العرقي والسياسي، وكذلك تحسين العلاقات الدولية، حيث يمكن لأنقرة الإستفادة من هذه الخطوة، لتحسين علاقاتها مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، الذين إنتقدوا مراراً سياساتها تجاه الأكراد.

لكن تبقى هناك أسئلة مهمة في هذا السياق، منها ما يدور حول إستجابة الحكومة التركية لهذه الدعوة، فالرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم، لطالما تبنُّوا مواقف متشددة تجاه حزب العمال الكردستاني، وقد يرون في هذه الدعوة فرصة لإنهاء التمرُّد المسلَّح بشروط الدولة بحسب تعبيرهم.

من ناحية ثانية يجب الإنتظار قبل الإستنتاج، بأن الأكراد سوف يستجيبون بدورهم تماماً لدعوة أوجالان، خصوصاً مع تعقُّد علاقاتهم، والتغيرات التي يشهدها الإقليم، والتي قد يرون فيها فرصاً لتحسين شروطهم.

الأبعاد الإقليمية في  الداخل السوري

 أعلن حزب العمال الكردستاني، حلّ نفسه وإلقاء السلاح، إستجابةً لدعوة زعيمه عبد الله أوجلان، وهو ما جعل تركيا تشيد رسمياً بالخطوة، لكن عينها تبقى على قوات قسد السورية، والنظام السوري الجديد، الذي لم يُثبِّت حكمه بعد، إذ وصف وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إعلان الحزب على أنها مرحلة تاريخية ومشجّعة، بينما إعتبر المتحدث بإسم حزب العدالة والتنمية عمر تشليك، أن القرار يشكّل مرحلة مهمّة نحو تركيا بلا إرهاب، مؤكداً أنّ نهاية العنف ستفتح باب حقبة جديدة بحسب تعبيره.

كما كشفت دائرة الإتصال في الرئاسة التركية، من إنّها ستتَّخذ الإجراءات اللازمة لحلّ الحزب بشكل سلسٍ ومنظّم، بما يضمن إنهاء النزاع الممتد منذ أكثر من أربعين عاماً، حيث أن للحزب مجموعات متصلة به، وتواجد عسكري في كلّ من سوريا والعراق، مما طرح سؤالاً بالغ الأهمية، حول قدرة التأثير لهذا القرار على المجموعات المسلحة الكردية الأخرى في البلدين…

تمتد تأثيرات دعوة أوجلان إلى الساحة السورية، حيث يُعتبر حزب العمال الكردستاني وحلفاؤه، مثل وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، من اللاعبين الرئيسيين في شمال البلاد، حيث تُسيطر هذه الفصائل على مناطق واسعة وتلعب دوراً محورياً في الحرب ضد داعش بدعم من الولايات المتحدة.

وهناك، قد تؤدي دعوة أوجالان إلى إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات، خاصة في ظلِّ تعقيدات الصراع السوري وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، بما في ذلك تركيا، الولايات المتحدة، روسيا، وإيران، كما أنها قد تشجع الفصائل الكردية على الدخول في مفاوضات، سواء مع الحكومة السورية أو مع قوى إقليمية أخرى، بهدف تحقيق تسوية سياسية تضمن حقوق الأكراد، وتساهم في إستقرار المنطقة، ففي أول تعليق له على إعلان أوجالان، قال قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، إنه إذا تحقق السلام في تركيا، فهذا يعني أنه لا مبرِّر لمواصلة الهجمات علينا في سوريا، مضيفاً أن إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجالان، يتعلق بحزب العمال الكردستاني فقط، ولا علاقة له بما يجري في سوريا، مشيراً إلى أن الإعلان إيجابي لأنه يدعو لإنهاء الحرب، وبدء عملية سياسية سلمية تعيد تحصين المكون الكردي داخل تركيا.

مراقبون يعتبرون إنّ قرار الحلّ، جاء في سياق محاولة الدولة التركية معالجة المسألة الكردية ولو بالحدّ الأدنى، بعد توقّع دولت بهتشلي رئيس حزب الحركة القومية التركية، والذي يُمثّل فعلياً الدولة العميقة في تركيا، بأن تكون هناك تغيّرات جذرية في المنطقة خلال السنوات القادمة، وتحسُّباً لهذه التغيّرات، أرادت تركيا تفكيك الصراع الكردي_التركي، من خلال إخراجه من الإطار المسلَّح، وإدخاله في المسارات السياسية والبرلمانية والتشريعية، فنظام الحكم في تركيا كان يناقش إحتمال حلّ حزب العمال الكردستاني منذ دعوة بهتشلي المفاجئة، في أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلى السماح لأوجالان بالتحدث أمام البرلمان للإعلان عن حلّ الحزب، رغم أنها تصنِّف كما العديد من البلدان الغربية، حزب العمال بأنه منظمة إرهابية، وكانت قد رفضت الدخول في مفاوضات معه، لكنها عرضت منح عفو محدود عن أعضائه، كذلك فإن الحزب لم يكن يعارض مبدأ إلْقاء السلاح، شرط التوصّل إلى إتفاق مع الدولة التركية يعترف بوجود قضية كردية وحقوق وممثلين للأكراد في البلاد، فالسلاح لم يكن هدفاً بحد ذاته للأكراد، بل كان وسيلة فرضتها ضرورة تاريخية منذ قرن من الزمن، بعد أن تمَّ قمع التمرّد الكردي من قبل الجيش التركي عام 1925.

فالبعض يعتبر أن القرار جاء نتيجة تقاطع رغبتين، الأولى رغبة الدولة العميقة في تركيا، لإستباق المتغيّرات الإقليمية، وتحييد موضوع طالما شكل خطراً وتهديداً على وحدة البلاد وإستقرارها الداخلي، والثانية سعي حزب العمال الكردستاني لتحويل القضية الكردية إلى قضية سياسية، حيث أن التغييرات الجوهرية في الإقليم، بدأت منذ معركة كوباني وهزيمة تنظيم داعش هناك، وتمدّدت لتشمل القضاء على التنظيم في سوريا والعراق، ومن بعده ما حدث في 7 أكتوبر في غزة، وما رافقه من ضربات إستهدفت أذرع إيران في لبنان وسوريا واليمن، فهناك بالفعل متغيّرات إستراتيجية في الشرق الأوسط، وهناك حديث جاد عن شرق أوسط جديد، بدأت ملامحه تتشكّل على الأرض، إذ أنّ هذا القرار ترافق أيضاً مع تحوّلات داخلية على مستوى الحزب والدولة التركية، ولربُّما مقاتلو الحزب تعِبوا، وتبيّن للطرفين أنّ لا أحد منهما قادر على إنهاء الآخر.

فخطوات تركيا التي إتخذتها السلطات في عهد حزب العدالة والتنمية رغم أنه محدودة جداً، مثل الإعتراف باللغة الكردية وإطلاق قناة تلفزيونية كردية، ربما تكون قد ساهمت في تليين الموقف، فالحزب خرج من مرحلة الدعوة إلى دولة قومية موحَّدة تقسم تركيا، وتحوّل إلى مسار أكثر واقعية، حيث إنّ كل هذه العوامل تراكمت على مدى عشرات السنوات، وترافقت مع المتغيّر الإقليمي الجديد، ما أسفر عن إنعقاد المؤتمر الثاني عشر للحزب الذي قرّر إنهاء الكفاح المسلّح.(1)

وعليه فإنّ تأثير حزب العمال الكردستاني يمتد إلى الدول المجاورة على مستويين، بالبعد  الأيديولوجي، عبر آلاف المناصرين في دول المنطقة، وبالبُعد العسكري، فلم يكن الحزب مجرَّد فصيل عسكري، بل كان قاعدة تدعم الشعب الكردي في أجزاء كردستان الأربعة، على المستويات العسكرية، الثقافية، الإعلامية، السياسية، والدبلوماسية، وعلى المستوى العسكري، سيكون الأثر محدوداً في سوريا، إذ أنّ قوات سوريا الديمقراطية قسد تُعَدّ ملفاً سورياً بالكامل، وترتبط بالديناميكيات الداخلية السورية، وبمساعي بناء سلطة لا مركزية، تعترف بحقوق الأكراد والمناطق الأخرى غير المركزية، فقرار الحزب قد يكون إيجابياً، لأن تركيا قد تكفّ عن إعتبار قسد إمتداداً لحزب العمال الكردستاني، وهو ما يخفّف من تهديدات الإجتياح أو التصعيد العسكري والسياسي ضدها، رغم أن هناك الكثيرون الذين يحاولون إشغال الرأي العام، بأنَّ قسد ستحل نفسها أو هي إنتهت، لكن قسد مرتبطة بالشأن السوري والتحالف الدولي الذي يضم 76 دولة ضد تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية داعش، والذي تشكّل في عام 2014 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يقدم دعماً لـ قسد.

