تحليل: أسماء الحسيني .. بينما تتواصل أزمة الحرب السودانية الدموية المدمرة التي دخلت شهرها التاسع والعشرين وتتوالى فصولها، واليأس يخيم على قلوب السودانيين الذين أريقت دماؤهم وأهدرت كرامتهم وقطعت الحرب أوصالهم، تسربت أنباء مؤكدة عن زيارة سرية قام بها الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني والقائد العام للجيش السوداني إلى سويسرا التقى خلالها السيد مسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي لشئون أفريقيا والشرق الأوسط وبحث معه خطة سلام أمريكية، وعاد البرهان إلى السودان بعد اللقاء الذي استغرق ثلاث ساعات بترتيب قطري رفيع المستوى بحسب المصادر، ليتخذ قرارات مهمة أثارت العديد من التأويلات، بإخضاعه القوات المساندة للجيش لقانون القوات المسلحة وإحالة ضباط كبار في الجيش إلى التقاعد، وإعادة تشكيل رئاسة هيئة الأركان، كما تسربت أنباء عن زيارة مماثلة لوفد من قوات الدعم السريع إلى سويسرا لذات الغرض.
فهل تدخل واشنطن بثقلها على خط الأزمة في السودان؟ وما هي دوافعها وراء هذا التدخل؟ وهل تنجح واشنطن بالفعل في إطفاء نار الحرب المشتعلة في السودان؟ وكيف سيكون الحل القادم؟ وهل يكتب له الديمومة وتحقيق السلام؟ وهل تتجاوب الأطراف السوداني مع التحركات الأمريكية؟ أم تظل تناور وتتلاعب وتعمل على تعطيل الحلول المطروحة التي قد تراها لغير صالحها؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير من الهواجس والشكوك والظنون تطرح نفسها الآن وبشدة على المشهد السوداني وعلى السودانيين في كل مكان، وقد أثارت التحركات الأمريكية وقرارات البرهان لغطا واسعا في الأوساط السودانية، إذ نظر إليها البعض على أنها خطوة إصلاحية، وأنها تحد من نفوذ حلفائه الإسلاميين أو تطيح بهم استجابة لمطالب المجتمع الدولي والإقليم، بينما قلل آخرون من أهميتها، ورأوها مجرد مناورة وتلاعب بالأوراق.
وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أعلن في يوليو الماضي عزم واشنطن تسهيل إحلال السلام في السودان، الذي قال إنه يعاني من مشكلات كثيرة.
ويبدو أن الرئيس ترامب بات يشعر بأحقيته بجائزة نوبل، بعد السلام الذي يرى أنه حققه بين باكستان والهند، وإيران وإسرائيل، ورواندا والكونغو الديمقراطية، والذي يسعى لتحقيقه بين إسرائيل والفلسطينيين، وها هو يريد أن يحقق سلاما آخر في السودان وليبيا وغيرها من دول القارة الأفريقية الغنية بالثروات المعدنية المهمة والضرورية في الصناعات الحديثة.
قضية المعادن والمصالح حاضرة في كل التحركات الأمريكية بشكل فج، وواشنطن تدفع بشركاتها العملاقة نحو أفريقيا، وعينها على إزاحة منافسيها الشرسين ولاسيما روسيا والصين، اللذين تمددا في السنوات الماضية في القارة الأفريقية بشكل أزعج الولايات المتحدة، كما أن مصالح إسرائيل والتطبيع القسري مع دول المنطقة العربية حاضران أيضا بقوة في أي تسوية أمريكية مرتقبة في السودان، وقد كانا مطروحين بقوة خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب.
لم يكن إعلان ترامب هو الأول من واشنطن بالتوجه نحو حل الأزمة في السودان، بل سبقته تحركات على مدى الأسابيع الماضية، يبدو انها كانت تمهد الأجواء لهذا التدخل، ومن بينها تصريحات مستشاره مسعد بولس أكد فيها أن هناك مساع لحلول سلمية تبحثها إدارة ترامب من أجل حل الوضع في السودان، وأن الملف السوداني موضوع على الأجندة الأمريكية، ويحظى بأولوية وأهمية لدى الإدارة الأمريكية، ووصف بولس الأزمة في السودان بأنها أكبر مأساة في أفريقيا والعالم، وأنها تؤثر على الوضع الإنساني الإقليمي، بسبب عدد النازحين داخل السودان واللاجئين خارجه.
وفي وقت سابق، فاجأ وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الحاضرين خلال حفل توقيع اتفاق السلام بين رواندا والكونغو الديمقراطية بإعلان أن الوجهة التالية للسياسة الخارجية الأمريكية ستكون وقف الحرب وتحقيق السلام في السودان.
وفي تطور لافت، قامت واشنطن بتشكيل جديد للمجموعة الرباعية بشأن السودان، وتضم الولايات المتحدة، ومصر والسعودية والإمارات، وفي السابق كانت الرباعية تضم بريطانيا بدلا من مصر، وخلال اجتماعهم في واشنطن اتفق وزراء خارجية دول الرباعية على تكثيف الجهود الدبلوماسية لحث الأطراف المتنازعة في السودان على وقف إطلاق النار، والدفع بتسوية سياسية تعيد الاستقرار.
وقد فرضت الولايات المتحدة قبل بضعة أشهر عقوبات على الحكومة السودانية بعد اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية العام الماضي، وهو ما نفته الخرطوم، وتشمل العقوبات قيودا على الصادرات الأمريكية ومبيعات الأسلحة والتمويل لحكومة الخرطوم، هو ما يمكن النظر إليه كنوع من الضغط الأمريكي.
وقد تباينت ردود الأفعال السودانية تجاه التحرك الأمريكي، حيث رحب به التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود” برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السوداني السابق، وأشاد التحالف بالدور الأمريكي الإيجابي في حل الأزمات بالقارة الأفريقية، مبديا أمله في أن يعضد هذا التوجه مسار الحل السياسي، ويمهد الطريق نحو تحقيق السلام والتحول الديمقراطي بما يتماشى مع رغبة غالبية أهل السودان.
ومن جانبه قال حزب الأمة القومي، إن التحرك الأمريكي خطوة إيجابية، حيث إنها تأتي في ظرف بالغ الدقة يمر به السودان في ظل استمرار الحرب وتفاقم المعاناة الإنسانية، مؤكدا أن استمرار الصراع ألقى بظلال قاتمة على الاقتصاد الوطني، كما يشكل تهديدا خطيرا للأمن والاستقرار في السودان والمنطقة بأسرها، ودعا حزب الأمة القومي المجتمع الدولي إلى الاستماع لصوت السودانيين ومساندة خياراتهم الحرة من أجل الوصول إلى حل سياسي شامل ومستدام، يعالج جذور الأزمة وينهي دوامة العنف والانقلابات ، ويفتح الطريق نحو تعاف وطني شامل وتنمية مستدامة، ويمهد لبناء دولة مدنية ديمقراطية.
بينما تساءل آخرون ما إذا كان ترامب فعلا حليفا موثوقا في مسار السلام السوداني، أم سيعيد إنتاج أخطاء الماضي عبر دعم العسكر وتجاهل القوى المدنية، أو عبر حلول لا تحافظ على وحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه وإرادة شعبه.
يأتي ذلك في وقت تتفاقم الأوضاع الإنسانية الكارثية وتزداد خطورة الأوضاع الأمنية خاصة في إقليمي دارفور وكردفان، والأزمة في السودان وفقا للتقديرات العالمية هي الأسوأ على مستوى العالم، فهي أكبر أزمة نزوح ومجاعة والأسوأ على حياة الأطفال، وقد وصل عدد القتلى قبل شهور إلى 150 ألف قتيل، وما زال الحبل على الجرار، حيث يحاصر السودانيون في أنحاء البلاد وفي أماكن النزوح واللجوء الحرب والمجاعة والأوبئة والسيول وتدني الخدمات وارتفاع الأسعار، وتحذر المنظمات الدولية من أن 30 مليون سوداني يحتاجون المساعدة.
وها هي منظمة الصحة العالمية تعلن تسجيل نحو 100 ألف حالة إصابة بالكوليرا في السودان خلال عام واحد، كما أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” تحذيراتها بأن أكثر من 640 ألف طفل سوداني دون الخامسة معرضون للخطر مع تفشي الكوليرا في شمال دارفور، بالإضافة للعنف والمرض والجوع .
