دراسات

إسماعيل بيشكجي .. المعرفة والضمير والمقاومة

تحليل: هدير مسعد عطية .. يُعدّ إسماعيل بيشكجي واحدًا من أبرز الأصوات الفكرية التي أسهمت في كشف واقع الكرد وإعادة تعريف هويتهم في مواجهة سرديات الدولة القومية التركية. ورغم أنه تركي الأصل، فقد اختار منذ أواخر الستينيات أن يكرّس حياته لدراسة المجتمع الكردي من منظور علم الاجتماع، وهو خيار كلّفه السجن والملاحقة لعقود طويلة. ولكن عندما ينتصر الضمير على الانتماء والأيدولوجيات السياسية والدينية تتحرر المعرفة نسبيا، وتضحي موسومة بالإنسانية.   

انطلقت أبحاثه من دراسات ميدانية حول البنية العشائرية في الأناضول الشرقية، لكن سرعان ما اتسع نطاقها ليشكّل نقدًا جذريًا لأيديولوجيا الدولة التركية. في أعماله المبكرة، طرح بيشكجي أطروحته الشهيرة بأن الكرد يشكّلون أمة حقيقية، لها تاريخها ولغتها وثقافتها، وأن إنكار وجودها ليس سوى سياسة رسمية ممنهجة. بهذا الطرح اصطدم مباشرة مع الخطاب الرسمي الذي كان يحظر حتى لفظ كلمة “كرد”. تميّزت مساهماته بفضح ما سمّاه “العلم الرسمي” للدولة، حيث كشف كيف حوّلت تركيا مؤسساتها الأكاديمية والتربوية إلى أدوات لتثبيت خطاب الإنكار والصهر القومي. في المقابل، قدّم بديلًا يقوم على الاعتراف بالهوية الكردية كحقيقة اجتماعية وتاريخية لا يمكن محوها. هذه الكتابات لم تكن تنظيرًا أكاديميًا فحسب، بل وفّرت للكرد أنفسهم لغة جديدة لتحليل واقعهم خارج قيود الدعاية الرسمية. كان لبيشكجي أثر عميق، إذ كانت كتاباته أحد المداخل التي اتاحت للوعي الكردي أرضية معرفية لربط نضالهم القومي بمفاهيم حديثة في علم الاجتماع والسياسة. ومن خلال مؤلفاته، اكتسبت القضية الكردية شرعية علمية على الساحة الدولية، وبرزت بوصفها مسألة حقوق شعب وأمة لا مجرد مشكلة أمنية أو تمرد داخلي كما أرادت الدولة أن تصوّرها.

منذ بداية مسيرته الفكرية في ستينيات القرن الماضي، رفض بيشكجي الامتثال لسياسة الدولة هذه بحصر المعرفة. رغم أنه تركي عرقيًا، درس بيشكجي القضية الكردية ودافع عن القضية الكردية طوال حياته. كشف السياسات العنصرية والتعسفية والعنيفة للدولة التركية ضد الشعب الكردي وجعل المعرفة حول القضية الكردية متاحة للجمهور. كان أول وأبرز مفكر في جيله لا يظهر فقط شجاعة لمناقشة هذه القضايا، بل قبل أيضًا المخاطر الشخصية الكبيرة المصاحبة لهذا القرار. وليس من المستغرب أن الدولة جعلته يدفع ثمنًا هائلًا لمحاولاته جعل القضية الكردية معروفة: فقد قضى أكثر من 17 عامًا في السجن (وحُكم عليه بأكثر من 100)، وعاش تحت تهديد مستمر بالاغتيال، وفُصل من منصبه الأكاديمي، وحُظرت معظم كتبه.

إن إرث بيشكجي يكمن في كونه جسَرًا بين التجربة الكردية والفضاء الأكاديمي العالمي، وبين المعرفة النقدية والمقاومة السياسية. لقد دفع ثمنًا باهظًا لمواقفه، لكن كتاباته ساهمت في ترسيخ الوعي بالهوية الكردية الحديثة كهوية أصيلة ومشروعة في مواجهة القمع والإنكار.

المعرفة أداة .. الكردولوجيا والكمالية

انحاز معظم المثقفين وعلماء الاجتماع الأتراك إلى جانب الدولة التركية ودعموا أيديولوجيتها الرسمية. لقد كان تأثير الأيديولوجية الكمالية على المتعلمين الأتراك عميقًا لدرجة أن “اليسار التركي عمومًا يقف مع الدولة في مختلف اللحظات الحرجة”. وكانوا عمومًا يعتبرون الانتفاضات الكردية انعكاسًا لبقايا إقطاعية أو أفكار رجعية-إسلامية، أو فخاخ خادعة لقوى إمبريالية تسعى لتقسيم الجمهورية التركية. من خلال حظر الدراسات العلمية والسيطرة على تداول وإنتاج المعلومات حول القضية الكردية، نجحت الدولة التركية في حصر هذا المجال المعرفي ضمن دائرة حكومية حصرية. وبما أنها كانت تحتاج إلى هذه المعرفة للتعامل بفعالية أكبر مع القضية الكردية، أنتجت الدولة تقارير واقعية لاستخدام البيروقراطيين ورجال الدولة الآخرين، لكنها في الوقت نفسه منعت تطوير مجال مستقل لدراسة “الكردولوجيا” يمكن أن تكون نتائجه متاحة للجمهور. ونتيجة لذلك، ظلّت المعرفة الأساسية لفهم تعقيدات القضية الكردية، بما في ذلك السياسات العنيفة والعنصرية والإذلالية للدولة، مجهولة لغالبية السكان في تركيا.

تُعد “القضية الكردية”، أهم وأبرز قضية شائكة في تركيا الحديثة منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. فبعد أن فقدت الدولة العثمانية آخر أراضيها في إفريقيا وأوروبا بين عامي 1911 و1913، أصبحت الأناضول المنطقة الوحيدة المتبقية التي يمكن للإمبراطورية أن تبني عليها مستقبلاً جديدًا لنفسها. اعتبرت النخب القومية، التي كان مشروعها السياسي إقامة دولة قومية تركية، وجود ملايين الأرمن واليونانيين العثمانيين في الأناضول تهديدًا محتملاً لتحقيق أهدافها التركيزية. أتاحت الحرب العالمية الأولى للإمبراطورية العثمانية فرصة لإجراء تطهير عرقي والتخلص من سكانها المسيحيين. خصوصًا بين عامي 1914 و1915، استخدمت حكومة الاتحاد والترقي عدة وسائل مثل التهجير القسري، والترحيل، والمجازر، والإرهاب الرسمي لإفراغ الأناضول من الأرمن واليونانيين وتحويلها إلى إقليم إسلامي تكون فيه الأمة السائدة هي التركية. وعند تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، كانت “القضيتان” الأرمنية واليونانية قد تم “حلّهما” بالفعل. وكان العقبة الوحيدة البارزة أمام إقامة دولة قومية تركية متجانسة في الأناضول هي وجود الكرد. ومع ذلك، بدا أنهم سهلو الاندماج. فليسوا فقط من المسلمين، بل في نظر القوميين الأتراك لم يكن لديهم ثقافة متحضرة يمكن أن تقاوم الاندماج التركي. لكن، ولدهشة القوميين الأتراك، قاوم الكرد المشروع الاستيعابي بشدة. بدءًا من انتفاضة الشيخ سعيد عام 1925، خاض الكرد بشكل متكرر ثورات مسلحة رغم الأساليب الوحشية التي استخدمتها الدولة لقمع المقاومة. أسس الكرد باستمرار أحزابهم السياسية التي كانت الدولة تغلقها بانتظام، وكان أعضاؤها يُضايقون ويُقتلون ويُسجنون. أُطلقت عدة صحف، رغم أن الحكومة منعت صدورها وقتلت العديد من صحفييها. كما ناضل الكرد للحفاظ على لغتهم رغم الجهود المتنوعة التي بذلتها الدولة التركية لمحوها، بما في ذلك حظر التعليم والنشر والبث بالكردية.

اتبعت الدولة التركية ثلاث سياسات متزامنة تجاه الدراسات الكردية، وفقًا لصياغة المؤرخ الكردي م. مالميسانيج: الكردولوجيا المضادة، الكردولوجيا السرية، والكردولوجيا. الكردولوجيا المضادة كانت حقلًا بحثيًا معترفًا به قانونيًا تم تطويره لإنتاج أبحاث تنكر وجود الشعب الكردي واللغة الكردية. واستند هذا الحقل إلى ادعائين مترابطين: أولًا، أن الكرد في الأصل أتراك لكنهم نسوا أو لم يعترفوا بتركيتهم؛ ثانيًا، أن اللغة الكردية لهجة مشوهة من التركية والفارسية. وقد كُلّف المؤرخون القوميون بهذه المهمة الرسمية لنشر الخطاب الرسمي للكردولوجيا المضادة. الكردولوجيا السرية كانت مجالًا أكثر واقعية، إذ أنتجت معرفة بالقضية الكردية، لكنها كانت مخصصة فقط للاستخدام الداخلي للدولة. كانت واقعية لأنها اعترفت بوجود الكرد ولغتهم ومشكلتهم، واحتوت على خطط المسؤولين الحكوميين لإعادة توطينهم ودمجهم و/أو القضاء عليهم. وبسبب هذه الأسباب، بقيت هذه الدراسات سرية للغاية. الكردولوجيا في معناها الأكاديمي تشير إلى الدراسات العلمية للمجتمع الكردي وثقافته وجغرافيته وحركاته، والقضية الكردية بوجه عام. بين عشرينيات القرن الماضي ونهاية التسعينيات، لم تسمح الدولة التركية بتطور هذا الحقل المستقل وفعلت كل ما في وسعها لمعاقبة العلماء والمثقفين الذين درسوا القضية الكردية وساندوا الكرد في كفاحهم من أجل حقوقهم. مكنت الكردولوجيا المضادة القوميين الأتراك من إنكار المعرفة الشعبية القديمة بأن الكرد ولغتهم موجودون. بينما سمحت الكردولوجيا السرية للدولة التركية بحصر المعرفة واحتكارها ضمن المجال الحكومي. وقد لجأت الدولة إلى هذه السياسة لتجريد الشعب الكردي من معرفته الوجودية عبر التأميم. وبحظر الكردولوجيا، أوضحت الدولة أن أي محاولة لكشف المعرفة تحمل مخاطر جسيمة.