وهذا التحالف الدولي اليوم، يسعى لحلّ شامل لكل سوريا، ربما عبر طرح نموذج اللامركزية أو الفيدرالية أو الإدارة الذاتية التي بدأت تلوح في الأفق بعد أحداث السويداء وقبلها في الساحل السوري، والحفاظ على مصالح كل المناطق والمكونات، بما فيها الساحل والجنوب والمسيحيون في الوسط، أما في العراق، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً، حيث أن مقاتلي الحزب في العراق لا يحملون قضية عراقية، بل يعتبرون أنفسهم جزءاً من الصراع مع تركيا، ويتمركزون في المناطق الحدودية الكردية العراقية-التركية، وقد أنشأت تركيا قواعد عسكرية في هذه المناطق منذ 25 عاماً، لمواجهتهم، وفي حال إنسحاب مقاتلي الحزب من هذه المناطق، فسيستدعي ذلك تفكيك عشرات النقاط العسكرية التركية داخل إقليم كردستان، علماً أنه توجد أكثر من نقطة عسكرية تركية في الإقليم، وإذا إنسحبت القوات التركية منها، سيتمكّن سكان نحو 900 قرية من العودة إليها، بعدما هُجّروا خلال السنوات الماضية نتيجة الحرب بين الطرفين.

وعليه اليوم، فإنّ مستقبل حزب العمال الكردستاني، صار يُطرح من أبرز الأسئلة الجيوسياسية والأمنية المطروحة، وتقارب تركيا معه، هو جزء من المداولات الجارية بين إيران والولايات المتحدة في المنطقة، وعلى تركيا أن تلتفت إلى أوضاعها الداخلية، فالوقت قد حان لحلّ القضية الكردية، وتعديل الدستور التركي ليعكس واقعاً تعددياً، ويُكرّس تركيا وطناً لكلّ مكوناتها، بأسمائهم الحقيقية، وشعوبهم المتنوعة، على أرضهم التاريخية، والى جانب ذلك، تبرز إمكانية تخفيف حدة التدخلات التركية في شمال سوريا، حيث لطالما برَّرت أنقرة عملياتها العسكرية، بمحاربة من تسمِّيه الإرهاب الكردي، وبالتالي فهي قد تضطر الآن إلى إعادة النظر في إستراتيجياتها الأمنية والسياسية.

وتأتي دعوة أوجالان، في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط إضطرابات سياسية وأمنية غير مسبوقة، مما يجعل منها فرصة تاريخية نادرة لإنهاء صراع دامٍ إمتد لعقود، لكن كما في تركيا، فإن إستجابة الأكراد في سوريا لدعوة أوجالان ليست محسومةً تماماً، وعلى الصعيد الإقليمي، قد تُعيد هذه الخطوة رسم خارطة التحالفات، خاصة إذا نجحت في تحقيق تقارب تركي_كردي، يؤدي إلى خفض التصعيد في سوريا والعراق.

إذن، ورغم الأمل الكبير الذي تحمله دعوة أوجالان، إلاَّ أن هناك العديد من التحديات التي قد تعرقل تحقيق السلام، منها الموقف داخل حزب العمال الكردستاني، فقد تواجه الدعوة رفضاً من الأجنحة المتشددة في الحزب، خاصة أولئك الذين يرون في الكفاح المسلح الخيار الوحيد لتحقيق وضمان الحقوق الكردية، كما يجب إنتظار التفاعل الحكومي التركي، إذ تعتمد فعالية هذه الدعوة على مدى إستعداد أنقرة لتقديم تنازلات سياسية، مثل تعزيز الحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، ومع ذلك كله، تشكل دعوة  المناضل عبد الله أوجالان لإلقاء السلاح وحل حزب العمال الكردستاني، منعطفًا تاريخياً يحمل في طياته فرصاً وتحديات في آن واحد.(2)

أوجالان  وتغيير مجرى التاريخ..

في خطوة محورية وجريئة في تاريخ القضية الكردية، دعا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، في بيان تاريخي مقاتلي حزب العمال الكردستاني “بي كاي كاي” (PKK) إلى إلقاء السلاح، مؤكداً تحمله “المسؤولية التاريخية” لهذه الدعوة، ويأتي هذا الإعلان في وقت حساس، مثيراً العديد من التساؤلات بشأن مستقبل الكفاح الكردي في المنطقة، وإنعكاسات هذه الدعوة على الوضع الكردي في كل من تركيا وسوريا والعراق.

وفي أول رد فعل من جانب الأكراد السوريين، أعرب قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، عن تأييده لبيان أوجلان، ووصفه بأنه إيجابي لأنه يدعو إلى إنهاء الحرب، مؤكداً أن هذه الدعوة موجهة تحديداً لحزب العمال الكردستاني، وبهذا، فإن التصريحات الكردية تميل إلى تحييد نفسها عن خطوة أوجالان، على الرغم من الإقرار بأنها قد تؤثر على الساحة الكردية في سوريا، وفي سياق التحليل الدقيق حول هذه القضية، فإن رسالة أوجالان، رسمت الخطوط العريضة لنزع السلاح، والدخول في المسار السياسي، حيث أنه من المرجح أن يستمر حزب العمال الكردستاني في إستخدام السلاح، طالما لم يتم التوصل إلى نتائج ملموسة على الأرض، خاصة في ظل الوضع المعقد لتيارات الحزب المتنوعة، أما فيما يتعلق بمستقبل القضية الكردية، فإن هذا التحوُّل قد يؤثِّر على النظام السياسي في تركيا، حيث من الممكن أن يشهد تغييرات في الدستور التركي تتعلق بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، مثل اللُّغة والخصوصية الذاتية والتمثيل السياسي، ولكن في الوقت نفسه، فإن نجاح هذه العملية يتوقف على مدى إلتزام الدول الغربية، ووقوفها الى جانب حزب العمال الكردستاني، وهو أمر قد يكون مفتاحاً للسلام في المنطقة.

فهذه الخطوة لا تعني نهاية القضية الكردية، بل هي بداية لتحوُّل في إستراتيجيات الكفاح، فالقضية الكردية ليست مسألة خدماتية، بل هي قضية تتعلَّق بالإعتراف بالشعب الكردي وحقوقه السياسية، وهذا التحوُّل قد يكون نتيجة لإنسداد الأفق أمام الأكراد في تركيا، وأن السلاح كان الخيار الوحيد للدفاع عن هويتهم، حيث أن القضية الكردية تتعلق بالإعتراف السياسي والإجتماعي وبحقوق شعب، وليس بتحقيق مكاسب إقتصادية أو ثقافية فحسب، وأي محاولات للتوصل إلى حل سياسي في تركيا، ستبقى مفتوحة طالما لم يتم الإعتراف بالشعب الكردي في الدستور التركي، وفي الحياة السياسية بشكل عام، وفي حال لم تحقق المفاوضات نتائج إيجابية، فإن الأكراد قد يضطرون للعودة إلى الخيار العسكري، وهو ما قد يؤدي إلى تصعيد جديد في المنطقة.