في حين تتواصل المعارك في العديد من الجبهات المشتعلة في إقليمي دارفور وكردفان، كما تشهد مدينتا كادقلي والدلنج بولاية جنوب كردفان تدهورا كارثيا في الوضع الإنساني مع تفاقم الأوضاع الأمنية والمعيشية بسبب الحصار المفروض عليها من جميع الاتجاهات، والذي أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية، وشح في السلع الضرورية مثل الدقيق والسكر والزيت والذرة، مما اضطر أعداد كبيرة من المواطنين إلى النزوح، لكنهم يواجهون ظروفا مأساوية.
وفي حين يشتد حصار قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر المنطقة الوحيدة التي لم يبسط سيطرته عليها في إقليم دارفور، اتهم الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه قوات الدعم السريع بالاستعانة بمرتزقة أجانب في معارك الفاشر، من جنسيات كولومبية وتشادية وجنوب سودانية وإثيوبية وكينية.
وتزداد أوضاع السودان مأساوية على وقع إعلان الحكومة الموازية للدعم السريع وحلفائه، التي أطلقوا عليها حكومة السلام بينما يبدو أنها تعزز فعليا الانقسام وتؤجج الحرب.
في حين تصطدم حكومة رئيس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس التي جعله شعارها “حكومة الأمل” بوضع شائك معقد، بسبب الأوضاع الداخلية والخارجية التي وجدها، والظروف والملابسات التي تحيط بالسودان كله في هذه المرحلة، وفي مقدمتها استمرار الحرب الدموية المدمرة وتداعياتها السلبية الهائلة، ومعاناة ملايين من أبناء الشعب السوداني من النازحين واللاجئين، والدمار الواسع وانعدام الأمن والسلام في كثير من مناطق السودان، ورغم الترحيب المبدئي من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ودول بالدكتور كامل إدريس وحكومته، ما زال الجميع يصوبون الأنظار وينظرون للصلاحيات الممنوحة له، والوجهة التي سيتخذها للتعامل مع الحرب، وما إذا كان مطلق اليدين، وهل يمثل بالفعل الحكومة المدنية التي يأملها الشعب السوداني ويضعها المجتمع الدولي شرطا أساسيا، وعلى ضوء هذه المسألة الجوهرية سيتحدد مسار التعامل مع الحكومة والسودان.
وقد واجه الدكتور كامل إدريس في الشهور القليلة الماضية التي قضاها على رأس الحكومة السودانية تحديات وصعوبات كبيرة من قبل حلفائه وخصومه على حد سواء، وخصوصا تحدي تشكيل الحكومة التي كان يريدها حكومة كفاءات، بينما أصرت الحركات المسلحة المتحالفة مع الحكومة والجيش الحصول على ذات المواقع الوزارية التي كانت تشغلها في السابق، وخاصة وزارتي المالية والتعدين، أما خصومه من القوى السياسية التي لا تعترف بشرعية النظام برمته فبينه وبينهم هوة كبيرة.
أما الشقاق أو الخلاف بين الحركات المسلحة وبين قادة الجيش والحكومة فليس خافيا على أحد، وكل يوم تتكشف أحد مظاهره، وربما تعتبر هذه الحركات بعض قرارات البرهان الأخيرة موجهة ضدها أيضا.
وفي هذه الأثناء، طالب التحالف المدني الديمقراطي السوداني “صمود” الذي يترأسه رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك بضرورة تصنيف حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقا والحركة الإسلامية السودانية الواجهة السياسية للتنظيم الإخواني كمنظومة إرهابية، وقال تحالف صمود في بيانه، إن المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية هما منظومة معادية للديمقراطية. وأضاف تحالف “صمود” إن ممارسات التنظيم الإخواني في السودان تشكل تهديدا مباشرا لاستقرار السودان وأمنه الإقليمي والدولي، وأشار التحالف إلى أن “الإخوان” قد تم تصنيفها كجماعة إرهابية في عدد من الدول العربية، مثل الإمارات والسعودية ومصر والأردن، كما اتخذت دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إجراءات صارمة ضدها، واعتبر أن الحركة الإسلامية السودانية تمثل الذروة في منظومة الإرهاب الإخواني، إذ حكمت السودان ثلاثة عقود، وتورطت في مشاريع تصدير الإرهاب عبر الحدود، وارتكبت جرائم إبادة جماعية في الأقاليم المهمشة مثل دارفور وجبال النوبة غربي السودان، وأنها حولت العاصمة الخرطوم مركزا للجماعات المتطرفة، واعتبر التحالف أن هذه المنظومة لا تؤمن بالدولة المدنية الحديثة، وأنها منظومة حربية متوحشة، متهما إياها بإشعال الحرب الحالية في السودان في 15 أبريل 2023.
وكان قد سبق هذه الخطوة من تحالف “صمود” إعلان كتيبة “البراء” إحدى الأذرع المسلحة للإسلاميين في السودان التي شاركت في الحرب ضد الدعم السريع الخروج من المشهد العسكري والانخراط في العمل المدني، وذلك بعد أيام من قرار البرهان بإخراج الحركات المسلحة من العاصمة الخرطوم، وسط شكوك مراقبين وسياسيين سودانيين في أن تنظيم الإسلاميين يرسمون خطة جديدة في إطار مسلسل حرب الخديعة للانسحاب من خشبة الأحداث إلى غرف الكواليس ليتمكن من السيطرة الحقيقية على مفاصل الدولة، ويبدو أن الصراع بين الإسلاميين وتحالف “صمود” وغيره من مكونات قوى الثورة السودانية التي أطاحت بحكم الرئيس المعزول عمر البشير والإسلاميين هو صراع على مستقبل السودان، وقد قال أحمد هارون المسؤول السابق في عهد البشير وأحد الأربعة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية لـ”رويترز” في أول مقابلة له مع وسيلة إعلامية منذ سنوات، إنه “يتوقع بقاء الجيش في الحكم بعد الحرب، وإن الانتخابات قد تتيح لحزبه – المؤتمر الوطني – (الحزب الحاكم السابق) والحركة الإسلامية المرتبطة به العودة إلى السلطة”.
وفي هذا المنعطف الخطير الذي وصل إليه السودان، وأصبح فيه مفتوحا على أسوأ الخيارات، فإن وقف الحرب يحتاج إلى إرادة وشجاعة من أجل الجلوس لمفاوضات تخرج البلد عبر طريق سلمي من هذا النفق المظلم، الذي يزيد وعورة وإظلاما بمضي الوقت وطول أمد الحرب وسباق التسلح وتعدد الأطراف المتحاربة وداعميهم.
ويبقى الصراع السوداني على أشده على أكثر من مستوى، والوضع كله في حالة غليان، وتبقى الأنظار تتطلع إلى حراك دولي وإقليمي جاد وعادل وفعال يستطيع إطفاء نار الحرب ووقف إطلاق النار، ودفع الأطراف السودانية لعملية تفاوضية مثمرة تكون أول طريق السلام.
وما يزيد الأمور تعقيدا هو أن السودان أصبح ساحة حرب دولية وإقليمية، وساحة لتصفية الحسابات، وبؤرة تجذب قوى عسكرية وميليشيات ومرتزقة ومسلحين وإرهابيين، كما يجذب القوى الطامعة في موقعه وسواحله وثرواته، وهي قوى دولية وإقليمية تدعم أحد أطراف الصراع ، بعضها معلن وبعضها خفي، وهناك ربما من يدعم الطرفين معا أو في انتظار المنتصر، ومن المؤكد أنه سيكون لإهمال تحقيق السلام في السودان عواقب وخيمة على كل الأطراف في المنطقة العربية والقارة الأفريقية، بل وعلى السلم والدوليين، وهو ما يفرض أن يكون هناك حلولا شاملة وجذرية وعادلة لإنهاء الحرب، لأن أي تسوية جزئية أو ترقيعية أو تلفيقية أو جائرة لوقف الحرب ستكون مجرد حل وقتي، ما تلبث أن تنفجر بعده الحروب من جديد في بلد عانى من ويلات الحروب الأهلية، ويأمل أهله أن تكون الحرب الحالية آخر الحروب.
ويبقى السودان الآن في مفترق طرق خانق، والكرة في ملعب القوى السودانية ، التي عليها أن تسابق الزمن من أجل التوصل إلى حلول وتسويات ومشروع وطني جامع لصالح الشعب السوداني قبل أن تهبط عليها حلول جاهزة لتجبر على تجرعها، قد لا تكون في صالحها ولا صالح الشعب أو الوطن السوداني.