أدركت الغالبية العظمى من المثقفين الأتراك القضية الكردية بطريقة تتماشى مع الأيديولوجيا الرسمية للدولة، أو ما يعرف بـ”الكمالية”. بعبارة أخرى، لم تُفرض الكمالية فقط من خلال المؤسسات القانونية والتعليمية والإكراهية للدولة، بل تم استيعابها أيضًا من قبل معظم النخبة والطبقات الوسطى، بما في ذلك المثقفون. للكمالية أشكال متعددة وتفسيرات مختلفة بحسب الجماعات السياسية التركية، ولكن فيما يتعلق بالقضية الكردية، يكفي الإشارة إلى بعض عناصرها الأساسية: كانت الكمالية تهدف إلى تحديث وتغريب وتوحيد تركيا، وكانت الحركات الكردية تُنظر إليها على أنها رد فعل من منطقة إقطاعية ودينية ومتخلفة، ومن ثم إنتاج استفزازات إمبريالية تهدف إلى إضعاف وتقسيم تركيا المناهضة للاستعمار. في هذا الجو الفكري، بدا قمع الحركات الكردية بكل الوسائل مشروعا وضروريًا. ونتيجة لذلك، أهمل علماء الاجتماع والمثقفون الأتراك القضية الكردية بشكل كبير، حتى منتصف التسعينيات حين وصلت الحركة الكردية الحديثة إلى مستوى من القوة جعل من المستحيل تجاهلها.

لنكتشف أولا البيئة التي بزغ فيها إسماعيل بيشكجي، وشهدت دخوله فضاءات إنتاج المعرفة من البوابة الكردية.. ببساطة سنحاول في الأسطر القليلة القادمة الاقتراب من مناخ الستينات الخانق في تركيا، على المستوى السياسي والمجتمعي والأكاديمي الثقافي بالتالي.   

لم يمر إسماعيل بيشكجي بتحوّل شخصي أثناء كتابة كتبه في المنزل أو مكتبه الجامعي. لقد تغيّر في كردستان، بين الكرد، وكذلك في السجن. بعبارة أخرى، فقد غيّر بيشكجي نفسه—شخصيته، رؤيته للعالم، وسياساته—تغيرًا تدريجيًا نتيجة لتغير بيئته، وتجربته المعيشية، وعلاقاته بـ”الآخرين”. فكيف كان ذلك؟

المناخ الفكري في تركيا خلال الستينيات

كانت تركيا في ستينيات القرن العشرين مجتمعًا يواجه تحولات اجتماعية واقتصادية سريعة. فبعد أكثر من عقدين من التنمية الاقتصادية الموجهة من الدولة ومن التصنيع المعتدل، جاء حزب الديمقراطية (1950–1960) ليمنح القطاع الخاص دفعة قوية، خاصة عبر الميكنة الزراعية. وأسفر النمو الاقتصادي المتسارع عن استقطاب اقتصادي داخلي وهجرة واسعة من الريف إلى المدن. وإذ اعتمد هذا النمو اعتمادًا كبيرًا على القروض الخارجية، فقد أدى أيضًا إلى تراكم سريع للديون وارتفاع معدلات التضخم وتراجع مستوى المعيشة لشريحة واسعة من السكان. وقد جاءت الانقلاب العسكري الذي قاده ضباط شباب راديكاليون سنة 1960 ليقطع مؤقتًا هذه المرحلة الأولى من النمو الرأسمالي غير المنضبط ومن الاستقطاب الاجتماعي. ومن بين الإصلاحات الكبرى التي أطلقها العسكريون للحفاظ على الإرث الكمالي، إصلاحان تركا أثرًا بالغًا على مجريات العقد اللاحق: ١- الدستور الجديد، الذي أعدّته لجنة من القانونيين الكماليين، والذي كفل حريات مدنية غير مسبوقة، ممهّدًا لظهور نقابات راديكالية وحزب سياسي اشتراكي. ٢- العودة إلى التخطيط الاقتصادي عبر إنشاء “هيئة التخطيط الحكومية” عام 1960، التي أعدّت خطط التنمية الخمسية بدءًا من 1963. وعندما عاد حزب الديمقراطية – بعد إعادة تسميته بحزب العدالة – إلى السلطة في 1965، تراجع نفوذ هيئة التخطيط على السياسات الاقتصادية، لكن بقيت مؤسسة ذات اعتبار عالٍ، خاصة في الأوساط الكمالية واليسارية. وقد أولت اهتمامًا خاصًا منذ البداية لقضايا التفاوت الاقتصادي، وخاصة التفاوتات الإقليمية، التي ارتبطت بنموذج التنمية الذي تبناه الحزب الديمقراطي. ومن ثمّ غدت أسباب اللامساواة والبحث عن حلول لها من أبرز شواغل المثقفين الأتراك في الستينيات، وكثير منهم تبنى لاحقًا أحد أشكال الماركسية كإطار تفسيري.

وفي إطار التحضير لمشروعات تنمية إقليمية مستقبلية، أجرى “وزارة شؤون القرى” مسحًا تفصيليًا للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في جميع قرى تركيا. وقد وفر هذا المسح، المعروف باسم دراسات جرد القرى، بيانات عن ملكية الأراضي ودرجة ميكنة الزراعة في كل قرية، وأيضًا، وإن كان بشكل أقل منهجية، معلومات عن تركيبتها الإثنية. ولم تُنشر نتائج هذا المسح بسبب حساسية قضية الإثنية سياسيًا، لكن الباحثين تمكنوا من الاطلاع عليها، ما جعلها ذات أثر غير مباشر في النقاش العام. شهدت الانتخابات البرلمانية لعام 1965 اختراقًا مفاجئًا لحزب العمال التركي (TİP)، وهو أول حزب اشتراكي قانوني منذ العشرينيات، إذ حصد مقاعد برلمانية ليس فقط من المراكز الصناعية بل أيضًا، وبصورة لافتة، من بعض المناطق الكردية. وقد اكتشف حزب العمال، ومن بعده الحركة الطلابية اليسارية، “المسألة الكردية” – أو كما كانت تُسمى آنذاك “المسألة الشرقية”. كان استخدام كلمتي “كرد” و”كردستان” محظورًا، وحتى القوميون الكرد تجنّبوا ذكرهما علنًا. وكان مصطلح الشرق يُستخدم بديلاً محايدًا يلتف على الإشارة الصريحة إلى الكرد أو إلى “انفصاليتهم”. وكان يشار إلى الكرد بوصفهم “أبناء الشرق”، وهو توصيف يتسع أيضًا ليشمل الأتراك والعرب والمسيحيين السريان المقيمين في المنطقة.

وقد قرأت قوى اليسار، وفي مقدمتها حزب العمال، المسألة الكردية أساسًا باعتبارها مسألة تخلف إقليمي ناجم عن الاضطهاد والاستغلال. ورغم اعترافها بدور الدولة التركية في الاضطهاد، ورغم إدراكها أن البرجوازية التركية استغلت “الشرق” كأنه مستعمرة داخلية، إلا أنها، على غرار الكماليين الأوائل، اعتبرت الآغوات والشيوخ الكرد (الزعامات العشائرية والدينية) هم أسوأ مضطهدي الكرد وأكبر عائق أمام التقدم. ولذا وقفت موقفًا نقديًا حادًا من قومية كردية يقودها هؤلاء. لكن الحزب عاد تدريجيًا ليعترف بأن “المسألة الشرقية” هي في جوهرها مسألة قومية. ففي مؤتمره لعام 1970 أقرّ بأن “الشرق” تسكنه أمة متميزة عن الأتراك هي الأمة الكردية، وأن تخلف المنطقة ليس مجرد نتيجة طبيعية لعدم تكافؤ التطور الرأسمالي، بل ناجم جزئيًا على الأقل عن سياسات حكومية مقصودة. وقد كان هذا القرار السبب المباشر لحظر الحزب فورًا بعد تدخل الجيش عام 1971. ومنذ ذلك الوقت أصبح اليسار التركي أكثر ترددًا في الارتباط بالمطالب الكردية، فيما أخذ اليسار الكردي ينمو بشكل منفصل ومستقل تنظيميًا في السبعينيات.

لقد انبثق جزء مهم من الحركة الكردية في تركيا داخل الحركة الاشتراكية التركية في الستينيات، وكان ذلك ممكنًا بفضل تزايد أعداد الطلبة الكرد في جامعات أنقرة وإسطنبول. كما وُجدت دائرة ضيقة لكن مؤثرة من المثقفين القوميين الكرد الذين ظلوا خارج الإطار اليساري، وكانوا أكثر اهتمامًا بتاريخ الكرد وثقافتهم وقضية الاضطهاد القومي، بدلاً من الاقتصار على تحليل الاستغلال الاقتصادي من منظور ماركسي أو كمالي. ظهرت مجلات ثقافية وسياسية قصيرة العمر (غالبًا ما حُظرَت فور صدورها)، مثل: إيليري يورت (1958)، دجلة-فرات (1962-1963)، دَنگ (1963)، روژا نوێ (1963)، يني أكيش (1966). واستلهم شباب من النخبة التقليدية الكردية نضال ملا مصطفى البارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني في العراق، ليؤسسوا عام 1965 الحزب الديمقراطي الكردستاني في تركيا (KDP-T) سراً. وقد عمل الجناح القومي والجناح اليساري معًا على تنظيم مظاهرات الشرق (Doğu Mitingleri) سنة 1967، وهي أولى التظاهرات الجماهيرية الكردية، حيث جرى الاحتجاج على القمع الثقافي والتخلف الاقتصادي. ومثّل الجناحان أيضًا في أول جمعية كردية علنية، هي “الجمعيات الثقافية الثورية للشرق” (DDKO)، التي تأسست أولاً في أنقرة وإسطنبول عام 1969، ثم سرعان ما انتشرت فروعها في ديار بكر ومدن كردية أخرى.

كانت نشرات DDKO الشهرية تتناول قضايا الاضطهاد الثقافي والتخلف الاقتصادي، وتدين بوصفها أسبابًا رئيسية الإمبريالية الأميركية وحلفاءها المحليين من كبار الملاّك والرأسماليين. كما دعت إلى حماية اللغة والثقافة الكردية وتطويرهما، وإنشاء مكتبات وجمعيات فولكلورية. لاحقًا تناولت انتهاكات حقوق الإنسان والأحداث الإقليمية، ووصفت سياسات الدولة في “الشرق” بأنها إمبريالية ثقافية. وقد أظهرت تقاريرها عن حرب فيتنام والحركة القومية الباسكية أنها بدأت ترى نفسها حركة تحرر وطني. لكن في 12 آذار/مارس 1971، نفّذ الجيش انقلابًا جديدًا، وأعلن الأحكام العرفية في المحافظات النشطة سياسيًا، واعتقل أعدادًا كبيرة من الناشطين اليساريين والكرد. حُظر كل من حزب العمال وDDKO، وقُدِّم قادتهما إلى المحاكمة وصدر بحقهم أحكام بالسجن. وبعد عودة الحكم المدني والعفو الجزئي سنة 1974، عاد اليسار والحركة الكردية إلى النشاط، لكن كلاهما خرج أكثر انقسامًا. وفيما تخلّى اليسار التركي عن دعم المطالب الكردية علنًا، مضت الحركة الكردية نحو الراديكالية، مضيفةً إلى مطالبها الثقافية والاقتصادية هدف حق تقرير المصير القومي. وبنهاية السبعينيات، أعلنت عدة تنظيمات كردية خوض الكفاح المسلح من أجل التحرير.

أهمية إسماعيل بيشكجي

رغم سياسات الدولة تجاه أشكال الكردولوجيا المختلفة، وتأثير الكمالية كأيديولوجيا شاملة، جاءت أعمال بيشكجي لتحول معرفة وجود الكرد ونضالهم المستمر أمورًا شائعة ومعروفة. ومن هذا المنطلق، ليس من المستغرب أن يُعتبر بيشكجي مؤسس الكردولوجيا في تركيا، وأن يحظى بمكانة شبه استثنائية في أعين العديد من الكرد. لم تُلهم دراسات بيشكجي العديد من علماء الاجتماع البارزين لمتابعة الكردولوجيا فقط، بل تظل أعماله ضرورية لأي شخص يرغب في دراسة تاريخ القضية الكردية. فمن هو إسماعيل بيشكجي التي استحالت كتاباته وأعماله إلى أحد أهم المداخل المعرفية للكرد ثقافة وأفكارا. 

ولد عام 1939 في بلدة إسكليب (İskilip) التابعة لولاية جوروم (Çorum) بوسط الأناضول، وتلقى تعليمه الثانوي في مركز الولاية. تُعد جوروم منطقة مختلطة إثنيًا، حيث يشكل الأتراك السنّة الأغلبية، إلى جانب عشرات القرى التركية والكردية العلوية، فضلًا عن القرى الشركسية. وفي مثل هذه المناطق المختلطة، كان ثمة وعي واقعي بالفوارق الإثنية، رغم أن الرؤية الرسمية التي تنص على أن “جميع سكان تركيا أتراك”. وبينما كان يرى نفسه تركيًا، فلا بد أن بيشكجي أدرك في شبابه أن بعض جيرانه كانوا “أتراكًا أكثر من غيرهم”. التحق بكلية العلوم السياسية في جامعة أنقرة، وهي المؤسسة التي خرّجت كثيرًا من كبار البيروقراطيين والنخب السياسية في تركيا. تخرج عام 1962، بينما بلغ زملاؤه في ذلك الجيل قمة مساراتهم المهنية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أي في الفترة التي كان فيها بيشكجي يدخل السجن ويخرج منه باستمرار.

جاءت نقطة التحول في حياة بيشكجي المبكرة عام 1961، في نهاية عامه الجامعي الثالث، عندما سافر لأول مرة إلى “جنوب شرق تركيا” (المعروفة تاريخيًا باسم كردستان، لكن الاسم الرسمي تم مسحه بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923) للقيام بتدريب عملي. هناك لاحظ—على عكس ما كانت الدولة والأكاديميون يزعمونه—أن الناس يتحدثون بلغة ليست التركية. كان المحافظون والمواطنون عاجزين عن التواصل بدون مترجم. هذا الملاحظة البسيطة لكنها عميقة ولدت لدى بيشكجي شكوكًا جدية حول مصداقية الخطاب الرسمي والأكاديمي، ومن هنا ولدت فضولية بيشكجي تجاه جنوب شرق تركيا. بعد تخرجه، اختار بيشكجي عمدًا أداء خدمته العسكرية الإلزامية في المنطقة نفسها (1963-1964). وفي الوقت ذاته، اندلعت ثورة بقيادة البارزانيين في شمال العراق (أو جنوب كردستان وفقًا للمصطلح السياسي الكردي اليوم). دفعت الدولة التركية العديد من قواتها إلى الحدود العراقية لمنع دخول الثوار إلى تركيا. كان بيشكجي يقود وحدة متنقلة صغيرة لمراقبة حدود منطقة حاكاري الجبلية. هناك لاحظ أن الحدود لا تفصل دولتين فقط، تركيا والعراق، بل تقسّم ثقافة وجغرافيا موحدة—أي كردستان. شاهد حركة دائمة للكرد عبر الحدود، الذين يفهمون لغات بعضهم، ويعرفون بعضهم البعض، وأحيانًا ينتمون إلى نفس العائلة. كما أدرك الفجوة الواسعة بين تعامل الجيش التركي مع الكرد الموالين للدولة، مقابل تعاملهم مع الكرد الثائرين، وسمح القادة العسكريون بنهب بساتين العنب وحدائق الفاكهة المملوكة للكرد—وهو ما اعتبره أمرًا مستحيلًا في المناطق غير الكردية من تركيا.

انضم بيشكجي إلى كلية جامعة أرضروم أتاتورك في شرق الأناضول عام 1964 كمساعد باحث في قسم علم الاجتماع. وفي 1965، وبعد نقاشات طويلة، أقنع أساتذته بالسماح له بكتابة أطروحته للدكتوراه عن قبيلة الأليكان الكردية، التي تعرّف عليها أثناء خدمته العسكرية. في 1966 و1967، عاش وهاجر مع القبيلة بين مراعي الصيف والشتاء. وقد قدر أساتذته وزملاؤه الأطروحة كثيرًا واعتبروها نصًا علميًا من ناحيتين: أولًا، احتوت على بيانات إثنوغرافية جادة عن منطقة شبه مجهولة، وثانيًا، كانت خالية من السياسة.

أكّد بيشكجي في نصه أنه امتنع عمدًا عن الدخول في “الجدالات الأيديولوجية مثل ترك/كرد”. بعد 25 عامًا، وبعد تحوّله الراديكالي، انتقد بيشكجي هذه الكلمات في مقدمة جديدة، وكتب: هذه، في الواقع، بيانات فارغة. والبيانات الفارغة نوع من الأكاذيب تهدف إلى إخفاء وتشويه وتجاهل المجهول. وتظهر البيانات الفارغة كمرض مهم جدًا يمنع من طرح أسئلة جيدة.”

بعد حصوله على الدكتوراه، استمر اهتمامه بالقضية الكردية بطريقة أكثر سياسية. ففي 1967 حضر، كعالم اجتماع، التجمعات الجماهيرية التي نظّمها حزب العمال التركي (TİP) في مدن جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية، حيث شدد أعضاء الحزب على أن الكرد يتعرضون للاضطهاد بسبب عرقهم ولغتهم فقط. أثرت مقابلاته وملاحظاته حول جمهور الكرد في هذه التجمعات تأثيرًا كبيرًا على فهمه للمشكلة.

بحلول أواخر الستينيات، بدأت الراديكالية التركية والكردية تكتسب قوة، خصوصًا بين طلاب الجامعات، ما أدى لاحقًا إلى نشوء حركات حرب عصابات. في هذه الفترة، بدأ زملاء بيشكجي المحافظون والقوميون في أرزروم يشعرون بالانزعاج من علاقاته الوثيقة مع الطلاب اليساريين ومن منشوراته حول القضية الكردية. وأبلغ أحد هؤلاء الزملاء الإدارة الجامعية رسميًا أن بيشكجي “يسمّم” طلابه بأفكار ماركسية وكردية. في عام 1969، أوقفت الإدارة محاضرات بيشكجي، وفصلته في العام التالي. لكن هذا الضغط لم يمنعه من متابعة التحقيق في “المسألة الشرقية”، التي أصبحت شغفه الذي اقترب من الهوس. في صيف 1968، سافر هو وصديقان حول شرق الأناضول لإجراء بحوث حول البنية الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة. وفي 1969 نشر بيشكجي كتابه الأكثر تأثيرًا في ذلك الوقت: نظام شرق الأناضول، وهو كتاب رائد في الكردولوجيا، وسد فجوة مهمة في الفكر الاجتماعي والسياسي في تركيا، إذ وضع القضية الكردية على جدول العلوم الاجتماعية. قدم بيشكجي أول نقد منهجي لليسار التركي لإهماله التاريخي للقضية الكردية. وأوضح أن هذا الإهمال كان مقبولًا لدى اليمينيين، لكنه “عيب لا يغتفر” بالنسبة لليسار، مرتبطًا بتأثير نظام التعليم الفاشي الذي أنكر وجود الكرد بانتظام. ومع أن الكتاب ظل ضمن حدود الأيديولوجيا الرسمية للدولة، إلا أن تركيزه على المسألة العرقية وتخلف شرق تركيا ونقده لسياسات الدولة العنصرية والتمييزية أظهر أن بيشكجي تجاوز الحدود “المعقولة” للعلوم الاجتماعية، حتى في نظر النخبة الأكاديمية التقدمية في تركيا.

بداية الانفصال وظهور المثقف التركي بين الكرد

أول مؤشر على عداء النخبة الأكاديمية تجاه بيشكجي ظهر في فبراير 1970 خلال مؤتمر وطني للعلوم الاجتماعية في أنقرة، حيث حذر عالم اجتماع رائد بيشكجي من تقديم ورقته الأصلية خشية تدخل الشرطة. ونتيجة لذلك، قدم بيشكجي نسخة أقصر وأكثر اعتدالًا من ورقته، ليدرك أن النخبة الأكاديمية لن تدافع عن حريته في التعبير إذا أصر على انتقاد الدولة والمثقفين الأتراك علنًا. في بداية 1971، انضم إلى كلية الملكية كمحاضر مساعد في علم الاجتماع، لكن الانقلاب العسكري في مارس قطع هذه العلاقة، وأُعتقل بعده في ديار بكر، قلب كردستان، بتهمة “الكردية”. احتُجز بيشكجي، مع عشرات الكرد، لأكثر من عامين، وخلال هذه الفترة حدث التحوّل الحاسم في تفكيره. تعمل السجون، كما هو معروف، كالمدارس، خصوصًا للسجناء السياسيين. وفي سجن ديار بكر، عاش بيشكجي مع الراديكاليين الكرد بدلًا من زملائه الأتراك، وتعلم منهم ليس فقط حول القضية الكردية وطبيعة الدولة التركية القمعية، بل عن الواقع الاجتماعي والتاريخ الشفوي لكردستان، إضافة إلى مشاعر الكرد وأفكارهم وتوقعاتهم، التي كانت تختلف كثيرًا عن تلك التي عرفها لدى الأتراك.

لسنوات عديدة، كان إسماعيل بيشكجي الشخص الوحيد غير الكردي في تركيا الذي تجرأ على الدفاع علناً وبوضوح عن حقوق الكرد. لم يواجه أي كاتب آخر في التاريخ التركي سلسلة لا تنتهي من المحاكمات وأحكام السجن تقريباً على كل كلمة قالها أو كتبها كما واجه بيشكجي. إن ملحمة بيشكجي مع النظام القضائي التركي تكشف، ببلاغة تفوق أي تحليل سياسي أو قانوني مجرد، عن الخلل البنيوي في ذلك النظام، وتبرهن بفعالية كيف أن حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية المعلنة رسميًا تصبح لاغية تماماً حينما يتعلق الأمر بالقضية الكردية. رغم كل محاولات إسكات صوته، واصل بيشكجي الكتابة والكلام، وأصبح رمزًا قويًا ومؤثرًا بالنسبة للكرد وحركة حقوق الإنسان في تركيا. في نظر الكثير من الكرد اكتسب بيشكجي صفات شبه أسطورية، بصفته التركي الوحيد الذي لم يتخلَّ عنهم، والذي وقف إلى جانبهم، متحديًا بمفرده دولة قمعية ووحشية، ومعرّضًا نفسه لمخاطر كبيرة. غير أن دور بيشكجي كرمز لاضطهاد تركيا للكرد ولتدهور حقوق الإنسان عمومًا قد ساهم في صرف الانتباه عن مضمون كتاباته، ولا سيما أعماله الأولى الأكثر عمقًا وأكاديمية. فمنذ الثمانينيات، أصبحت كتاباته أكثر جدلية وأقل طابعًا علميًا، وذلك ببساطة لأن سجنه حال دون القيام بأبحاث جديدة جادة. بعض تصريحاته العامة الأخيرة — التي اقتبسها القوميون الكرد الراديكاليون بحماس، معتبرينها تأييدًا لآرائهم — اتسمت بحدة في الطرح جعلت زملاءه الغربيين مترددين في الارتباط المباشر به. ولهذا الطابع الجدلي ومرارة خطابه في أعماله المتأخرة دور أيضًا في أن عددًا قليلًا جدًا من المثقفين الأتراك دافعوا عنه، بخلاف الدعم الواسع الذي حظي به الروائي الشهير يشار كمال عندما حوكم بسبب مقال نقدي نشره في مجلة دير شبيغل. لكن حتى قبل أن يتخذ بيشكجي هذا الطابع الجدلي، فإن زملاءه فشلوا في الدفاع عنه، إذ كان مجرد ذكره للكرد كافيًا لإخافتهم.

إن مرارة بيشكجي وما يبدو من راديكالية في خطابه لهما أسبابهما الواضحة؛ إذ تعكسان المرارة المتزايدة لدى الكرد في تركيا، ويأسهم من إمكانية الإصلاح التدريجي، وقناعتهم الواسعة بأن العمل المسلح وحده يمكن أن يقود إلى نيل بعض الحقوق. ولا يلزم أن نتفق مع كل كلمة يقولها بيشكجي لكي ندافع عن حقه في قولها. لكن الصراع الراهن الذي يخوضه مع النظام القانوني، ومواقفه الراديكالية الحالية، يخفيان عنا عظمته الحقيقية ومكانته في التاريخ الفكري لتركيا وكردستان. يجسد بيشكجي المواجهة التركية مع القضية الكردية. ومساره الفكري لا يمثل فقط صيغة راديكالية من المسار الذي سلكه بعض المثقفين الأتراك حين تحرروا تدريجيًا من الذهنية الكمالية، بل يعكس أيضًا أوجه شبه لافتة مع تطور الحركة الكردية في تركيا منذ ستينيات القرن العشرين.

بيشكجي يكتشف الكرد

لقد بدأ اهتمامه بالكرد عندما كان طالبًا يؤدي تدريبًا ميدانيًا في مديريات شرق ولاية إلازِغ. وقد أذهلته ملاحظته أن حكام الأقضية لم يكونوا قادرين على التواصل مباشرة مع القرويين، وكانوا بحاجة إلى مترجمين. لقد كان من الصعب التوفيق بين ما رآه من تباين ثقافي ولغوي في شرق تركيا وبين ما كان يُلقَّن في الجامعة من عقيدة الوحدة غير القابلة للتجزئة، وإنكار وجود الكرد كشعب مستقل، أو وجود اللغة الكردية كلغة مميزة. يقول بيشكجي.  .. لقد ظهرت ملامح الوعي بهذا الحراك حتى في استبيان ميداني اعتيادي تمامًا قدّمه بيشكجي خلال بحثه لنيل الدكتوراه. وفي كتابه الثاني، الأكثر طابعًا سياسيًا وصراحة، أقرّ به كعامل مهم. /// أما موضوع أطروحته للدكتوراه، وهو البنية الاجتماعية لإحدى القبائل الكردية الرحّل والتحولات التي طرأت عليها، فرغم طابعه غير المألوف، فقد تناوله بيشكجي بالأدوات المنهجية والإطار الفكري السائد آنذاك بين علماء الاجتماع التقدميين في تركيا. وكان أبرز أساتذته الذين تركوا بصمة عليه، إبراهيم ياسا ومُبَجَّل قره آي، وهما من علماء الاجتماع ذوي الالتزام الاجتماعي العميق والاهتمام البالغ بقضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية وجذور اللامساواة، وقد نشرا دراسات ميدانية رائدة عن القرى والبلدات الصغيرة. تميّز عملهما بروح الثقة بقدرة العلوم الاجتماعية على المساهمة في بناء مجتمع أفضل، وبقناعة راسخة بوجوب توظيف المعرفة في خدمة الناس.

تُعد أطروحة بيشكجي للدكتوراه عملاً ينتمي في نواحٍ عديدة إلى التقليد الكمالي التقدمي، أي البحث الأكاديمي الملتزم بتنمية و”النهوض” بسكان الأناضول “المتخلّفين”. كانت المؤشرات التي اعتمد عليها بيشكجي الشاب لقياس التقدّم والتنمية جميعها مقاييس لدرجة الاندماج في المجتمع التركي، وهو ما يكشف بوضوح ما كان يعتقد أنه يصب في مصلحة الرحّل آنذاك: كان عليهم أن يتعلموا التركية، أن يذهبوا إلى المدارس، أن يستقروا ويتخلوا عن كثير من تقاليدهم القديمة حتى يتمكنوا من المشاركة في العالم الحديث. في هذه المرحلة كان بيشكجي لا يزال يشارك النخبة الكمالية المثقفة افتراضاتها ومواقفها، وقد نشر أجزاء من أطروحته في مجلة فوروم التي كانت تُقرأ على نطاق واسع داخل هذه النخبة. الأطروحة في جوهرها دراسة أنثروبولوجية جادة، وإن كانت إلى حدّ ما نسقية ومخططة، عن قبيلة عليكان. فهي، بعد مقدمة مطوّلة عن المفاهيم والمنهجية.  اعتمد بيشكجي في جمع البيانات على استبيانات مطوّلة قدّمها بنفسه وبمساعدة عدد من المعلّمين، وهي منهجية كانت شائعة في الدراسات التركية الريفية، لكنها أفضت إلى دراسة جافة وتقنية إلى حدّ كبير، بحيث يصعب أحيانًا تمييز البُعد الإنساني والحياتي للمجتمع. (الملاحظة بالمشاركة كانت آنذاك شبه مجهولة في تركيا، أما الوصف الحيّ للحياة اليومية فقد كان على الأغلب في الروايات التي كتبها المعلّمون القرويون). ومع ذلك، ووفقًا لمعايير العلوم الاجتماعية التركية، كانت دراسة بيشكجي عملًا كفؤًا ومهمًا، ويظلّ ذا قيمة باعتباره قطعة إثنوغرافية فريدة. وهو بالمناسبة العمل الوحيد الذي نال استحسان زملائه الأتراك.

إن إعادة قراءة هذا العمل، تكشف حجم التغيّر، ليس فقط عند بيشكجي نفسه بل أيضًا في الخطاب السائد في تركيا. إن قراءة دقيقة للنص تُظهر أن بيشكجي كان واعيًا بالبعد الإثني، ولم يتردد في طرح أسئلة تتجاوز ما كان يُعتبر “الصواب السياسي” في الجامعات آنذاك. فحين أراد أن يقيس معرفة المستجيبين بالعالم الخارجي، عرض عليهم قائمة قصيرة من الشخصيات المعروفة، وسألهم عمّن يعرفون وما الذي يعرفونه عنهم. كانت القائمة تضم: السلطان عبد الحميد الثاني، أتاتورك، بارزاني، كوجيرو (اللص الاجتماعي الشهير الذي قُتل عام 1964)، الشيخ سعيد (زعيم ثورة 1925 الكردية)، جمال غورسيل (واجهة انقلاب 1960 ورئيس تركيا وقت البحث)، وسعيد النورسي (المصلح الديني الكردي ومؤسس حركة النور). وجاءت الإجابات لافتة: كان كوجيرو الشخصية الوحيدة المعروفة للجميع، بينما لم يعرف أحد سعيد النورسي. أما بارزاني فعرفه 33 من أصل 37، في حين سجّل غورسيل وأتاتورك نسبًا أدنى (22 و20 على التوالي). ولم يعرف الشيخ سعيد سوى ثمانية، ما يشير إلى أن الثورة الكردية الكبرى لم تُرسّخ في الذاكرة عليكان. حتى السلطان عبد الحميد، المعزول عام 1909، حاز معرفة أكبر (14 شخصًا). سؤال آخر كشف تطورًا مهمًا: “أي محطة إذاعية تستمع إليها غالبًا؟”. كانت أجهزة الراديو الترانزستور قد ظهرت حديثًا، وكان لها أثر عميق على وعي الكرد بالعالم من حولهم وبهويتهم القومية. جميع المستجيبين قالوا إنهم يستمعون للراديو، لكن لم يذكر أيٌّ منهم محطة تركية. نصفهم تقريبًا استمعوا بشكل أساسي إلى إذاعة يريفان (التي تبث بالكُرمانجية القريبة من لهجة عليكان)، وثلثهم تقريبًا ذكروا طهران، التي كانت تبث بعدة لهجات كردية. هذه الإجابات بيّنت بوضوح كيف فصلت اللغة – وربما الميول أيضًا – هؤلاء الرحّل الكرد عن تركيا.

كان بيشكجي مراقبًا دقيقًا لعملية تسييس الكرد التدريجي. ففي أعقاب أولى “مظاهرات الشرق” التي ظهرت فيها ملامح الحركة القومية الكردية، كتب دراسة مطوّلة قدّم فيها تفسيرًا سوسيولوجيًا لظهور هذه الحركة وطبيعة مطالبها. كان الموضوع الطاغي في خطابات تلك المظاهرات هو تخلّف شرق تركيا، إذ أرجعه كثيرون إلى لا مبالاة حكومات أنقرة المتعاقبة، وإلى العلاقات “الإقطاعية” السائدة. يبدأ بيشكجي تحليله بتقديم أدلة إحصائية تدعم هذه المزاعم. كما يبيّن بيشكجي أن العلاقات “الإقطاعية” – الملكيات الواسعة، الزراعة بالمشاركة، تبعية الفلاحين المطلقة لزعماء القبائل أو رجال الدين – بقيت واسعة الانتشار، بل إن موقع هؤلاء الزعماء تقوّى بعد عام 1950 بفعل النظام الانتخابي المتعدد الأحزاب، إذ أصبحوا وسطاء انتخابيين للأحزاب مقابل مكاسب ورعاية. وبذلك ساهم التطور الاقتصادي المحدود في تعميق اللامساواة محليًا ووطنيًا. إلى هنا، يتوافق تحليله مع أعمال غيره من الباحثين التقدميين، بل إنه يعترف بتأثره بأساتذته مثل موبچيل قيراي وفهمي يافوز. لكنه يذهب أبعد، مبرزًا أن الخطاب الكمالي المعادي لـ”الإقطاع” لم يترافق مع سياسات جادّة لتفكيك “الإقطاعية”. فالترحيلات التي طالت زعماء القبائل بعد الثورات الكردية لم تُحدث تغييرًا بنيويًا، إذ عاد الزعماء لاحقًا واستعادوا أدوارهم لغياب مؤسسات بديلة. بل إن ترحيل 55 زعيمًا بعد انقلاب 1960 كان – برأيه – موجّهًا ضد الحزب الديمقراطي والشعور القومي الكردي أكثر منه ضد “الإقطاع”.

سيعود بيشكجي لاحقًا إلى هذه الفكرة مرارًا، مؤكدًا أن “مسألة الشرق” كانت في جزء كبير منها نتاجًا لسياسات الدولة. ففي ورقة قدّمها عام 1970 بجامعة حاجت تبه، شدّد على أن حركة الاستقلال الكمالية كانت معادية للإمبريالية لكنها لم تكن معادية للإقطاع. فـ”الإقطاعية” استمرّت بفضل سياسات الدولة نفسها، التي غذّتها المخاوف من النزعة الانفصالية الكردية. كما بيّن أن فقر الشرق تفاقم نتيجة الإهمال المتعمّد وبعض أوجه سياسات الاستيعاب، مثل منح أراضي الدولة للمهاجرين من البلقان بدلًا من الفلاحين الكرد. في هذه الورقة وجّه نقدًا حادًا للباحثين الكماليين الذين صاغوا “الحقائق الرسمية” حول الشرق واستبعدوا البعد الإثني من الوجود. وكانت تلك آخر مرة يُدعى فيها للمشاركة في مؤتمر أكاديمي رسمي بتركيا. من هنا تظهر البذور الأولى لما سيصبح لاحقًا المحور المركزي لأعمال بيشكجي: نقد ممنهج للأيديولوجيا والممارسة الكمالية. فبعد أن بدأ باحثًا يدرس الكرد، تطوّر تدريجيًا إلى مدافع عنهم. لكنه في عام 1968 كان لا يزال مراقبًا متعاطفًا على الطريقة الكمالية، يسعى إلى حل المشكلات بإصلاحات “من فوق”. كتب آنذاك أن جوهر المسألة هو ارتفاع معدل الولادة في الشرق دون توفر فرص عمل أو إنتاج غذائي موازٍ، ما يجعل من الإصلاح الزراعي ضرورة ملحّة، لكنه غير كافٍ، بل يجب صياغة خطة تنمية متكاملة للمنطقة. بهذه التوصيات، وجد بيشكجي نفسه في اتفاق مع الاتجاه السائد بين علماء الاجتماع والاقتصاد الكماليين في تلك الفترة.

تشريح الأناضول الشرقي

أكثر أعمال بشيكجي طموحًا، كتابه نظام الأناضول الشرقي (Doğu Anadolu’nun düzeni)، الذي نُشر لأول مرة عام 1969. في هذا الكتاب يحاول تكييف وتطبيق المفاهيم الماركسية على تحليل المجتمع الكردي وعلى العمليات الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية الجارية فيه. يسعى إلى تحليل المجتمع العشائري البدوي والمجتمع الفلاحي من حيث أنماط الإنتاج، ويدرس التغلغل غير المتكافئ للرأسمالية في مختلف مناطق كردستان التركية. كان بشيكجي يهدف بوضوح من خلال هذه الدراسة إلى تقديم إسهام رئيس في النقاش الدائر آنذاك بين أوساط اليسار التركي حول طبيعة الاقتصاد التركي: هل هو إقطاعي، شبه إقطاعي، أم رأسمالي، أم أن “النمط الآسيوي للإنتاج” هو السائد؟ لقد كان لهذا السؤال تبعات مباشرة على الاستراتيجية الثورية المرجو اتباعها، وكان يخيّم بظلاله الثقيلة على الانقسامات التي حدثت لاحقًا داخل اليسار. الإطار النظري الذي قدّمه بشيكجي في مقدمة كتابه لتحليل التطور الاجتماعي والاقتصادي لم يكن متقدّمًا جدًا؛ إذ اعتمد على الأدبيات الماركسية المتوفرة آنذاك، والتي كانت محدودة للغاية وتميل عمومًا إلى أكثر أشكال المادية التاريخية حتميةً. ومن هذه الناحية لم يكن بشيكجي مختلفًا عن معاصريه؛ ما ميّزه عنهم هو جهده في تفسير الوضعية الخاضعة للكرد في تركيا ضمن إطار التطور الاجتماعي: من الإقطاع، مرورًا بالرأسمالية التجارية والصناعية والمالية، وصولًا إلى الاشتراكية. وفق مخططه، بدأت الأمم في التشكل مع الرأسمالية التجارية، وبلغت تمام تشكّلها في ظل الرأسمالية الصناعية، بينما ارتبطت الرأسمالية المالية بظهور الأمم المهيمنة والدول الاستعمارية. ولم يكن من الممكن أن تقوم علاقات متساوية بين الأمم إلا في ظل الاشتراكية. ومن دون أن يصرّح بذلك مباشرة، كان بشيكجي يحيل هنا إلى الأطروحة التي طورها اليسار الكردي، والتي ترى أن تركيا دولة استعمارية وأن الكرد شعب مستعمَر. وبحسب هذا التصور، فإن اضطهاد الكرد كان نتيجة للتطور الرأسمالي غير المتكافئ، ولن يجد حلاً إلا مع الانتقال إلى الاشتراكية.

إلا أن ما هو أكثر إثارة للاهتمام من الاعتبارات النظرية كان الجانب التجريبي من الدراسة. فقد قدّم ملخصًا عن تحليله السابق لعشيرة عليكان البدوية، وقارنه بتوصيفات لتشكيلات اجتماعية ـ اقتصادية أخرى في كردستان، لا سيما في المناطق التي يمكن فيها رصد التحولات في علاقات الإنتاج. جرت مقارنة مناطق ذات أنماط مختلفة من ملكية الأرض وتقسيم العمل والموارد بين المجموعات الإثنية، من أجل تفسير أسباب مثل كون قارص ذات توجه تقدمي غالب، في حين تظل أرضروم محافظة بشدة سياسيًا. أما ديار بكر فوصفت بأنها منطقة تحولت فيها العلاقات “الإقطاعية” بين الملاك والفلاحين، بفعل الميكنة الزراعية، إلى علاقات عامل-رب عمل منزوعة من الالتزامات الاجتماعية التقليدية. وفي أورفة، حيث أكبر الملكيات الزراعية، لم تحوِّل الميكنة الفلاحين إلى عمال، بل جعلتهم عاطلين عن العمل. وفي عنتاب وسعرت رصد بشيكجي انتقالًا في صناعة النسيج من الإنتاج على الأنوال المنزلية (لصالح مقاول حضري يوفّر المواد ويشتري المنتجات) إلى الإنتاج في ورش على يد عمال مأجورين (رغم تدني أجورهم). كما حلّل الدور الحيوي للتهريب في اقتصاد المناطق الحدودية مع سوريا وإيران، وأتبع ذلك باستطراد قصير حول “اللصوصية الاجتماعية” المنتشرة في كردستان، والتي ربطها أيضًا بأنماط ملكية الأرض.

وعلى خلاف أطروحته السابقة، لم يُعتمد في هذا الكتاب على مقابلات استبيانية، بل على طيف واسع من المصادر الشفوية والمكتوبة (بما في ذلك مقالات صحفية عديدة)، إلى جانب ملاحظاته الشخصية المباشرة. ورغم وجود بعض الثغرات، فإن الدراسة ثرية جدًا بالتفاصيل الوصفية، وتستحق التقدير لكونها أول عمل يبرز التنوع الكبير في المنطقة، واتساع نطاق بنياتها الاجتماعية، وتعقّد دينامياتها الاجتماعية. وقد استُكمل المسح الاجتماعي ـ الاقتصادي بعدد من الفصول القصيرة حول الاقتصاد السياسي للدين. لم يقدّم بشيكجي أبحاثًا أصلية في هذا المجال، ولم يطرح تفسيرات جديدة، لكنه جمع على نحو مفيد معطيات عن العلاقات بين السنة والعلويين، وعن دور الشيوخ الصوفيين، وعن الحركات والطرق الدينية في المنطقة.

النصف الثاني من الكتاب يتناول ظهور المسألة الكردية في تركيا كمسألة قومية. يبحث بشيكجي في تطور العلاقة بين القبيلة والدولة في أواخر العهد العثماني وخلال الحقبة الجمهورية. وفي هذا السياق، يحلل ـ من بين أمور أخرى ـ الانتفاضات الكردية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وسياسات الاستيعاب الحكومية المركزية، وتعزيز مواقع الآغوات بعد الانتقال إلى التعددية الحزبية، وبوادر القومية الكردية في ستينيات القرن العشرين. لقد كان هذا أول جهد جاد لكتابة تاريخ اجتماعي وسياسي للكرد في تركيا، وظل طويلًا عملًا غير مُتجاوز.

في هذا الكتاب تخلّى بشيكجي عن المنظور الكمالي الذي هيمن على أطروحته للدكتوراه، ورغم أنه بقي قريبًا من الخطاب الماركسي السائد آنذاك، فإنه لم يختزل المسألة الكردية في مسألة التخلف والإقطاع. على العكس، ربط انتشار الوعي القومي الكردي (بين شرائح أوسع من النخب التقليدية) بانحسار الروابط الإقطاعية وظهور علاقات الإنتاج الرأسمالية في المنطقة. لقد قلب بشيكجي الافتراض الكمالي رأسًا على عقب، ذلك الافتراض القائل إن التحديث سيقضي حتمًا على التمايزات الإثنية ويؤدي إلى أمة تركية قوية واحدة. فبرأيه، الكرد، الذين لم يكونوا بعد أمة، سيغدون حتمًا كذلك بمجرد تفكك العلاقات الإقطاعية. لم يحقق كتاب التأثير الذي يستحقه. فقد كانت الموضوعات التي ناقشها حساسة للغاية، ولم يُحدث الكتاب جدلاً يُذكر في الأوساط الأكاديمية أو بين المثقفين اليساريين. أما البيئة الأكاديمية الأقرب إليه، جامعة أتاتورك في أرضروم حيث كان لا يزال أستاذاً مساعداً، فشُرِقَت لاختياره هذا الموضوع واتخذت بحقه إجراءات تأديبية. بعد تحقيق إداري، تم فصله بحجة أنه بنشره هذا الكتاب يكون قد انتهك دستور تركيا (الفقرة المتعلقة بعدم تقسيم البلاد). نجح بيشكجي في استئناف الحكم أمام مجلس الدولة، الذي أعلن بطلان فصله، لكن الجامعة رفضت إعادة قبوله. وبعد التدخل العسكري في 12 مارس 1971 وإعلان حالة الطوارئ، قام رئيس الجامعة وعمداؤها بالإبلاغ عن بيشكجي للسلطات العسكرية. ولم يمض وقت طويل حتى تم اعتقاله ومحاكمته بتهمة الدعاية الشيوعية والمعادية للوطن. وكان رؤساؤه وزملاؤه شهوداً للادعاء، متهمينه بالدعاية الشيوعية والكردية في محاضراته. أما الدليل المادي الوحيد الذي عُرض في المحاكمة فكان كتابه وبعض المقالات التي تلخص حجج الكتاب. وأصدرت المحكمة حكماً بالسجن عليه لمدة 13 عاماً بتهمة انتهاك وحدة الأمة التركية.

لم يضطر بيشكجي لقضاء كامل حكم الـ13 عاماً، إذ استفاد من العفو الذي أعلنته حكومة إيسيفيت-إربيكان، وأُفرج عنه في أواخر 1974. تقدّم دون جدوى للحصول على وظيفة في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة، التي كانت في 1970 قد أبدت استعدادها لتوظيفه. لم يجد وظيفة أكاديمية مرة أخرى، وأصبح منذ ذلك الحين يقوم بأبحاثه كعالِم مستقل، في ظروف اقتصادية صعبة. أظهر زملاؤه القليل من التضامن أو لم يظهروا أي تضامن، متجنبين الاقتراب منه خوفاً من أن يُرتبطوا أيضاً بـ”الانفصالية” الكردية. ومن ناحية أخرى، أصبح مشهوراً في الأوساط الكردية، وبذل الكرد جهوداً لمساعدته في أبحاثه، موفّرين له الوصول إلى معلومات غير منشورة ومساعدته في العثور على وثائق نادرة. وكانت دار النشر الكردية “كومال” هي التي نشرت أولى دراساته في السبعينيات.

لكن لم يعانِ أحد من درجة العزلة نفسها التي عانى منها بيشكجي. العديد من المثقفين رفضوا بشدة التزام بيشكجي الظاهر بالقضية الكردية، لأنه كان يخالف قناعاتهم الأيديولوجية الخاصة. من خلال التأكيد على أن الانتماء العرقي هو حقيقة مهمة في الحياة الاجتماعية، ومعاملته للقومية الكردية كظاهرة اجتماعية واضحة تماماً مثل القومية التركية، وتشكيكه في الطابع المناهض للإقطاع وبالتالي التقدمي للكمالية، ضرب بيشكجي جذور رؤية العالم لدى الكماليين وكذلك لدى الاشتراكيين الأتراك. كلاهما كانا يرون القومية الكردية، خاصة عندما يمثلها الأغوات والشيوخ، كقوة رجعية قد تخدم العدو الإمبريالي بتقسيم الأمة التركية، أو الطبقة العاملة، أو جميع القوى التقدمية، وكان لا بد من التغلب عليها بأي ثمن. وبمجرد إقراره بأن القومية الكردية صاعدة وأن العرقية الكردية أمر ذو صلة، أصبح بيشكجي مرتبطاً بالعدو. وكان الكثير من إنتاج بيشكجي الفكري في السبعينيات موجّه ضد الافتراضات الضمنية والعمى الانتقائي لمثل هؤلاء الزملاء، والتي كان هو نفسه ينتقدها باعتبارها غير علمية. وكانت جميع كتاباته في هذا العقد تشير في عناوينها إلى “المنهج العلمي” وتهدف صراحة إلى المساهمة في نقد منهجي لسياسات الكمالية وأيديولوجيتها، وخصوصاً التأريخ الكمالي لتركيا. وبالتالي، يمكن التعامل مع سلسلة دراسات بيشكجي حول سياسات الكمالية تجاه الكرد، بأنها تشكّل واحدة من أولى المحاولات المنهجية لمراجعة جادة لتاريخ الجمهورية في تركيا. ناقش بيشكجي قانون التهجير القسري لعام 1932، الذي شكّل الإطار القانوني للترحيل الجماعي للكرد كوسيلة للتمكين من عملية الاستيعاب القسري. ويقدم، بالإضافة إلى نص القانون وتوضيحات الحكومة، المناقشات التي دارت في البرلمان وآراء الخبراء الأكاديميين المعاصرين. كان القانون يهدف إلى نقل السكان الكرد من المناطق الحساسة التي يشكلون فيها الأغلبية إلى مناطق يغلب عليها السكان الأتراك، وإعادة توطين “أشخاص من الثقافة التركية” في المناطق المفرغة.

وكانت المنطقة الوحيدة في كردستان التي تم فيها تطبيق قانون التهجير بشكل منهجي هي درسيم، المنطقة التي حافظت أطول فترة على شكل من أشكال الحكم الذاتي الفعلي. ويفصّل بيشكجي ما حدث لهذه المحافظة المؤسفة. فقد وضع قانون خاص في 1935، المنطقة تحت الحكم العسكري، وأُعدت التحضيرات لتسويتها، وقدّم حادث بسيط ذريعة لحملات عسكرية وحشية في 1937 و1938، قُتل خلالها جزء كبير من السكان، ونُقل العديد من الناجين إلى غرب تركيا. وقد قدّم هذا المجلد مواد مهمة متاحة لأول مرة للطباعة. قبل ذلك، كانت هناك رواية كردية لما حدث في درسيم كتبها شخصية كردية بارزة من المنطقة، وتاريخ عسكري لحملات درسيم أعده قسم التاريخ في هيئة الأركان العامة. وباعتباره تكميلاً مهماً لهذه المصادر، يوثق بيشكجي مواقف ودوافع ومداولات الجانب الحكومي، وهو أمر أساسي للإجابة على سؤال ما إذا كانت المجازر تُعد إبادة جماعية — وهو السؤال الذي يجيبه بيشكجي بالإيجاب.

داخل السجن والمحاكم

داخل السجن والمحاكم، شعر بيشكجي بالذهول إزاء إنكار القضاة والمدعين المستمر والصلب لوجود الكرد ولغتهم. كما أصابه الصدم عندما شهد أن رؤساء الجامعات والعمداء والأساتذة في جامعة أرضروم يدلون بشهادات ضدّه بفخر، ويصفونه بالخائن. أتاحّت له محاكمات ديار بكر فهمًا أفضل أن المؤسسات القانونية والأكاديمية في تركيا لم تكن تعزز قيمًا عالمية مثل العدالة أو الحقيقة أو حرية التعبير، بل كانت تعمل لخدمة المصالح العليا للتركوية والأيديولوجيا الرسمية للكمالية.

كل هذا اضطر بيشكجي لاتخاذ خيار واعٍ. فقد أدرك أنه إذا أصرّ على تأكيد وجود الشعب الكردي، ولغتهم، وحقوقهم أمام مؤسسات الدولة، فسيضطر لدفع ثمن باهظ: فكّرت كثيرًا في نوع الموقف الذي ينبغي أن أتبناه. كان هذا نقاشًا مع نفسي، جدالًا ذاتيًا، وتمحيصًا ذاتيًا.  اتخذ هذا الخيار شكلًا ملموسًا عندما نصحه أصدقاؤه من الاكاديميا بأنه إذا لم يقدم دفاعًا سياسيًا أمام المحكمة، فسيوظفون له محاميًا قويًا. وفي النهاية، أخذ هو وأصدقاؤه المخاطرة وقدموا دفاعًا سياسيًا: بدل إنكار التهم، اعترفوا بها، مؤكدين أن الكرد موجودون كأمة منفصلة، وأن لغتهم ليست التركية، وأن الدولة الكمالية اضطهدت الشعب الكردي وارتكبت مجازر ضده بشكل ممنهج.

خلال هذه الفترة، ترك بيشكجي “التركوية” وراءه نتيجة للتحليل الذاتي والتحول الشخصي الراديكالي الذي مرّ به. وهنا، لا يشير مصطلح “التركوية” إلى الهوية العرقية التركية، بل إلى حالة داخلية متأصلة من الرؤية والإدراك والانتباه والتعاطف؛ وبالمقابل، هي أيضًا عن عدم الرؤية وعدم الإدراك وعدم الانتباه وعدم التعاطف. فالتركوية ليست أن تكون تركيًا، بل أن تصبح تركيًا، أي أنها حالة عقلية ونفسية واجتماعية يتم اكتسابها عبر عملية التنشئة الاجتماعية. تعمل الأسرة، والمدرسة، والمسجد، والخدمة العسكرية الإلزامية، ووسائل الإعلام التركية على تنشئة الأفراد وفق مجموعة من الأعراف الثقافية والعادات الذهنية التي تسمى التركوية. استخدام مصطلح “التركوية” يتوافق مع مفهوم “البياض” كما تطور في دراسات البياض في الولايات المتحدة. ففي التسعينيات، بدأ علماء وناشطون بيض راديكاليون ونسويون ويساريون بالتأمل والكتابة حول “بياضهم”، وأشاروا إلى أن إدراك مدى امتلاكهم للبياض كان تجربة صعبة، إذ بعد سنوات من الاعتقاد بأنهم محصنون تمامًا من أي شكل من أشكال العنصرية، أدركوا في مرحلة معينة وجود بياض متجذر بداخلهم يشكل رؤيتهم للعالم ومشاعرهم وأفكارهم وتعاطفهم. كما أدركوا أن العنصرية نظام يمنح امتيازات لمن هم في قمة التسلسل العرقي بينما يحرم المضطهدين من حقوق معينة.

عندما أُفرج عن بيشكجي وآخرين صيف 1974 نتيجة العفو العام، كان يأمل العودة إلى موقعه في التدريس. لكن على عكس زملائه الذين سُجنوا أيضًا، لم يُعاد تعيينه تلقائيًا، بل اضطر لإعادة امتحان التأهيل. ومع ذلك، وجدت اللجنة نفسها التي وظفته عام 1971 أنه علميًا غير كافٍ، واستُبدل به شخص آخر. كان هذا بمثابة فصل غير رسمي، على عكس الفصل الرسمي الذي وقع في أرضروم. بعد انتهاء حياته الأكاديمية، عزز بيشكجي ارتباطه بالراديكاليين الكرد. بين 1975 و1980، أنهى اليسار الكردي انفصاله عن اليسار التركي وبرز كحركة مستقلة. خلال هذه السنوات، أعاد بيشكجي وفلاسفة الكرد التاريخ الحديث لتركيا وخلقوا تأريخًا بديلًا هز جذور الأيديولوجيا الكمالية والاشتراكية. ومن أبرز أفكارهم الجديدة أن كردستان يمكن فهمها كأفضل صورة كـ”مستعمرة لتركيا”. وابتداءً من هذه الفترة وحتى التسعينيات، ركّز بيشكجي على موقع كردستان كمستعمرة دولية لتركيا والعراق وإيران وسوريا. لم يقتصر الأمر على طرح نظرية المستعمرة الداخلية فحسب، بل نبه أيضًا إلى الإبادات والمجازر، والسياسات العنصرية للتذويب، وإنكار الدولة لوجود الكرد، وسياسات وبرامج التهجير القسري. وقد شكلت هذه التصريحات صدمة مفاجئة للمثقفين الأتراك الذين اعتبروا تركيا الكمالية دولة مناهضة للاستعمار والإمبريالية، خصوصًا في عهد مصطفى كمال أتاتورك. لكن تحت يد المثقفين الكرد وبيشكجي، تحولت تركيا الكمالية إلى دولة استعمارية وعنصرية.

في أعماله خلال السبعينيات والثمانينيات، لم يقتصر نقد بيشكجي على الدولة التركية والأيديولوجيا الكمالية الرسمية، بل شمل أيضًا المثقفين واليساريين الأتراك. فبالنسبة له، كان الاشتراكيون الأتراك تحت تأثير دائم للكمالية القومية والحداثية والمركزية منذ تأسيس تركيا الحديثة عام 1923. ونتيجة لذلك، نظروا إلى القضية الكردية باعتبارها انعكاسًا للتخلف، وعدم التوازن التنموي بين المناطق، والعلاقات الاجتماعية الإقطاعية المهيمنة في كردستان. واعتبروا أن ثورات الكرد كانت إقطاعية ودينية ووسيلة لقوى الإمبريالية لتقسيم تركيا. ومن خلال تبني معظم هذه الفرضيات الكمالية، ودعم المبادئ المركزية للأيديولوجيا الرسمية، وتجاهل الحلقات العنيفة والعنصرية، ورفض الدفاع عن كفاح الكرد من أجل حقوقهم، نما اليسار التركي منذ نشأته كقوة فكرية استعمارية. بالنسبة لبيشكجي، فإن خطاب الماركسيين الأتراك الذي يركز على الطبقة والرأسمالية مع تجاهل القضية الكردية، كان تنازلاً لا يُغتفر للأيديولوجيا الرسمية، مما جرد اليسار التركي من نزاهته وشرعيته.

الماركسي النموذجي لا يفخر بكونه تركيًا بالدرجة الكبيرة. فهو يعتبر نفسه دوليًا أو كوزموبوليتانيًا. أما الماركسي التركي، فعادةً لا يفكر في مدى تأثير التركوية على تحليلاته، أو كيف تجعلها مشوبة بالتحيز بسبب نشأته كتركي. على سبيل المثال، حتى التسعينيات، كان الماركسيون الأتراك يتجاهلون ببساطة أسئلة محورية مثل الإبادة الأرمنية أو القضية الكردية في تحليلاتهم، ولم يروا أي مشكلة في هذا التجاهل. كانوا يعتقدون أنهم مجرد موضوعيين علميًا في تحليلهم للمواضيع. ومع ذلك، هذه القضايا تعتبر ضرورية لفهم كل المسائل الجوهرية في تركيا، من البنية الطبقية إلى الأيديولوجيا الرسمية، ومن الأكاديمية إلى الجيش. بالطبع، يرتبط هذا التجاهل جزئيًا بالمخاطر الكبيرة التي قد تنجم عن تناول تلك القضايا، إذ تعاقب الدولة من يوليها اهتمامه. وبالتالي، يمكن للخشية أن تفسر جزئيًا سبب فشل الأكاديميين في معالجة هذه الأسئلة في دراساتهم. ومع ذلك، دفع معظم الماركسيين الأتراك ثمناً كبيراً بالفعل لمناصرتهم حقوق الطبقة العاملة أو معارضتهم للإمبريالية. يبدو إذًا أن السبب الرئيسي للتجاهل مرتبط بالتركوية. فالماركسي التركي هو تركي إلى الحد الذي لا يأخذ فيه تركويته بعين الاعتبار كعامل أساسي قد يكون شكّل أفكاره، ردود أفعاله، مشاعره، تجاهلاته وشموله للأشياء.

لذلك، لكي يكون المرء ثوريًا حقيقيًا ودوليًا، يجب أن يتخلى عن التركوية، وهو ما لا يتحقق إلا عبر التفكيك الذاتي وجرد العوامل التي شكّلت تركويته. وما جعل بيشكجي استثناءً داخل النخبة الفكرية التركية هو أنه مرّ بهذا التفكيك الذاتي والتحوّل الشخصي الناتج عنه. باختصار، غيّر أسلوب حياته، وعلاقاته بالآخرين، وعلاقته بنفسه. أصبح بيشكجي بعد أن تخلى عن المؤسسة الأكاديمية، أكثر حرية من قبضة الأيديولوجيا الرسمية للدولة، وبدأ بالتفكير والكتابة بشكل أكثر راديكالية. وفي كلمات بيشكجي نفسه يمكن أن تشكل التسلسلات الوظيفية داخل المسار الأكاديمي—مساعد، أستاذ مشارك، أستاذ—حاجزًا أمام حرية التعبير. في هذه العملية، يحدث التعرض للرقابة أو الرقابة الذاتية كثيرًا […] في مكان يُدافع فيه عن الأيديولوجيا الرسمية إلى هذا الحد […] لن يكون ممكنًا، كما أرى، إجراء الدراسات حول الكرد أو نقد الأيديولوجيا الرسمية من هذه الزوايا .

بيشكجي في سياق عالمي

نشأت نقاشات مماثلة حول التحوّل الشخصي في جنوب أفريقيا بين الراديكاليين السود والبيض في السبعينيات. تحت نظام الفصل العنصري، انتقد المثقفون السود الماركسيين والليبراليين البيض لاعتقادهم بأن التناقض الأساسي في المجتمع قائم على الطبقة، وليس العرق. وفي هذا السياق، تتقاطع نقديات ستيف بيكو للبيض في جنوب أفريقيا مع نقد بيشكجي للماركسيين الأتراك: يتبنى عدد من البيض في هذا البلد التحليل الطبقي، أساسًا لأنهم يريدون فصلنا عن أي شيء يتعلق بالعرق، خشية أن يكون لذلك تأثير معاكس عليهم لأنهم بيض. هذه هي المشكلة. الكثير منهم يتبنى التحليل الطبقي كآلية دفاعية ويقتنع به لأنه أكثر راحة لهم. وبالطبع، بعضهم متزمت، متعصب جدًا ومتغطرس للغاية. لا يعرفون إلى أي مدى يجب أن يتخلوا عن جزء من أنفسهم ليصبحوا ماركسيين حقيقيين (Biko 2008. بمعنى آخر، قد يكون الماركسية وسيلة للمثقفين للهروب من المسؤوليات الاجتماعية والسياسية والشخصية في كل من جنوب أفريقيا وتركيا. أن تكون ثوريًا حقيقيًا بمعنى التخلي عن قيمك وامتيازاتك وبيئتك وعائلتك وأصدقائك والانضمام إلى نضال الآخرين، يتطلب شجاعة أخلاقية كبيرة.  هذا بالضبط ما مرّ به بيشكجي بعد تخليه عن التركوية. أصبح راديكاليًا لدرجة أنه أحدث تأثيرًا مزعجًا لدى المثقفين الأتراك الذين يعتبرون أنفسهم راديكاليين. نطاق راديكاليته، وموقفه الصارم كمثقف، وانتقاداته الحادة للنخبة الفكرية، جعلته شخصية مزعجة. بالمقارنة، بدا أقران بيشكجي الأتراك أقل راديكالية بكثير. لذلك، طور المثقفون الأتراك استراتيجيات معينة، أصبح الصمت والجهل أبرزها، لتجنب التأثير المزعج لبيشكجي وأفكاره. وانتقل هذا الصمت والجهل من جيل إلى آخر، من أستاذ إلى مساعديه وطلابه، ومن مرشد إلى تلاميذه، وهكذا. هذه السلسلة جعلت بيشكجي وأفكاره شبه مجهولة—كما لو لم يكن موجودًا—لدى غالبية المثقفين والطلاب الأتراك. بالنسبة لنشاط فكري بهذا الحجم، كان يجب أن يكون هناك العديد من الدراسات والمونوغرافيات والسير الذاتية. ومع ذلك، هناك القليل جدًا عن بيشكجي في تركيا، وهذه القلة حديثة نسبيًا.

يُعَدّ إسماعيل بيشكجي أول عالم اجتماع في تركيا الحديثة يحلّل اضطهاد الكرد، الموزّعين على أربع دول قومية، من خلال مفهوم «المستعمرة الدولية». في السنوات الأخيرة، جرى الاحتفاء ببيشكجي بين أقرانه وجيل جديد من المثقفين في تركيا وخارجها، الذين صاروا يُشيرون بشكل متزايد إلى تجربة الاستعمار في تحليلاتهم لحياة الكرد وعوالمهم. ورغم أن تصور بيشكجي لكردستان كمستعمرة دولية أثبت فعاليته سياسيًا، إلا أن الجيل الجديد من الباحثين يتأثرون مفهوميًا أكثر بنظريات ما بعد الاستعمار وإزالة الاستعمار، ودراسات البياض النقدية، والكتابات الأصلانية. وتبرز في هذه الدراسات المعاصرة مجالان بحثيان بشكل خاص: تشكيل ذاتيات المستعمِر والمستعمَر، والبُعد المكاني لكردستان كأرض مُستعمَرة. لكن قراءة مقصودة في أعمال بيشكجي تكشف أن كلا الموضوعين نوقشا بإسهاب في كتاباته، وإن جرى تحليلهما بمصطلحات مختلفة. إن تتبّع هذه النقاشات حول المكان في تحليله للحدود، والطبيعة، والخصائص المادية للأراضي المستعمَرة، وربط النقاشات حول الذاتية بتحليلاته عن الاستيعاب، والعنصرية، وتفكيك النسيج الاجتماعي، وعلاقة الشعوب المستعمَرة بلغتها وثقافتها وتاريخها، قد يشكل الخطوة الأولى للباحثين الشباب لبناء أنساب مفهومية عملية.

حلّل بيشكجي في الثمانينيات كردستان الشمالية كـ«مستعمرة داخلية» لتركيا، ثم وسّع تحليله ليعتبر كردستان مستعمرة دولية لتركيا وإيران والعراق وسوريا. وقد أكّد أن مثل هذه المستعمرة الدولية لا ينبغي النظر إليها كحصيلة لبُنى استعمارية متفرقة، لأن طابعها الدولي يغيّر بصورة نوعية مضمون الاستعمار. فقد رأى أن الطبيعة المجزأة للهيمنة السياسية على الكرد هي في الوقت ذاته سبب ونتيجة لعلاقات قوة متميزة في الساحة الدولية. ففي معظم حركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار، كان على الشعوب المستعمَرة أن تكافح ضد دولة واحدة، بينما في كردستان يجري النضال ضد أربع دول، لكل منها علاقات ومصالح مختلفة في الساحة الدولية. بل إن النضال الكردي، رغم أنه لم يكن مقصودًا من الحركات الكردية نفسها، يُدرَك في الساحة الدولية كأنه معادٍ للأتراك أو للفرس أو للعرب. لذلك فإن أي دولة ترغب في علاقات جيدة مع هذه الدول الأربع تجد نفسها مضطرة إلى تجاهل حقوق ومطالب الشعب الكردي. لهذا السبب يصف بيشكجي الكرد بأنهم «أمة لم تستطع أن تكون حتى مستعمرة»، لأن الاستعمار يمنح، ولو في حدوده الدنيا، وضعًا سياسيًا محددًا.

في التعريف الكلاسيكي للمستعمرة، تشكل وحدتها المكانية وحدودها المرسومة شرطًا أساسيًا. وبالإشارة إلى استعمار إفريقيا، يذكر بيشكجي مؤتمر برلين 1885 بوصفه محطة مفصلية جرى خلالها ترسيم حدود المستعمرات الإفريقية. لكن كردستان لم تعرف تشكيل إقليم موحد كهذا: حتى في كردستان الجنوبية (إقليم كردستان في العراق)، هي فدرالية، لكننا لا نعرف على وجه التحديد أين تقع الحدود. هي أرضك، وحكمك سيُطبَّق هناك، لكن أين بالضبط؟ هذه مسألة ترسيم حدود، ولهذا نقول: كردستان ليست حتى مستعمرة، لأن المستعمرات لها حدود مرسَّمة.

كما يُبرز تحليل بيشكجي للطابع الإقليمي لاستعمار كردستان تمييزًا مهمًا بين المستعمرات المجاورة والمستعمرات ما وراء البحار، ليس فقط من حيث قدرات الدولة التي يتيحها كل نمط، بل أيضًا من حيث منطق القمع والتدمير الخاص بكل حالة. ففي المستعمرات ما وراء البحار كانت المسافات الشاسعة تفصل بين العاصمة الاستعمارية والأرض المستعمَرة. وفي الستينيات والسبعينيات، لم يكن من السهل على الدولة المستعمِرة، نظرًا للقيود التكنولوجية، أن تفرض هيمنتها الجوية في جميع الأحوال الجوية. كذلك كان نفوذ الحكومات الاستعمارية أكثر فاعلية عند السواحل والأنهار، ويتضاءل كلما ابتعدت نحو الداخل. هذه العوامل من المسافة والتمييز الإقليمي، التي كانت تحدّ من قدرة الدولة الاستعمارية على فرض هيمنتها، لم تكن موجودة في المستعمرات المجاورة: على سبيل المثال، عندما تقلع طائرة حربية من بغداد، تبدأ في قصف كردستان الجنوبية بعد ثلاثين دقيقة فقط من إقلاعها (…) لهذا السبب يكون القمع والعنف أكثر كثافة ويتغلغل في شرايين المجتمع [المستعمَر].

كما حلّل بيشكجي علاقة الشعب الكردي بالأرض والوطن والطبيعة وبالشعوب الأخرى في إطار الاستعمار، على نحو ما يزال ذا صلة بالنقاشات الراهنة حول الأمكنة المستعمَرة. فقد رأى أن سياسات فرّق تسد في كردستان لم تُطبّق مباشرة من قبل الدول الإمبريالية الغربية، بل عبر الدول الأربع المستعمِرة المتعاونة في المنطقة، وذلك وفق سياسة «فرّق، احكم، وامحُ». واستهدف هذا المحو ليس البشر فحسب، بل أيضًا الحيوانات والقرى وغابات كردستان، التي جرى إحراقها وتدميرها بشكل منهجي من قِبل هذه الدول.

وعلى غرار تحليل فرانز فانون لاستعمار الجزائر، تجاوز إطار بيشكجي حدود الاستغلال المادي والهيمنة السياسية والعنف الذي تمارسه الدولة ضد الكرد، ليُبرز كذلك أثر الإذلال والعار على ذوات الشعوب المستعمَرة. وكانت هذه التجارب هي التي دفعت الحركة الكردية إلى رفع مطالب رمزية جماعية مثل الكرامة والشرف وتوظيفها في تشكيل الوعي السياسي الكردي: أمة حُظر اسمها. أمة سُلب شرفها، وأُتيح لها خيانة ذاتها، أمة مُهانة. لم يكتفِ الكرد بإدراك الوضع الذي يعيشونه والمكانة التي اعتُبرت لائقة بهم، بل بدأوا أيضًا يشعرون بالخزي من عبوديتهم. ومن ثم، ينبغي لهم إصلاح هذا الوضع. عليهم أن يجدوا سبيلًا للعيش بكرامة. إن النضال القائم الآن هو نضال من أجل المساواة مع جميع الأمم والشعوب. جادل بيشكجي بأن الحالات الانفعالية الجمعية من فرح وحزن وفخر لم تكن مهمة لصحوة الشعب الكردي فحسب، بل جرى توظيفها أيضًا في بناء الأمة التركية كجماعة عرقية-إثنية متجانسة من المواطنين، موحَّدين عبر مشاركة هذه الانفعالات. ويشكّل إنكار العنصرية ركيزة أساسية في ذاتية المستعمِر التركي، إذ يُبقي على وهم المواطنة المتساوية والجماعة المدنية الشاملة، مع الاستمرار في تأكيد تفوق التركية. وقد عرّف بيشكجي خصوصيات التشكّل الخطابي للإنكار في صيغته الخاصة بالعنصرية التركية. فاستبدال كلمة «كردي» بعبارة «من أصل كردي» شكّل، في نظره، عنصرًا رمزيًا مركزيًا في العنصرية التي تتبناها الأيديولوجيا الرسمية التركية. هذه العبارة، «من أصل كردي»، هي أداة خطابية مخصوصة تُقلّص الهوية الإثنية للفرد إلى مجرد أصول في الماضي، والتي، وفقًا للأيديولوجيا الرسمية، يمكن ويجب التخلّي عنها.

لم يكن بيشكجي أول من زعم أن كردستان مستعمرة، لكنه كان من القلة النادرة التي لم تتراجع قط عن أطروحة الاستعمار طوال عقود. فالحركة السياسية الكردية، إلى جانب بعض تيارات اليسار التركي منذ السبعينيات، اعتبرت أن الدولة التركية مستعمِرة لكردستان. وفي المراحل التأسيسية لحزب العمال الكردستاني (PKK) أواخر السبعينيات، حين كان حزبًا ماركسيًا-لينينيًا، ورد هذا الطرح في بيانه السياسي، وشكّل الأساس لمطالب الكرد بحق تقرير المصير.وقد جادل الحزب بأن تاريخ كردستان هو تاريخ استعمار، محدِّدًا الفترة من 1925 حتى الأربعينيات بوصفها مرحلة الاحتلال العسكري، ومن الأربعينيات حتى الستينيات كمرحلة الاستيعاب، ومنذ الستينيات فصاعدًا كمرحلة الاستعمار الاقتصادي. وطوّر عبد الله أوجلان، القائد المؤسس للحزب، أطروحة الاستعمار في كتاباته، وعدّ مؤسسات الدولة التركية في كردستان—مثل شركات التعدين، وشركات توزيع الكهرباء، والمزارع الحكومية، والمصارف الحكومية—مؤسسات استعمارية. غير أنه بعد منتصف التسعينيات، حدث تحول في خطاب حزب العمال الكردستاني، متماشيًا مع التحول العالمي من حركات التحرر الوطني الماركسية إلى الحركات القاعدية ذات النزعة الاستقلالية الذاتية. وفي هذه الحقبة، استبدل الحزب رؤيته للاشتراكية والتحرر من المستعمِر برؤية الكونفدرالية الديمقراطية التي تسعى إلى بناء اقتصاد سياسي بديل عبر كومونات مناهضة للرأسمالية وبيئية.

وبعد اعتقال أوجلان عام 1999 على يد الدولة التركية، تخلّى الحزب—مستندًا إلى كتابات أوجلان في إطار دفاعه القانوني—عن هدف تشكيل دولة قومية كردية جديدة، وجادل بدلًا من ذلك بأن المسألة الكردية يمكن حلها دون تقسيم، عبر مسارات الديمقراطية داخل الدول القومية القائمة. ربما يتمثل الانقسام الأساسي بين الحركة السياسية الكردية وبيشكجي، في مشاريعهما المختلفة لفك الاستعمار أكثر من كونه في تحليلاتهما للمشكلة. ففي حين ترى الحركة الكردية أن التحرر يتحقق عبر الكونفدرالية الديمقراطية، يُصرّ بيشكجي على أنه في نظام عالمي إمبريالي تفرضه الدول القومية، لا يكتمل مسار فك الاستعمار إلا عبر التحرر الوطني وتأسيس دولة كردية. ومهما تباينت مشاريعهما السياسية، فإن هاتين الفكرتين توفران أرضية صلبة لتحليل ماضي وحاضر شعب وأرض.

وفي النهاية يمكن القول، قدّم بيشكجي إسهامات علمية مهمة في علم الاجتماع وتاريخ الكرد، ستظل قيّمة وستستمر في قراءة الطلاب والباحثين في المجتمع الكردي. كما أن بيشكجي يعد رائدا للدراسات الكردية في تركيا الحديثة، وسيظل جميع الباحثين اللاحقين في تاريخ ومجتمع الكرد مدينين له. أعماله في السبعينيات مهمة ليس فقط كدراسات عن التاريخ الكردي، بل وخصوصاً كأحد النقديات النادرة للغاية للأيديولوجية الكمالية والتحيّزات المرتبطة بها، والتي لم تسيطر فقط على الخطاب الأكاديمي السائد، بل وأثرت أيضاً على النقاشات في اليسار. كان بيشكجي عالماً ملتزماً، يرغب أن تكون أبحاثه ذات صلة ونافعة للمضطهدين — وهو موقف شائع بين الطلاب والباحثين الشباب في الغرب في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، رغم قلة من كانوا على استعداد لتحمل ما تحمّله بيشكجي. ومن المأساوي أن جزءاً كبيراً من أعماله العلمية لم يُنشر إلا بعد تأخير طويل. لقد كرّس بيشكجي جهوده غير الأكاديمية، كاتباً العديد من المقالات القصيرة والمطولات التي تنتقد الأيديولوجية الرسمية، سياسات الحكومة التركية، والشخصيات البارزة بشكل جدلي. كما كتب تحليلات حول حزب العمال الكردستاني اعتُبرت على نطاق واسع نوعاً من الشرعية ودعماً للحركة. هكذا اكتمل الانتقال من باحث يدرس الكرد، إلى مراقب متعاطف يشرح الكرد، إلى مفكر أيديولوجي للثورة الكردية — فرانز فانون الكرد.

للمزيد يمكن الرجوع إلى :

Bariş Ünlü: İsmail Beşikçi as a Discomforting Intellectual, Borderlands e-journal, 2012, Vol. 11, No. 2, SPECIAL ISSUE: COMMONS, CLASS STRUGGLE AND THE WORLD (2012), pp. 1-21

Barış Ünlü: The Kurdish struggle and the crisis of the Turkishness Contract,

https://journals.sagepub.com/doi/abs/10.1177/0191453715625715?etoc=

Deniz Duruiz: Tracing the Conceptual Genealogy of Kurdistan as International Colony,

https://merip.org/2020/08/tracing-the-conceptual-genealogy-of-kurdistan-as-international-colony

Martin van Bruinessen: Ismail Beşikçi Turkish sociologist, critic of Kemalism, and kurdologist,

The Journal of Kurdish Studies vol. V (2003-04 [2005]), 19-34.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى