تحليل: شروق صابر .. عاد الملف النووي الإيراني إلى واجهة الاهتمام الدولي مجددًا، بعد أن أعلنت دول “الترويكا” الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) تفعيل “آلية الزناد” في مجلس الأمن، في خطوة تعكس تصاعد التوتر وتعثر المسار الدبلوماسي بين طهران والقوى الغربية. ويأتي هذا التصعيد في أعقاب تعليق المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، إثر القصف الإسرائيلي– الأمريكي الذي استهدف منشآت نووية وصاروخية إيرانية في يونيو الماضي، ما أضفى على المشهد بعدًا أكثر تعقيدًا.
تُعد هذه الخطوة الأوروبية مؤشرًا واضحًا على نفاد صبر الغرب إزاء ما تعتبره خروقات إيرانية متكررة للاتفاق النووي الموقع عام 2015، لاسيما ما يتعلق بتجاوز نسب تخصيب اليورانيوم، وتراجع مستوى التعاون مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومع دخول مهلة الثلاثين يومًا حيز التنفيذ، وهي المهلة التي تسبق تصويت مجلس الأمن على قرار يُحدد مصير العقوبات، تجد إيران نفسها أمام مفترق طرق حاسم: إما القبول بالعودة إلى طاولة المفاوضات وفق الشروط الغربية، أو مواجهة إعادة فرض كامل منظومة العقوبات الدولية، بما تحمله من تداعيات اقتصادية وسياسية قد تعيد طهران إلى دائرة العزلة ما قبل عام 2015.
“آلية الزناد” لإعادة فرض العقوبات على إيران
“آلية الزناد” أو (Snapback) هي آلية منصوص عليها في قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي أقر خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في عام 2015، وتُعتبر إحدى الأدوات الأساسية لمتابعة التزام إيران بالاتفاق النووي. هذه الآلية تسمح بإعادة فرض جميع العقوبات التي كانت مفروضة على عليها قبل الاتفاق، بشكل تلقائي، إذا تم تفعيلها، دون الحاجة إلى إجراء تصويت جديد من قبل مجلس الأمن.
تعود هذه العقوبات إلى ستة قرارات صدرت من عام 2006 إلى 2010 وهي قرارات: 1696، 1737، 1747، 1803، 1835، و1929. وتفعيل “آلية الزناد” يعني إعادة تطبيق هذه القرارات بالكامل، بما يشمل: تجميد الأصول، حظر بيع الأسلحة، وفرض قيود على الأنشطة النووية والبالستية الإيرانية، إضافة إلى قيود على سفر مسئولين إيرانيين. كما أن إعادة تفعيل هذه القرارات قد تفضي إلى إعادة تصنيف إيران كـ “تهديد للأمن والسلم الدوليين”، وفقًا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما يعيد إيران إلى مرحلة عزلة دولية خانقة، كانت قد بدأت في الخروج منها عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، مما قد يفاقم التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها إيران.
بناءًا على البيان الرسمي الصادر عن الترويكا الأوروبية، فقد دخلت آلية إعادة فرض العقوبات على إيران حيز التنفيذ، مما يستدعي تصويت مجلس الأمن الدولي في غضون 30 يومًا على قرار يحدد ما إذا كان سيتم الاستمرار في رفع العقوبات عن إيران أو إعادة فرضها. يتطلب اعتماد القرار موافقة تسعة أعضاء من أعضاء المجلس، بالإضافة إلى عدم استخدام أي من الدول دائمة العضوية (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، المملكة المتحدة) حق النقض (الفيتو).
فإذا حصل القرار على تسعة أصوات مؤيدة أو أكثر من أعضاء المجلس لصالح تمديد تخفيف العقوبات، فإن بريطانيا وفرنسا قد تمارسان حق النقض (الفيتو) لعرقلة القرار. هذا السيناريو يعكس تزايد التباين بين الأطراف الغربية من جهة، والأطراف التي تدعم إيران (مثل روسيا والصين) من جهة أخرى، حيث يتضارب هذا التباين مع المواقف السياسية والإستراتيجية المختلفة التي تنتهجها تلك القوى الكبرى في الملف الإيراني. أما إذا لم يتم التوصل إلى توافق داخل المجلس ولم يتم اعتماد القرار المقترح، فإن “آلية الزناد” (Snapback) ستدخل حيز التنفيذ بشكل آلي، وبذلك سيُعاد فرض العقوبات على إيران في أواخر سبتمبر.
وقد رفضت الصين وروسيا، يوم 1 سبتمبر، قرار “الترويكا الأوروبية” مؤكدتين تمسكهما بالاتفاق النووي. ونصت رسالة وقع عليها وزراء خارجية الصين وروسيا وإيران على أن الخطوة التي أقدم عليها الثلاثي الأوروبي، لإعادة فرض العقوبات تلقائيًا “معيبة من الناحيتين القانونية والإجرائية”. وعلى الرغم من امتلاك روسيا والصين حق النقض بمجلس الأمن، فإنهما لا تستطيعان منع إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران، لكن بوسعهما الامتناع عن تنفيذ العقوبات واستخدام حق النقض ضد أي محاولات من مجلس الأمن لمعاقبتهما على ذلك.
تداعيات التحرك الأوروبي على المرحلة المقبلة على المستويين الداخلي والإقليمي
تشير الخطوة الأوروبية الأخيرة بتفعيل “آلية الزناد” قبل أسابيع قليلة من انتهاء سريان الاتفاق النووي وفق القرار 2231، إلى تحرك استراتيجي يهدف إلى تضييق هامش المناورة أمام طهران، عبر وضعها بين خيارين: إما العودة إلى الالتزام بتعهداتها النووية، أو مواجهة إعادة تفعيل العقوبات الأممية بكل ما تحمله من تداعيات اقتصادية وسياسية. ورغم أن الاتحاد الأوروبي يؤكد استمرار المسار الدبلوماسي، إلا أن إيران ترى أن هذه الخطوة جاءت استجابة لضغوط أمريكية وإسرائيلية، معتبرة أن ما يجري لا يمثل إلا استمرارًا لسياسة تقويض الاتفاق لا إحيائه. وتزداد مخاوف طهران من أن يعيد هذا المسار سيناريو العزلة الدولية، خصوصًا في ظل مؤشرات اقتصادية سلبية سريعة، وقلق من تراجع الدعم الروسي والصيني في حال استعاد مجلس الأمن دوره في فرض العقوبات، ما يعكس تعقيد المرحلة المقبلة على المستويين الداخلي والإقليمي. وذلك على النحو التالي:
1- تكتيكات امتصاص الصدمة الداخلية: تبنت القيادة الإيرانية خطابًا يهدف إلى التهوين من خطورة الخطوة الأوروبية، معتبرة إياها أقرب إلى أدوات الضغط النفسي منها إلى تهديد فعلي قابل للتنفيذ. ففي تصريحات متتالية لعدد من كبار المسئولين، سعت طهران إلى تقديم العقوبات الأممية المحتملة على أنها أقل وطأة من العقوبات الأمريكية المفروضة حاليًا، والتي تعيق الاقتصاد الإيراني بشكل فعلي. ووفقًا لهذا الخطاب، فإن عودة عقوبات مجلس الأمن لا تشكل تحولًا نوعيًا في البيئة العقابية المفروضة، بل تأتي في إطار محاولات القوى الغربية لإعادة إيران إلى طاولة التفاوض بشروط صارمة، مستغلة التوقيت الحرج المتصل بانتهاء فاعلية الاتفاق النووي.
من هذا المنطلق، عمدت مؤسسات الدولة الإيرانية، خاصة الإعلامية منها، إلى الحد من التغطية المكثفة لهذا التطور، في محاولة لتقليل منسوب القلق الشعبي وامتصاص الصدمة المحتملة على المستوى الداخلي. ويبدو أن هذه الاستراتيجية تُدرج ضمن مساعي النظام لتفادي أزمات اجتماعية أو اقتصادية أوسع نطاقًا، لا سيما في ظل وضع اقتصادي هش يعاني بالفعل من تبعات العقوبات الغربية طويلة الأمد.
في المقابل، تتباين الآراء داخل الأوساط السياسية الإيرانية حيال الرد المناسب على هذا التصعيد. ففي حين يطالب التيار الأصولي باتخاذ خطوات حاسمة مثل الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية أو وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ترى التيارات الإصلاحية أن التصعيد غير المنضبط قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويقوض ما تبقى من أوراق تفاوضية بيد طهران.
وقد أظهرت مواقف الصحف الإيرانية هذا التباين الذي يعكس الانقسام العميق بين التيارين الأصولي والإصلاحي في كيفية التعاطي مع هذه التطورات، حيث أشارت صحيفة “آرمان ملي” إلى أن الصين وروسيا تحاولان كسب الوقت عبر تقديم مبادرات دبلوماسية، إلا أن الحل النهائي لا يكمن إلا في حوار مباشر وجاد بين طهران وواشنطن، وهي رؤية تتماشى مع تصريحات شخصيات إصلاحية مثل مهدي كروبي، الذي شدّد في حديثه لصحيفة “اعتماد” على أن الشعب الإيراني لم يقم بثورته ليُحرم من احتياجاته الأساسية بسبب مواقف متشددة.
في المقابل، جسدت صحيفة “فرهيختكان” الأصولية الموقف الرافض لأي شروط غربية مسبقة، معتبرة المطالب الأوروبية كتقييد البرنامج الصاروخي أو قطع العلاقات مع “محور المقاومة” خطوطًا حمراء لا يمكن التفاوض حولها. أما علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، فقد حاول التوفيق بين المسارين، مؤكدًا عبر صحيفة “آكاه” الأصولية أن الحوار لا يزال خيارًا مطروحًا، شرط أن يكون واقعيًا وعقلانيًا، دون المساس بثوابت إيران، وعلى رأسها القدرات الصاروخية.
وتُبرز مقالة محمد صفري في “سياست روز” هذا التوجه المحافظ، حيث يرفض أي مقايضة بين المشروع الصاروخي واحتياجات الشعب، ويرى أن التقدم العسكري يمثل إنجازًا وطنيًا لا يمكن التفريط فيه، رغم الضغوط الدولية والعقوبات المفروضة.
في المجمل، يُظهر المشهد السياسي والإعلامي في إيران تباينًا حادًا بين التيار الإصلاحي، الذي يدفع نحو إعادة توجيه السياسات الخارجية باتجاه التهدئة والانخراط الدولي، وبين التيار الأصولي الذي يتبنى خطابًا تصعيديًا ويضع شروطًا صارمة لأي عودة محتملة إلى طاولة المفاوضات. هذا التناقض في الرؤى لا يقتصر على كيفية الرد على التصعيد الأوروبي، بل يمتد ليعكس خلافًا أعمق حول تحديد الأولويات الوطنية في المرحلة الراهنة، بين من يرى في التفاوض وسيلة لحماية الأمن القومي وتحسين الوضع الداخلي، ومن يعتبر التصلب في المواقف ضرورة لحماية السيادة وردع الضغوط الغربية. ويؤدي هذا الانقسام إلى تعقيد إمكانية التوصل إلى موقف تفاوضي موحد، ويكشف في الوقت نفسه عن عمق الأزمة السياسية داخل البلاد، حيث يجد النظام نفسه أمام معضلة التوفيق بين مراكز القرار المتباينة داخليًا، والتعامل مع ضغوط خارجية متزايدة تهدد بتضييق هامش المناورة الدبلوماسية أمام طهران.
2- محاولة لكسب الوقت: بالرغم من التباين في الآراء بين التيارات السياسية الإيرانية حول الرد المناسب، إلا أنه في المجمل، صدرت رسائل سياسية تشير إلى بقاء نافذة التواصل مفتوحة مع الأطراف الأوروبية وحتى الولايات المتحدة، ما يعكس تمسك إيران بخيار الدبلوماسية كأداة رئيسية لإدارة الأزمة، ولو ضمن إطار زمني محسوب واستراتيجي.فمع اقتراب انتهاء صلاحية الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015 في أكتوبر القادم، لن تكون آلية الزناد، التي تُعد أحد أبرز أدوات الردع القانوني ضمن الاتفاق، متاحة لتفعيلها، ما قد يُضعف الموقف الغربي في أي مواجهة قانونية مقبلة مع إيران. في هذا السياق، يُظهر السلوك التفاوضي الإيراني استمرارًا لنهج “كسب الوقت”، وهو نمط تكرر كثيرًا في المحطات التفاوضية السابقة، وتبدو إيران حاليًا وكأنها تُهيئ الأرضية لمعادلة جديدة في الملف النووي، تكون فيها أقل خضوعًا للآليات التقليدية للرقابة، وأكثر قدرة على المناورة في ظل تراجع أدوات الضغط القانونية والدبلوماسية المتاحة للغرب.
3- خطوات محفوفة بالمخاطر: من أبرز التداعيات الخارجية لتفعيل آلية الزناد، حال فشلت الرهانات الإيرانية، هو إعادة طهران إلى دائرة العزلة الدولية، فعلى الرغم من أن طهران لطالما حاولت اللعب على التناقضات بين الأطراف الدولية، فإن اصطفاف الترويكا الأوروبية إلى جانب الموقف الأمريكي يعني تراجع قدرة إيران على المناورة عبر القنوات الأوروبية، مما يضعف موقعها التفاوضي ويقلص من هامش التحرك الدبلوماسي المتاح لها. خاصة أن تلك الضغوط تأتي مع تصاعد التوتر العسكري بين إيران وإسرائيل، بعد الضربات الأمريكية- الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية وصاروخية إيرانية، والتي كشفت عن محدودية الدفاعات الجوية الإسرائيلية في التصدي للصواريخ الإيرانية، الأمر الذي زاد من القلق الإسرائيلي بشأن تسارع البرنامج النووي الإيراني، في ظل فقدان الوكالة الدولية للطاقة الذرية القدرة على التحقق من مصير حوالي 400 كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهي كمية تُقرب طهران نظريًا من العتبة النووية. ويمكن القول أنه إذا تم إعادة فرض العقوبات من خلال آلية الزناد، وما يرافق ذلك من تصاعد الخطر النووي الإيراني، فقد يشكل ذلك بيئة خصبة لانفجار مواجهة أوسع في المنطقة، سواء عبر هجمات سيبرانية، عمليات استخباراتية، أو حتى مواجهات عسكرية.
ختامًا، يظل مستقبل الملف النووي الإيراني مرهونًا بعدة متغيرات، أهمها مآلات التفاوض، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية. ففي ظل استمرار الغموض المتعمد من قبل إيران حول قدراتها النووية، وتضاؤل فعالية أدوات الرقابة الدولية، تتزايد احتمالات الانزلاق نحو سيناريوهات تصعيدية قد تشمل المواجهة العسكرية، خاصة إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في احتواء التصعيد.