هذه الخطوة ستؤثر ربما بشكل كبير على التحولات السياسية في الشرق الأوسط، لا سيما في مناطق مثل سوريا والعراق، ففي حال استجابت القوى الكردية في سوريا والعراق لدعوة أوجلان، فقد يتغير ميزان القوى في المنطقة بشكل جذري، مما يفتح المجال لإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية، ولكن رغم التفاؤل الحذر الذي أبداه بعض القادة الكرد في العراق وسوريا، فإن التحديات تبقى كبيرة في ظل التعقيدات السياسية والعسكرية في المنطقة، فقد شهدت العقود الأخيرة تحولات كبرى في المنطقة والعالم، ورغم محدودية التأثير في الأحداث العالمية، لعبت تركيا دوراً محورياً في التطورات الإقليمية، ودخلت أنقرة بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، وبدعم من زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي، في تعاون واسع غيّر مجريات الأمور في الداخل والمنطقة، حيث كان لخطوات تركيا في مجالات الصناعة الدفاعية، والسياسات الإقتصادية المحلية والوطنية، والعلاقات الدولية، أثرٌ فاعل لم يقتصر على الداخل التركي، بل إمتد إلى الشرق الأوسط كله.

لقد أوضح الرئيس أردوغان إن إعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه، والتخلّي عن السلاح خطوة مهمّة، لكنها تتطلب مراقبة دقيقة، فالأهم من الإعلان هو مدى إلتزام التنظيم به، ومدى جدّيته في إلقاء السلاح أن الهدف من المرحلة يتمثّل في:

حلّ التنظيم نفسه، وتسليم الأسلحة دون شروط أو تحفظات، وإنهاء وصاية التنظيم على الساحة السياسية، ومنح الكيان السياسي الذي لم يستطع أن يصبح حزباً تركياً بفعل ضغط التنظيم، فرصةً للتطور في هذا الإتجاه، وتعزيز الجبهة الداخلية في وجه تصاعد الصراعات في المنطقة.. (3)

لكن القضية تبقى في ما إذا كانت الدعوة التي وجَّهها أوجالان، ستؤدي إلى نهاية الكفاح المسلح الكردي أم لا، أو تبقى أمراً معلقاً، حيث يعتمد نجاح هذه المبادرة على العديد من العوامل السياسية والعسكرية، بما في ذلك إلتزام الدول الكبرى بحل القضية الكردية، في إطار سياسي وسلمي، فلا تزال الكرة في ملعب القوى الكردية على الأرض، ولا سيما حزب العمال الكردستاني، فيما يتعلق بمسألة نزع السلاح والتحوُّل إلى العمل السياسي، ومع مرور الوقت، قد تتضح الصورة بشكل أكبر، حول ما إذا كانت هذه الدعوة، ستشكل بداية لمرحلة جديدة من الحلول السلمية، أو أنها ستكون مجرَّد صفحة جديدة في كتاب طويل من الصراع السياسي والعسكري.

إشتراكية الدولة القومية وإشتراكية المجتمع الديمقراطي

وبغية شرح مؤثرات المانيفستو الأخير، وما تضمنتها بقراءة جدية ودقيقة، التي قدمها المناضل أوجالان، فيرى أن المشاكل التي يعيشها الشرق الأوسط تاريخية، فقد عانت مجتمعاته عبر التاريخ مشاكل وأزمات كبيرة، والسبب الرئيسي لذلك هو التطور التاريخي للزمر الطبقية القاتلة، والطبقة الأرستقراطية، والنظام السلطوي الدولتي الذي طورته في هذه الأراضي، لقد بقيت المنطقة تتصارع مع المشاكل والأزمات الى ما يقارب 15 ألف عام، ولا يبدو أن هناك أي مجتمع آخر في أي منطقة أخرى من العالم، تصارعت مع هذه المشاكل لفترة طويلة كهذه.

يعتبر أوجالان أن الجغرافيا التي خرج منها أول مجتمع أمومي، هي المكان نفسه الذي ظهرت فيه أولى المشاكل والتناقضات المجتمعية، فقد بدأت أول قضية وأول تناقض إجتماعي مع إستعباد المرأة وإستعباد المجتمع، على عكس ما هو معروف، لم يبدأ الإستعباد بظهور الدولة، بل بدأ بإستعباد للمرأة، والبرنامج السياسي هو المجتمع الديمقراطي، الذي يعتمد على إستراتيجية برنامج السياسة الديمقراطية، فهناك علاقة وثيقة بين الإستراتيجية والبرنامج، وعندما تُمارس السياسة الديمقراطية، فإنها تؤدي إلى مجتمع ديمقراطي، حيث تقوم السياسة الديمقراطية بتوعية جميع الكومونات، وتنظيمها، وتنفيذ الأنشطة العملية بما في ذلك الإنتخابات، فالإستراتيجية الحالية برأيه، ليست الحرب المسلحة، لأنه عندم تمَّ حل  حزب العمال الكردستاني، تمَّ ذلك مع إستراتيجيته، القائمة على حرب التحرير الوطني، وهذا يساوي السلاح، وعندما تكون الإستراتيجية حرب التحرير الوطني، فإن أدواتها تكون السلاح وبالتالي، مع حل حزب العمال الكردستاني، تمَّ القضاء على إستراتيجيته تلقائياً عبر ما يمكن تسميته بالسياسة الديمقراطية، لتُستبدل إستراتيجية حرب التحرير الوطني بإستراتيجية السياسة الديمقراطية.

لكن الأهم برأينا لما أورده أوجالان لما قاله، بأنه لم يَعُدْ هناك سلام في اليد، بل هناك سلاح السياسة، حيث يُعرِّف كلاوزفيتز الحرب العسكرية بأنها شكل مكثَّف للسياسة، وأفضل أنواع السياسة هي السياسة الديمقراطية، وعليه، فإن تسييس المجتمع وتحويله إلى الكومونالية، مع زيادة كل أنواع التوعية والتنظيم، من الصحة إلى الرياضة، ومن الإقتصاد إلى الإنتخابات، تُسمَّى تلك السياسة بالديمقراطية، فهذه إستراتيجية مهمة للغاية، كذلك يدعو أوجالان، الى عملية التكامل مع الجمهورية الديمقراطية، لأنه في النهاية، ستُمارس السياسة الديمقراطية داخل الجمهورية الديمقراطية، عبر دمج السياسة الديمقراطية مع الجمهورية التركية،وهذا تفكير صائب ومتقدم في مجتمعاتنا الحالية، وهذا سيكون ضمانا ً للجمهورية الديمقراطية، فإذا لم تكن الجمهورية ديمقراطية، فلن يكون هناك تكامل، ولايمكن تحقيق التكامل مع جمهورية فاشية، وبالتالي، فإنه في مقابل السياسة الديمقراطية هو الجمهورية الديمقراطية، يتم التكامل والإندماج معها وهذا يحقق الهدف، حيث سيكون هناك أيضاً حزب للسياسة الديمقراطية، يعتمد بالفعل على السياسة الديمقراطية، ولكن بعد تجاوز حزب العمال الكردستاني، سيكتسب برنامجاً جديداً كحزب لجميع المجتمعات وجميع الشرائح، وينتشر في جميع أنحاء الجمهورية، وينفِّذ سياسة تكاملية ضمن حدود الجمهورية، هذا هو الأهم، كاشفاً بأنه قد يكون من المناسب تسميته حزب الجمهورية الديمقراطية، من أجل بناء مجتمع ديمقراطي بسياسة ديمقراطية ودمجه مع الجمهورية، وعليه، فإن تجسيد هذه النقطة سيكون أهم تطور ونجاح لحزب الشعوب الديمقراطي، وعدم القدرة على الدفاع عن التكامل وممارسته في جميع المجالات سيكون فشله محتماً.

هنا يجب الشرح والتأكيد على أن حزب العمال الكردستاني، تجسَّد على أساس ضرورة الحديث عن واقع كردي، وتاريخ كردي، لم يكونا موجودين، ولكنه كان بحاجة إلى بناء، لقد حاول حزب العمال الكردستاني عند ظهوره التعبير عن نفسه ببعض مفاهيم العصر الحديث، كمفهوم “الامة”، و “الطبقة”، ومفهوم “الدولة القومية”، ومفهوم “النظام الاشتراكي”، كما كانت حركة إنطلقت بمفاهيم مثل “الاحتلال”، و”مناهضة الإحتلال”، و”الامبريالية”، و”الامة المضطهدة”، وكان لديها في البداية وعي تاريخي محدود جداً، أراد مؤسسها نفسه تعميق الوعْي التاريخي بمفهوم كردستان المستعمرة، ففي هذا التأسيس، تكمن حقيقة قابلة للتوسُع بشكل كبير، ومع تطور النضال وتكثيفه  إيديولوجياً، ومع تزايد الصراع الإيديولوجي والسياسي والعسكري مع القوى المجابهة، بدأ الشعور بالحاجة إلى مزيد من الوعْي التاريخي، لكن المؤسسات والتشكيالت الديمقراطية إشكالية للغاية.

كما يصرُّ المناضل عبدالله أوجالان، بأن عملية إنهيار ذهنية الدولة القومية في الإشتراكية المشيدة، وإنهيار الإشتراكية المشيدة نفسها، قد جعل القضية أكثر إلحاحاً، وقد ظهر بوضوح في أن الإشتراكية المشيَّدة لا يمكن تجديدها إلاَّ بالأمة الديمقراطية، وأنها يمكن أن تستمر في مسارها التاريخي الأصلي، فالرأسمالية ليس لديها الكثير لتقدمه هنا، والرأسمالية لم تحوِّل هذا المكان إلى مكبّ نفايات فحسب، بل دمَّرته وأخضعته للإبادة العرقية،هذا واضح جداً بدليل، أن هذا الوضع الإقتصادي الذي نسميه مكب نفايات، يظهر في شكل نهب وإغتصاب وإكتساح للموارد الجوفية والسطحية، وإذا تحدثنا عن التكنولوجيا، فهناك حاجة لمعالجتها على أساس ما نسمِّيه الإقتصاد البيئي، وبإختصار، ضد الدولة القومية الرأسمالية، هناك الأمة الديمقراطية، ضد القوة المدمرة الرهيبة للرأسمالية، هناك العودة إلى الكومونالية، حيث لا يوجد تمييز بين البرجوازية والبروليتاريا، وضد الصناعوية، هناك مفهوم الصناعة البيئية الذي يكتسب الأهمية.

ولتحقيق حل ديمقراطي، يجب التفاوض الديمقراطي، عبر نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، الصادرة في 27 شباط، فالتفاوض الديمقراطي هو المنهج الأساسي، وحظيت بموافقة الدولة أيضاً، هذا هو معنى النداء وهذا هو ما يجب أن تفهمه الدولة، على الرغم من وجود بعض المناقشات الإستفزازية للغاية، إلاَّ أن الأمل كبير بأن تكون هذه التصريحات الإستفزازية نابعة من معايير صادرة من خارج الدولة، فتقييد المعايير الصادرة من خارج الدولة ومنعها من التأثير سلباً على العملية له أهمية تاريخية، فيجب إتخاذ خطوات دستورية لضمان السلام والحل الديمقراطي قانونياً ودستورياً، وفي هذا الصدد، فإن البرلمان التركي مكلَّف بمسؤوليته، وعليه أن يقوم بما يقع على عاتقه.(4)

رسائل أوجالان التاريخية

في 19  حزيران 2025 ، قدم المناضل عبدالله أوجالان رسالة مرة أخرى موسَّعة واضحة، كطريق لحل هذه الأزمات، وذلك من منطلق الواجب الأخلاقي، أشار فيها الى أن الحركة التي تستند إلى الرفاقية الإشتراكية، تعيش بعض الأزمات في الوضع الحالي، وبعد إعلانه في 27 شباط 2025 إطلاق نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، قام المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني، بالرد بإيجابية على نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، وكان هذا الموقف رداً تاريخياً، بالنظر للوضع الحالي كنتيجة تاريخية وقيمة.

أوجالان وفي ظلِّ التطورات الأخيرة والتحوُّل التاريخي، حضَّر مانيفستو المجتمع الديمقراطي، وهو يعتبر كردٍّ وتعبير عن إنتصار مانيفستو طريق ثورة كردستان الممتد منذ 50 عام، وهذا لا يقتصر على المجتمع الكردي التاريخي فحسب، نظراً لأهميته التاريخية للمنطقة وجميع قوى المجتمع العالمي، فهو مثال لإنتصار تقاليد المانيفستو التاريخي.

أوجالان إعتبر أن كلّ هذه التطورات هي نتائج لقاءاته في إمرالي، وهي لقاءات مستندة على الإرادة الحرة، إذ كانت هناك محاولات على أعلى المستويات، فالمرحلة الحالية تدفع إلى بذل خطوات عملية، ذات أهمية تاريخية، ولفهم المرحلة يجب إظهار حسن النية، والتقدم إلى الأمام، كما إعتبر أن حركة حزب العمال الكردستاني، كانت تستند إلى إنهاء إنكار الهوية، وتأسيس دولة مستقلة، وعليه فإن إنتهاء إستراتيجية حرب التحرر القومي، تم الإعتراف بالهوية، لذا تمَّ تحقيق الهدف الأساسي، ومن هذا المنطلق أتمَّت الحركة عمرها، بالإضافة إلى أنها عانت من التكرار والتوجه نحو أزمة، وعلى هذا الأساس سيتم مواصلة النقد والنقد الذاتي بشكل موسَّع، وبما أن السياسة لا تقبل بالفراغ، فإن إستراتيجية برنامج السلام والمجتمع الديمقراطي ” السياسة الديمقراطية” ، كتكتيك أساسي، يجب أن يُصان بقانون شامل، يتم في مرحلة تحديد مصير من الناحية التاريخية.

هناك جهود تبذل لفتح أبواب جديدة واتخاذ خطوات عملية واضحة،أما  لجهة الأفكار التي طرحها أوجالان في رسالته، فقد أتت على الشكل التالي:

1- أن تحمل الجميع للمسؤولية، وتحقيق هدف السلام والمجتمع الديمقراطي، لا يتحقق إلاَّ بتبنِّي منظور إندماجي إيجابي، وبناءً على ما سبق نستنتج أن حزب العمال الكردستاني، قد تخلَّى عن هدف بناء الدولة القومية، وبالتالي تخلَّى عن إستراتيجية الحرب، أي حل نفسه، وفي المرحلة التاريخية الراهنة هناك آمال بتحقيق مزيد من التقدم .

2- لجعل عمل اللجنة والمجلس ذو معنى، وإزالة مخاوف الرأي العام، في إطار الوفاء بالوعود التي تمَّ الإلتزام بها، ينبغي أن يرحب بنزع السلاح من قبل الجهات المعنية والرأي العام بشكل طبيعي، وإنشاء آلية إلقاء السلاح ستسهم في تحقيق تقدم في العملية، وإنتهاء الكفاح المسلح بشكل طوعي والانتقال إلى المرحلة القانونية والسياسة الديمقراطية، معتبراً أن هذا لا يعني الهزيمة، بل على العكس يجب تقييمها على إنها إنتصار تاريخي، بخصوص إلقاء السلاح سيتم تحديد الطرق المناسبة والقيام بخطوات عملية سريعة.

3- حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، الذي يعمل تحت مظلة البرلمان التركي، سيعمل مع الأحزاب الأخرى، وسيتحمل جميع المسؤوليات التي تقع على عاتقه ولإنجاح هذه المرحلة.

4- أما بصدد الحرية الشخصية التي نصَّت عليها جميع القرارات كشرط، فهي لم توضع ولا مرة كمشكلة في أي وقت، وفي المعنى الفلسفي لا يمكن فصل الحرية الشخصية عن المجتمع، بحرية الفرد يتحرر المجتمع، وبحرية المجتمع يمكن للفرد أن يتحرر، هذه الحقيقة لا يمكن تطبيقها إلاَّ بشكل طوعي.

وإنطلاقاً من إيمان أوجالان بالسياسة وسلام المجتمع لا بالسلاح، دعا الى تطبيق هذا المبدأ، حيث أكدت التطورات التي حدثت في الأيام الأخيرة في المنطقة، مدى أهمية وتنفيذ الخطوات السريعة للنداء التاريخي هذا، فقد  أظهرت هذه النقاشات في الداخل التركي والمنطقة وعلى المستوى العالمي، بأن الكرد كقوى حداثية وديمقراطية، يملكون برنامج نظري يصل إلى مرحلة إستراتيجية وتكتيكية جديدة،

وكل ذلك بناء على أساس قرارات المؤتمر الثاني عشر، والآراء والمقترحات الأخيرة المذكورة سيصار بالسير إلى الأمام لتحقيق النصر.

الرئيسة المشتركة لمنظومة المجتمع الكردستاني بسي هوزات، والتي قادت مراسم إلقاء سلاح مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي المكونة من 30 عضواً، قالت:”إتخذنا هذه الخطوة بقرار واضح، أنَّه عمل سياسي ونريد أن نرى ردَّاً”، في إشارة واضحة إلى أنَّ العملية بدأت بدعوة من القائد ولم يكن هناك أي تردد، وأضافت :”لا نريد أن نكتفي بمجرد نزولنا من الجبل، نريد أن نكون رواد السياسة الديمقراطية في آمد وأنقرة وإسطنبول”، معتبرة أنَّ النهج الحالي للدولة يجعل هذا التحول صعباً، أما لجهة الأسلحة التي تم تدميرها في المراسم، فهي بالنسبة لحركة تدعو إلى السياسة الديمقراطية، لم يعدْ السلاح عائقاً، حيث تمَّت إزالة هذه العقبات بجدية ومسؤولية، وبأنَّ عملية السلام لن تكون أحادية الجانب، في إظهار واضح وجدي، الإلتزام بإنتظار الخطوات اللازمة، والآن جاء دور الطرف الآخر، للقيام بالخطوات اللازمة، فنهج الدولة سيكون حاسماً لأجل إستمرار العملية. 

كما لفت بيان مجموعة السلام والمجتمع الديمقراطي، التي تشكَّلت بهدف تسريع مرحلة التغيير والتحول الديمقراطي، بكل ودٍّ وإحترامٍ كل الحاضرين كشهودِ عيانٍ على مسارِ العملية الديمقراطية التاريخية هذه، فمقاتلي ومقاتلات الحرية، شباباً وشابات، المنخرطين في “حزب العمال الكردستاني PKK“، جاؤا بناءً على النداء الذي أطلقه القائد عبدالله أوجلان في تصريحه بتاريخ 19 حزيران/يونيو 2025،هو مبني على النداء التاريخي، تحت مسمَّى نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، وكذلك بناءً على قرارات وتوصيات المؤتمر الثاني عشر لحزب العمال الكردستاني PKK، الذي إنعقد بتاريخ 5 إلى 7 أيار/مايو 2025.

ولأجل إنجاز وإنجاح مرحلة “السلام والمجتمع الديمقراطي”، وتعبيراً عن حسن النوايا، وعن العزم الصارم، وتأسيساً على سنّ قوانين التكامل والاندماج الديمقراطي، تم إتلاف الأسلحة بحضور الجميع، مع الأمل بأن تجلب هذه الخطوات الخيرَ والسلامَ والحريةَ للنساء والشبيبة بصورة خاصة، وللشعب الكردي ولكافة شعوب تركيا والشرق الأوسط بصورة عامة، وللبشرية جمعاء بصورة أعمّ.

فقد تشكلت قناعة تامة بالجملة التي ذكرها القائد عبدالله أوجلان بقوله: “إني أؤمن بقوة السياسة والسلم المجتمعي، لا بقوة السلاح، وأدعوكم إلى تطبيق هذا المبدأ عملياً وعليه، فنحن نشعر بالفخر والإباء كوننا نطبق هذا المبدأ التاريخي، ولا شك أن النضال سيكون شاقاً وعصيباً من الآن فصاعداً أيضاً”، بالتالي، وبهدف إنجازِ نجاحاتٍ موفقة، وتحقيقِ مكتسباتٍ ديمقراطية جديدة بالتأسيس على ذلك، أكدت هوزات على الإيمان بالصميم وبفكر وفلسفة القائد عبدالله أوجلان، وعلى الثقة بالنفس وبالرفاق وبالقوة الجمعية، وبضرورةِ وأهميةِ هذه الخطوة التاريخية الآن، في وقتٍ يتصاعد فيه القمع الفاشيّ والإستغلال في عموم العالم، وتتحول فيه المنطقة إلى بحورِ دماء، ويشعر الكرد بأمسِّ الحاجة إلى حياةٍ تسودها الحرية والمساواة والديمقراطية والسلام، مع تأكيد الدعوة لكل القوى الإقليمية والدولية، المسؤولة عن الآلام والمخاضات التي عاناها الشعب، بأنْ تحترم الحقوق القومية الديمقراطية والمشروعة تماماً ، وأن تدعم وتساند مرحلة الحل السلمي والديمقراطي.

كما ناشدت المجموعة، النساء والشبيبة والعمال والكادحين بالدرجة الأولى، وكل الشعوب والقوى الديمقراطية والاشتراكية، وجميع المثقفين والكُتّاب والأكاديميين والحقوقيين والفنانين والساسة، بأن يدركوا معاني هذه الخطوة التاريخية بنحو سديد، وأن يدعموها ويدعموا شعب الكعمل على خوض النضال الفعّال أكثر ضمن إطار الحرية الجسدية للقائد عبدالله أوجلان، والحل السياسي الديمقراطي للقضية الكردية، وإلى تعزيز وتصعيد النضال والمناصرة والتضامن الاشتراكي الأممي، مع الدعوة للقوى السياسية كافة إلى فهمٍ صحيحٍ لخصائص المرحلة التاريخية التي تمر بها المنطقة، وإلى إدراكِ مغزى مرحلةِ السلام والمجتمع الديمقراطي، التي أطلقها القائد أوجلان، وذلك من خلال عقد الحلقات التدريبية وتطبيق المهام التنظيمية والعملية بنجاح في سبيل تعزيز الحياة الديمقراطية.(5)

الغرب ومستقبل الأكراد في  المنطقة

يعتبر الاكراد ثاني أكبر مكوِّن بعد العرب في خريطة القوميّات السوريّة، لكنّ حضورهم في التاريخ السياسي والإجتماعي للبلاد، ظلّ طويلاً خارج دوائر القرار، قبل أن تعيدهم تحوّلات ما بعد 2011 إلى صدارة المشهد، بعد أن عانوا على مدى عقود من الزمن  التهميش القسري والمقصود، إلّا أنّ الثورة السوريّة فتحت أمامهم هامشاً جديداً للحضور، ليس فقط كمكوّن إجتماعي، بل كقوّة سياسية وعسكرية تمكّنت من فرض واقع إداري في مناطق واسعة من شمال وشرق سوريا، أبرزها الرقّة والحسكة ودير الزور.

لكن ومع سقوط السيطرة المركزية للنظام السوري، برزت القضية الكرديّة من جديد، بوصفها تحدّياً جوهريّاً أمام أيّ تسوية شاملة في البلاد، لتبرز تساؤلات مهمة حول مستقبلهم.. فهل يكونوا جزءاً من دولة موحّدة، أم يتّجهون نحو صيغة تعزيز الخصوصية الذاتية الدائمة داخل كيان منفصل فعليّاً؟

اليوم لا يوجد موقف موحّد من القضية الكردية داخل إدارة البيت الأبيض، وفي القرار الأميركي، فبينما تدفع بعض الجهات في واشنطن، نحو حلّ نهائيّ يتضمّن دمج قسد وقوّات سوريا الديمقراطية في بنية الدولة السورية، ترى أطراف أخرى مدعومة من بريطانيا وألمانيا، ضرورة الإبقاء على هذه القوّات مستقلّةً ليتُم إستخدامها في موازين القوى الإقليمية، وهذا يخفي في ثناياه صراعاً أعمق على النفوذ في سوريا، خاصّة في ظلّ تقارب تركي_أميركي قد يغيّر قواعد اللُّعبة، وتخوّف إسرائيلي متصاعد من إتّساع الدور التركي في مناطق الشمال.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه مبعوث واشنطن إلى سوريا توماس بارّاك،  يُعدان من أبرز الداعمين لدمج قوات سوريا الديمقراطية، ضمن مؤسّسات الدولة، لكن هناك معارضين لهذا التوجّه داخل التحالف الدولي، يرون أنّ  قسد تكون ربما أكثر فاعليّة عند بقائها خارج الأطر الرسمية، إذ يمكن إستخدامها للضغط على النظام أو حتّى على أنقرة، وفي هذا الإطار، شكّل إعلان تحوُّل حزب العمّال الكردستاني من الكفاح المسلّح إلى العمل السياسي محطّة فارقة، حيث جاء الإعلان بعد تفاهم تركي_أميركي غير معلن، وإعتُبر تمهيداً لتحوّلات أكبر في الملفّ الكردي على مستوى الإقليم، لكن خلف ذلك، بدأت تتصارع أجندات متناقضة في المنطقة وبين دول الإقليم، إذ تعارض إسرائيل بقوّة أيّ مكاسب إستراتيجيّة لأنقرة في سوريا، وواشنطن على الرغم من محاولاتها حفظ التوازن، لا تزال تفتقر إلى قرار نهائي في هذا الشأن، فيما النظام السوري نفسه، يعيش إنقسامات داخلية تجعله عاجزاً عن رسم إستراتيجية واضحة، ولذلك وفي هذا السياق، يُعتبر إتّفاق المبادئ الموقَّع بين الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قسد مظلوم عبدي في ظلّ رعاية أميركية، خطوة تكتيكيّة، الهدف منها كسب الوقت إلى حين بلورة تسوية دوليّة أشمل.

الخطّة الزمنيّة لتسليم السلاح تمتدّ لعدّة أشهر، قبل نهاية الصيف المقبل، وهي تشمل نزعاً تدريجيّاً لسلاح مقاتلي حزب العمّال على الحدود التركية، مقابل موافقة تركية لاحقة، على دمج قسد ضمن هيكل الدولة السوريّة، ليصار بعدها إلى دعوة البرلمان لعقد جلسات خاصّة تبحث ترتيبات المرحلة التالية لإنهاء ماسموه بالتمرّد، وقد ظهرت البداية الفعليّة لتنفيذ هذه الخطّة في مدينة السليمانية بإقليم كردستان العراق، رغم التوتّر بين حزب العمّال من جهة، وقسد والإقليم من جهة أخرى، إلاَّ أن الأكراد في إيران لا يقلّ عددهم عن 7 إلى 8 ملايين نسمة، ولا يزال بعضهم يلوّح بالتصعيد، وتحديداً جناح الحزب في إيران، إذ تشير المعلومات حتّى الساعة، إلى نيّة بعض المجموعات الإحتفاظ بسلاحها، وهو ما قد يُعقّد مسار التنفيذ.

عمليّاً، فإن عملية نزع سلاح حزب العمّال، يمكن لها أن ترضي معظم الأطراف، منها قسد وتركيا، إقليم كردستان، سوريا والعراق، بينما تراقب إيران المشهد بحذر، وتُبقي موقفها ضبابيّاً حتّى تتّضح النتائج، في حين أن أردوغان قد يقدّم هذه التحوّلات أمام جمهوره، بوصفها إنتصاراً سياسيّاً وعسكريّاً، بعد عقود من الصراع مع حزب العمّال الكردستاني، حيث أنّه من ضمن الخطّة التركيّة تشكيل لجنة برلمانية للإشراف، وسط تسريبات عن خطّة خماسيّة تقودها الإستخبارات الوطنية التركية، وتستلزم تنسيقاً مع حكومتَي الجوار في العراق وسوريا، تتابع خلالها ملفّات التنمية في المناطق الكردية، وتدعم تأسيس حزب سياسي كردي، يشارك رسميّاً في الحياة السياسية التركية، أمّا لناحية الوساطة بين أنقرة وزعيم الحزب المعتقَل عبدالله أوجالان، فيتولّاها رئيس الإقليم مسعود بارزاني، في دورٍ يُعيد تثبيته ضامناً لتوازن كرديّ في العراق والمنطقة.

اليوم يبقى الملفّ الكرديّ معلّقاً بين تناقضات السياسة الدولية، وتقاطعات القوى الإقليمية، وتباينات الميدان السوري،وتعقيدات المشهد الدولي، ليبدو المسرح مفتوحاً على كلّ الإحتمالات، سواء لتسوية شاملة، أو تفجير جديد في شرق الفرات، أم تسويات جزئيّة على حساب الطموح القوميّ الكرديّ، لكن المؤكّد أنّ صفحة طُويت وأخرى فُتحت، لكن لم تتّضح بعدُ معاني أبعادها وما بين سطورها إلى الآن، بإنتظار إكتمال فصول كتاب ترتيب المنطقة بكلّ عناوينه وهوامشه، فيما تحتفظ قوات سوريا الديمقراطية بدورها الفاعل في المعادلة السوريّة، كلاعب محلّي لا يمكن تجاهله، لكنّها تدرك أنّ تجاوزها ليس مستحيلاً، لا سيّما في ظلّ الخطط والحراك الذي تتبعه حكومة الرئيس أحمد الشرع في الداخل والخارج، وهي تواصل مناوراتها مستندةً إلى أوراق القوّة التي تملكها عسكريّاً وجغرافيّاً وإقتصاديّاً شرق الفرات، لكنّ تبدّل التوازنات والمعادلات السياسية لمصلحة الحكم السوري الجديد، المدعوم من قوى إقليمية عربية ودولية فاعلة، ومن بعض العواصم العربية والغربية، يفرض عليها تبنّي مقاربة أكثر واقعيّة في خياراتها، إذا ما أرادت الإحتفاظ بموقعها وتأثيرها لتبقى إلى الطاولة، خاصة بعدما جرى تحييد ورقة حزب العمّال الكردستانيّ من المشهد التركي، وحول ما إذا كان بمقدورها الحفاظ على ما تملكه من أوراق في مواجهة دمشق، لا سيّما في مطلب إجراء تعديلات على مذكّرة التفاهم الموقّعة بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي في 10 آذار الماضي، بناء على توصيات مؤتمر القامشلي الكرديّ..

فبينما تصرّ قيادات قسد على أنّها تتبنّى فكر عبدالله أوجالان لكنّها غير ملزمة بقراراته، تكرّر واشنطن ودمشق معاً نص رسالة موحّدة، تدعو الى الإندماج، لكن في إطار دولة واحدة وهويّة واحدة، حيث أن سوريا اليوم هي دولة معترَف بها، ومن يريد أن يكون جزءاً منها، عليه أن يقبل بشروطها، فالسؤال الأكثر إلحاحاً يتمحور حول مدى تأثير إنهاء دور حزب العمّال الكردستاني في تركيا على المشهد الكردي عموماً، وعلى قسد خصوصاً، فما تغير الآن لم يكن فقط في الخطاب، بل في الإستراتيجية الأميركية نفسها، فسقوط نظام الأسد أسقط معه سياسة واشنطن السوريّة، التي إعتمدت طوال عقد على مبدأ تقاسم النفوذ، وإبقاء البلاد بؤرة توتّر مزمِنة، تستنزف القوى المحلّية والإقليمية وتحفظ مصالح إسرائيل الأمنيّة والاستراتيجيّة، وفي ظلّ هذا التحوّل الكبير في المنطقة، لم تعدْ قسد في قلب المشروع الأميركي، بل على هامشه، ولربما تحوّلت من شريك ميداني لا غنى عنه، إلى طرف قابل للتجاوز أو إعادة التموضع، بحسب ما تقتضيه المصالح الإقليمية الجديدة.

كما أن هناك عواصم غربيّة، ترى أنّ قسد لا تريد الإنفصال عن سوريا، ولا تسعى إلى الحكم الذاتي، إلّا أنّها تتغافل عن حقيقة أنّها ما زالت تتمسّك بمشروع اللامركزية والإدارة الذاتية، وتسعى إلى فرضه كأمرٍ واقعٍ في شرق الفرات، حيث ما زال رهانها قائماً على متغيّرات خارجيّة، ربما قد لا تأتي، في المقابل، تتحرّك دمشق، مدعومة بعواصم إقليمية مؤثّرة، لرسم مشهد سوري جديد يُعاد تشكيله دون قسد، أو على الأقلّ دون الحاجة إلى مشاركتها أو أخذ موافقتها،إذ أنه كلما تقدمت التفاهمات بين أنقرة وأوجالان  يضييق الخناق على قسد، بالتنسيق مع حزب ديم، الذي يبدو مستعدّاً لمرحلة سياسية جديدة في تركيا، وتتقلّص الخيارات شرق الفرات، كلّما تسارعت خطوات الحوار بين حزب العدالة والتنمية وحزب ديم في أنقرة.

ما يزيد من الضغط على قسد اليوم، إلى جانب التحوّلات السياسية والعسكرية، هو الإمتعاض العشائري المتزايد في شرق الفرات، الذي لم يعد يقتصر على رفض سلوكيّات فرديّة، بل بات يعكس توجّهاً شعبيّاً عامّاً نحو العودة إلى كنف الدولة السورية، حيث يبدو أن وجود السلاح بيد قسد، فقد مبرّراته كعنصر من عناصر الضغط في المسار السياسي.

في الختام

القرار التاريخي الذي إتخذه زعيم حزب العمال الكردستاني بحلّ كيانه وتسليم السلاح، هو عمل ينطوي على تحول كبير، والعلاقة التركية_الكردية أشبه بعلاقة أخوية مقطوعة، يتقاتل الإخوة والأخوات، لكنهم لا يستطيعون العيش بعضهم من دون بعض، فهو إتفاق جديد قائم على مفهوم الأخوة، لإزالة كل الأفخاخ وحقول الألغام التي تفسد هذه العلاقة، وإصلاح الطرق والجسور المقطوعة، ويعتبر حزب العمال الكردستاني أن حلّ نفسه، يوفر أساساً قوياً للسلام الدائم والحل الديمقراطي، داعياً البرلمان التركي إلى لعب دوره في تحمل مسؤوليته التاريخية، في إستباقٍ واعٍ لضرورة المرحلة الآتية عليها المنطقة في الشرق الأوسط، من رسم للخرائط الجيوسياسية، ربما يذهب الاكراد كلهم ضحية هذا الضم والفرز والعَبَث في مكونات دول الإقليم.

فالغارات الإسرائيلية التي هزت أرجاء العاصمة السوريّة، وتصاعد الاشتباكات الطائفية في السويداء، كشف عن مدى هشاشة التوازن الإقليمي الجديد، ومحدوديّة النفوذ الأميركي على الرغم من رفع العقوبات والإشادة بالقيادة الجديدة في دمشق، فبينما كانت واشنطن تُشيد بما إعتبرته تحوّلاً معتدلاً في دمشق، كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف أهدافاً في العاصمة، مبرّرة ذلك بضرورة حماية الدروز، فيما تواصل إسرائيل تطبيق عقيدة الضربات الإستباقية ضدّ أيّ تهديد محتمل، لا سيما من إيران وحزب الله،على الرغم من الإنفتاح على دمشق، لا تملك إدارة ترامب أدوات ضغط حقيقية على إسرائيل، ولا ترغب في التصادم معها، فدورها ينحصر في الوساطة لا الحماية، والتغيير في دمشق لا يترجَم تلقائيّاً إلى مظلّة أميركية.

يبرز على الساحة السوريّة أيضاً تناقض في المصالح بين تركيا وإسرائيل وإن كان يُدار بحذر، وتجد واشنطن نفسها مضطرّة إلى الموازنة الدقيقة بين تحالفين إستراتيجيَّين متناقضين ومتباينين، فتركيا تضع على رأس أولويّاتها منع قيام كيان كرديّ مستقلّ على حدودها، وتسعى إلى توسيع نفوذها في شمال سوريا من خلال دعم فصائل محلّية مسلّحة وتفاهمات ميدانية، يقابلها تركيز إسرائيل على منع إعادة تمركز إيران وتسلّل الحزب، وعدم وجود جماعات جهادية على حدودها، خاصّة في الجنوب السوري، إذ يضع هذا التباين في الأولويّات البلدين أحياناً في مسارات متعارضة، لا سيما عندما تصطدم الفصائل المدعومة من تركيا مع الأكراد المدعومين أميركيّاً، أو عندما تستهدف إسرائيل مناطق تشهد نفوذاً تركيّاً متزايداً.

أمّا بالنسبة لواشنطن، فالتحدّي يكْمن في الحفاظ على تحالفاتها مع الطرفين: تطمين إسرائيل بمواصلة واشنطن تصديها للتهديد الإيراني والجهاديّ، مع الإستجابة لمطالب تركيا الأمنيّة بإنشاء مناطق آمنة وبسط نفوذها في الشمال، وقد قاد هذا الواقع إلى سياسة أميركية تقوم على التفكيك المرحليّ، تتغاضى بموجبه واشنطن ضمنيّاً عن بعض الغارات الإسرائيلية أو التدخّلات التركية، ما دامت لا تُهدّد الأهداف الأميركية الكبرى، مثل إحتواء إيران وهزيمة داعش.

لقد فبات مصير سوريا مرتبطاً بقدرة حكومة الشرع على التوفيق بين المصالح الإقليمية، وبناء نموذج حكم تعدّدي يُوحّد البلاد، ولا يُقسّمها، سيعني النجاح إندماجاً في أنموج لشرق أوسط جديد متصالح مع واشنطن وتل أبيب، وأمّا الفشل فسيضع دمشق في مستنقع جديد يتجاوز مأساة العقد الماضي، ويُربك حسابات ترامب وتحالفاته في المنطقة، فالغضب التركي ليس كافياً من تل أبيب، وتلويح أنقرة بالعواقب لردعها من دون أن تنزلق أنقرة إلى مواجهة مباشرة لا معنى له، وهو ما سيؤثر على مستقبل سوريا وعلى توازنات الإقليم.(6)

بعد الغارات الإسرائيلية الأعنف والأخطر على سوريا التي استهدفت وزارتَي الدفاع والداخلية، وجّه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تحذيراً غاضباً لتل أبيب بالقول: “لقد نفد صبرنا، هذا كلّ ما سنتحدّث عنه مع إسرائيل، فهي لا تريد السلام”، مطالباً الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي ودول المنطقة، بإظهار حساسيّة بالغة ووضع حدّ للتصرّفات الإسرائيلية، وإلّا “فمن المؤكّد أنّ عواقب وخيمة ستظهر في المنطقة” بحسب تعبيره، وحذّر من أنّ ذلك سيؤدّي إلى إلقاء “الجميع في النار”.

هذه التصريحات عكست تحوّلاً في التفكير التركي في معادلة مكانة إسرائيل، فبعدما كانت حليفاً، ثمّ منافساً، يُنظر إليها الآن بشكل متزايد على أنّها خصماً علنياً، يبعث القلق الدائم، لأن التمادي الإسرائيلي في الإقليم، يشير إلى مخاطر كبيرة، ليست فقط على سوريا بل على مجمل دول المنطقة، لا سيما تركيا أحد أبرز رعاة الحكم الجديد في دمشق، فحتّى الآن تبادلت كلّ من تركيا وإسرائيل الفوائد الاستراتيجية في الإقليم، إذ حصدت أنقرة إلى حدّ كبير حصيلة العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي قوّض القدرات العسكرية لحزب الله، الحليف الأبرز لنظام بشّار الأسد، مستغلة إنحسار دوره لتعزيز دعمها لحليفتها هيئة تحرير الشام برئاسة أحمد الشرع، وإطاحة النظام البعثيّ بعد انتظار طويل،  في المقابل حصدت إسرائيل ثمار التحوّل الكبير في سوريا، الذي أسهمت تركيا في صنعه، وتجلّى بإخراج إيران من الساحة السوريّة، وإبعاد أعدائها عن جبهتها الشمالية، وفتح الأجواء السوريّة، الأمر الذي مكّنها من توجيه ضربات مؤلمة في الداخل الإيراني.

لكنّ التقاطع في نقاط لا يحجب التباعد في نقاط أخرى، ذلك أنّ لكلّ من تركيا وإسرائيل رؤى مختلفة لمستقبل سوريا، ففي سنوات الأزمة، إنتعشت وحدات حماية الشعب الكرديّة، من حالة الفوضى والإضطراب التي شهدتها البلاد، وشكّلت كياناً شبه مستقّل خاصّاً بها، الأمر الذي إعتبرته أنقرة تهديداً خطيراً لأمنها القومي،لذلك تطمح أنقرة إلى تثبيت الحكم الجديد في سوريا والإستقرار فيها والقضاء على النزعات الإنفصالية، لدى بعض مكوّناتها، حتّى لا تتفشّى عدواها في الداخل التركي المكوّن بدوره من فسيفساء إثنيّة، وتحويل سوريا من جار مثير للمشكلات والقلق إلى شريك إقليميّ، وهذا بعكس ما ترغب به إسرائيل، التي تخشى من إعادة إحياء النظام المركزي في دمشق، ومن توسّع دور الحركات الإسلامية أيّاً كان إنتماؤها، ومهما أظهرت من مرونة في البداية، وتنظر إلى أيّ تحالف طويل الأمد بين سوريا وتركيا، مصدرَ تهديد إستراتيجيّ لها، وتفضّل سوريا مفكّكة ومنزوعة السلاح وينخرها التفتّت والنزعات الانفصالية، لا سوريا مستقرّة وحيويّة ذات تأثير إقليميّ.

يجعل هذا الاختلاف الجوهريّ العلاقة هشّة بين الطرفين، لا سيما مع تمادي إسرائيل في توجيه الضربات القوية للحكم السوري الجديد، وتشجيع الأكراد والدروز على العصيان، مستفيدة من حال التعثّر والإرباك وطغيان التطرّف لدى أجنحة وجماعات تشارك في السلطة أو تتغطّى بها، لكن وعلى الرغم من العلاقة الوثيقة التي تجمع الرئيس دونالد ترامب، مع كلّ من الرئيس رجب طيّب إردوغان وبنيامين نتنياهو، لم ينجح تدخّله الشخصيّ أو عبر مبعوثيه المرسلين الى الشرق الأوسط، وبعد رفع العقوبات عن سوريا بوساطة سعودية ودعم تركي،لم ينجح في لجم الإنتهاكات الإسرائيلية التي زادت وتيرتها، ولا في دمج الأكراد والدروز وسائر الأقليّات في إطار حكومة مركزية سوريّة، ولا في خفض المنسوب العالي للنزاعات الانفصالية.

لذلك، يدرك إردوغان أنّ إنفراط عقد الدولة السوريّة الحاليّة، قد يرتدّ وبالاً على الأمن القوميّ التركي، وأنّ نشوء أيّ كيان إنفصالي في سوريا من شأنه أن يتسبّب بعدوى، قد لا تصيب أكراد سوريا فقط بل أكراد تركيا مجدّداً، وأن يُعيد ملفّ سلاح حزب العمّال الكردستاني إلى المربّع الأوّل، فهو نفسه أي أردوغان، قد عبَّر مراراً عن خشيته من أن تمتدّ النيران المندلعة في المنطقة منذ  بدء عملية طوفان الأقصى إلى بلاده، وكان هذا التخوّف سبباً رئيساً في إطلاق بهتشلي مبادرته، لجعل تركيا خالية من المشاكل، التي تُوّجت بإعلان حزب العمّال حلّ نفسه والبدء بتسليم أسلحته، وذلك من أجل توحيد الجبهة الداخلية.

في المقابل ترى أطراف في المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيلية في النفوذ الإقليمي التركي المتزايد، على أنّه تهديد طويل الأمد أخطر من إيران، ذلك أنّ تركيا دولة أطلسيّة قويّة عسكريّاً، وتحظى بإمتداد ثقافي كبير على مساحة جغرافيّة شاسعة، وأكثر قبولاً في الأوساط السنّية العربية، لذا تواصل تل أبيب إضعاف الدور التركي في جنوب سوريا، وإستفزاز أنقرة شمالاً، بمحاولة الإقتراب من حدودها من خلال قسد، لفرض أمر واقع إستراتيجيّ جديد، لكنّ الرئيس التركي اليوم لا يبحث عن صدام، في وقت حسّاس وصعب، فهو يعرف أنّ أيّ اشتباك مع إسرائيل، ولو كان محدوداً قد يجرّه إلى خلاف شخصي مع ترامب، ويثبّت العقوبات الأميركية على بلاده أو يزيدها في ظلّ أزمة إقتصاديّة خانقة، ومن شأنه أيضاً إلغاء برنامج طائرات إف-35.(7)

أخيراً، فإنه إذا ما أتت الرياح التدميريّة لنتنياهو بعكس ما تشتهي السفن البراغماتيّة لإردوغان، وواصلت إستفزاز تركيا في سوريا، فلن تكفي المواقف الشعبوية لردع إستمرار العدوان الإسرائيلي المتواصل، الذي لا يميّز بين عدوّ أو صديق وبين ممانع أو ممالق، حيث لا أحد يضمن أنّ الصلف والجنون الإسرائيليّ المهووس بشرق أوسط على قياس نتنياهو، قد يقفان عند حدود في ظلّ رئيس أميركي يعتبر نفسه حاكم العالم،  فالصراع الجوهري اليوم هو بين قوى الحرية والديمقراطية من جهة، وقوى الدولة والسلطة من جهة أخرى، وتحقيق الإستقرار والسلام، يلزم قيام توافق ديمقراطي حقيقي، أو ما يمكن تسميته بـعملية “التكامل الديمقراطي”، الذي يعزز حالة من التوازن الإستراتيجي، وهو ما يمكن أن يُفضي إلى سلام دائم مبني على المجتمع الديمقراطي، كما طرحه المفكر والقائد عبد الله أوجلان في نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، الذي قدم رؤية وإستراتيجية جديدة هي “السياسة الديمقراطية”، كبديل مهم لتجاوز حالة العقم السياسي والهيمنة، والدولتية الأحادية، والإبادة المجتمعية التي يمثلها النظام الرأسمالي العالمي.(8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1-ماري-جوزيه القزي

https://www.bbc.com/arabic/articles/cj93019x322o

2-محمد سيف الدين،مقالة نشرت في 27/02/2025 –

https://arabic.euronews.com/2025/02/27/what-does-ocalans-call-to-lay-down-arms-mean-for-turkey-and-syria

3-نديم شنر، الموقع الإلكتروني: https://www.aljazeera.net/opinions/2025/5/13/%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D9%84%D9%88-%D8%AD%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A

4-عبدالله اوجالان، مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي،ص 80 و83 و85.

5https://arabic.anf-news.com/akhr-l-khbr/gg-121006?fbclid=IwQ0xDSwLhihBleHRuA2FlbQIxMQABHqqOY3C9rvMMeSqDGs863_3igLADUY_f_-63CuVdkneRrJFo6-dVfAagtPd6_aem_7fhNhRgYulOUYyVoNchr7w

6-موفق حرب،https://asasmedia.com/95245/

7- أمين قمورية، الموقع الإلكتروني،https://asasmedia.com/95233

8-أحمد شيخو، جدلية المجتمع والدولة: منبع الأزمة وطريق الحل، الموقع الإلكتروني، https://arabic.anf-news.com/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA/s-121313?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR6TV77oDkPiiohvBEy4AuqKioK5dPYXthAUIoxyTWv4iI37t1IMxTwke5U8gA_aem_sABdxnTnfobdq9fxO7aVRw

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى