مقالات

سياق حرج: انتخابات مؤقتة بين السلطة المفروضة ومطالب التمثيل الحقيقي

تحليل: الباحث السياسي/ محمد صابر .. شهدت سوريا في أكتوبر الجاري خطوة مفصلية في تاريخها السياسي، بعد إجرائها أول انتخابات برلمانية منذ سقوط نظام الأسد. هذه الانتخابات، التي انعقدت من خلال نظام غير مباشر يخضع لقيود أمنية وإدارية، مثلّت محاولة السلطة الانتقالية لترتيب المشهد التشريعي تحت ضغط الزمن والواقع المعقّد. فبدلًا من انتخاب مباشر وواسع، تم انتخاب ثلثي البرلمان عبر هيئات انتخابية مؤقتة، بينما يعين الرئيس السوري المؤقت “أحمد الشرع” الثلث الباقي، ما يبرز مزيجًا بين المظهر الديمقراطي واحتفاظ السلطة بآليات النفوذ. يُعد الأمر اختبارًا حقيقيًا لشرعية المرحلة الانتقالية في ظل إرث طويل من الاستبداد وأزمات التمثيل التي عاشها السوريون عبر عقود الحكم المركزي الشمولي.

لكن هذه الانتخابات لم تجرِ في فراغ، بل في بيئة سياسية واجتماعية محمّلة بالتوتر والانقسام. مناطق مثل الحسكة والرقة ومناطق الإدارة الذاتية قد استُبعدت مؤقتًا بذريعة الظروف الأمنية أو التوتر بين قسد والدولة الانتقالية. وقد قيل إن هذه الانتخابات في تلك المناطق ستُؤجَّل إلى حين تهيئة بيئة آمنة، ما فتح الباب أمام مخاوف من أن النظام الانتخابي غير المباشر قد يُسخّر لتمكين التحكم المركزي. هذا السياق يترك انطباعًا بأن التمثيل ليس للجميع، ويزيد من استياء المكونات التي ترى أن مشروع الدمج السياسي لا يشملها بالقدر الكافي.

وفي ضوء اختيار هذا التوقيت، برزت المظاهرات والرفض الشعبي كمؤشرات على أن الرأي العام لن يقبل بأن تكون هذه الانتخابات فقط لعبة شكلية. فخلال فترة ما قبل الانتخابات، خرجت احتجاجات في شمال وشرق سوريا على الأوضاع المعيشية والبنى التحتية، منها احتجاجات عند سد تشرين ضد القصف التركي وتعطيل المياه والكهرباء، وأخرى من الدروز في السويداء تطالب بحقوق التمثيل وإدارة ذاتية موسعة. هذه الحركات شكّلت صوتًا موازٍ للتشكيك في فاعلية الانتخابات إن لم تكن مرتبطة بإجراءات ميدانية ملموسة.

تأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى كشف الديناميات الخفية وراء الانتخابات النيابية في سوريا 2025، من خلال الربط بين الصيغة الانتخابية، الضغوط الإقليمية، الاحتجاجات الشعبية، ومطالب التمثيل الحقيقي. كما يهدف إلى استخلاص ملامح معادلة الشرعية المتبلورة في هذا الواقع، وتقديم رؤية للنتائج التي صدرت، الطعون المقدّمة، وانتقادات التمثيل النسوي. كما سنستعرض كيف يمكن للمكونات التي شعرت بالإقصاء أن تستثمر هذا الواقع لفرض تعديل المسار الانتخابي نحو تمثيل أكثر عدالة وشرعية.

معادلة التمثيل وسلطة الانتقال:

كان إعداد الانتخابات مصحوبًا بتحديات لوجستية وأمنية كبيرة. فقد أعلن جهاز الانتخابات الانتقالي عن تسجيل الهيئات الانتخابية في معظم المحافظات إلا في الحسكة والرقة والسويداء حيث تأخر العمل هناك. تم تشكيل لجان محلية مؤقتة في المدن التي يمكن الوصول إليها، ومنح هذه اللجان صلاحية توزيع قوائم الناخبين وإدارة مراكز الاقتراع. في الساعات الأولى من يوم الاقتراع، ظهرت صعوبات في بعض المراكز بسبب نقص الأوراق أو ضعف التنسيق، بالإضافة إلى بلاغات عن تأخيرات في فتح مراكز في مناطق نائية.

كما أظهرت المراقبة المحلية والدولية أن نسبة التصويت المباشر محدودة جدًا، حيث لم تُمنَح غالبية المواطنين في بعض المناطق حق التصويت المباشر، واكتفى الأمر بآليات اقتراع من خلال الهيئات الانتخابية، ما خلق جدلًا واسعًا حول مدى تمثيل هذه الانتخابات لإرادة الشعب الحقيقية. ومع إغلاق مراكز الاقتراع، بدأ فرز الأصوات تدريجيًا، وأُعلنت النتائج الجزئية أولًا في المحافظات التي أجريت فيها الانتخابات بانتظام، مع تأخير في إعلان نتائج المناطق التي تأجلت فيها العملية.

إضافة إلى ذلك، بادرت السلطة الانتقالية إلى مراقبة شديدة على مراكز الاقتراع والفرز، ووجود أفراد من الأجهزة الأمنية في بعض المواقع، وهو ما أثار تساؤلات من مراقبين حول حيادية العملية. بعض المرشحين أعلنوا عن شكاوى تتعلق بعمليات توزيع الأصوات، ببطء وصول القوائم إلى بعض المراكز، وتأخر فتح المراكز أو نقص المواد الانتخابية. وقد تم استقبال هذه الشكاوى من قبل لجنة الانتخابات الانتقالية التي قالت إنها ستدرس الطعون وتُعيد فتح بعض المراكز أو إعادة الفرز في حالات مشبوهة.

يُلاحظ أن غالبية المقاعد التي عُيّنت سلفًا (ثلث البرلمان) ذهبت إلى شخصيات مقربة من السلطة الانتقالية أو التي دعمت مشروع التحول المؤقت، مما عزّز المخاوف من أن البرلمان المُنتَخب قد لا يكون أداة للتغيير، بل منصة لترسيخ النفوذ المؤقت بدلًا من تحوّل فعلي على الأرض.

مؤشر موازي:

الاحتجاجات التي اندلعت في سوريا في الشهور الأخيرة تُشكل مقياسًا حيويًا لمدى قبول المجتمع للتغييرات السياسية الراهنة، بما في ذلك الانتخابات البرلمانية. في شمال وشرق سوريا، خرجت تظاهرات عند سد تشرين احتجاجًا على قصف تركي أدى لتعطيل خدمات المياه والكهرباء، ما عطّل حياة آلاف السكان.  وفي السويداء، تجمع دروز يطالبون بـ”تقرير المصير” والحقوق المشروعة، مما يدل على تصعيد المطالب خارج الإطار الانتخابي.  هذه الحركات الشعبية تعبّر بأن المواطنين لم يقبلوا أن تُحلّ قضاياهم الكبرى عبر قانون انتخابي يُدار من المركز. إنها رسالة بأن الانتخابات وحدها لا تكفي، إذا لم تُرفق بسياسات استجابة وأفعال ملموسة في الأمن والخدمة والتنمية. ويتضح ذلك فيما يلي:

(١) الاحتجاج كمصدر ضغط شرعي: عندما تُنظم التظاهرات من مناطق مهمشة تطالب بحقوق التمثيل أو الخدمات، فإنها تشكّل رقابة شعبية لا تستطيع السلطة تجاهلها. الحكومة الانتقالية قد ترى في الاحتجاج ذريعة للقمع، لكن إذا تعاملت معه كمدخل للحوار، يمكن أن تستثمره لتعزيز شرعيتها.

(٢) الرفض الرمزي للفراغ التمثيلي: احتجاجات رفض الانتخابات تُشير إلى أن شعبًا لا يُمَثل لن يقبل بأن تكون الانتخابات وسيلة لشرعنة الإقصاء. الاحتجاج هناك هو رفض أن يُكتب شعبٌ بأكمله خارج الطاولة السياسية.

(٣) مخاطر التسييس الأمني: السلطة الانتقالية قد تستخدم التظاهرات كذريعة لبسط القمع الأمني، بحجة الاستقرار. لكن هذا النمط يعيد إنتاج العنف السياسي ويُجهض أي أثر إيجابي للانتخابات من البداية.

(٤) الاحتجاج كمدخل للنداءات الدستورية: المطالب الاحتجاجية غالبًا ترتبط بالمطالبة بالدستور، الحقوق، التمثيل الفعلي، وهي مطالب تتجاوز مجرد تغيير البرلمان. فإذا تم توظيف هذه المطالب داخل البرلمان الجديد، قد تنفع في تحويله إلى أداة إصلاح، لا مجرد جسم شكلي.

(٥) توازن الرهانات بين التمثيل الانتخابي والمقاومة المدنية: في بعض المناطق، قد يفضل بعض السكان أن تتجاوز الانتخابات إلى المقاومة المدنية أو الحركات الشعبية المباشرة إذا لم يشعروا أن التمثيل البرلماني يحقق شيء. هذا يضع السلطة أمام معادلة: إما سلسلة خطوات تكاملية مع المجتمع أو مواجهة تدهور في الثقة.

وقد وُصفت الطعون بأنها مؤشر صحي على شفافية العملية. من جانبها، رفضت قسد ومجلسها العسكري قبول النتائج في المناطق التي لم تُجرَ فيها الانتخابات أو التي شابتها شبهة إقصاء، وطلبت إشراكًا لاحقًا في البرلمانات المحلية والمقاعد الفارغة. كذلك أصدر عدد من المرشحين المعارضين بيانات احتجاج على توزيع المقاعد، مطالبين بإعادة فرز أو فتح مراكز إضافية.

كما برز موضوع التمثيل النسوي كقضية مثيرة للجدل رغم وجود نساء على القوائم، فقد رأى البعض أن النسب التي نُفذت لا تعبر عن طموحات المرأة السورية، وأن هناك قوائم لم تعطي نساء ترتيبًا مؤثّرًا في المقاعد. بعض الأصوات النسائية طالبت بأن تُراعى الكوتا أو الضمانات القانونية لضمان تمثيل حقيقي للنساء، وليس صورة رمزية فقط.

إمكانات التشريع والتحول المؤسساتي:

عقب انتخاب البرلمان، تكشف أن الانتخابات لم تكن مجرد اختبار شكلي، بل معركة على الهوية والشرعية، وأن التمثيل الحقيقي لا يُكتسب بمجرد الجلوس في مقعد، بل بالمشاركة والتنافس العادل والضمانات القانونية التي تحول الصوت النسائي والمكوَّن المهمش إلى قوة فاعلة داخل البرلمان.

ومن جهة توزيع السلطات، سيكون التحدي في تعامل البرلمان مع المطالب اللامركزية. المناطق التي طالبت بحقوق واسعة مثل إدارة محلية أقوى، صلاحيات أمنية محلية، توزيع الموارد ستراقب ما إذا سيُترجَم القانون إلى فعل. حيث أن غياب هذه الترجمات سيؤدي إلى تجدد رفض التمثيل والمؤسسات المركزية.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول أنه يقع على عاتق المكونات التي شعرت بالإقصاء — الكرد، العرب في المناطق المتأثرة، الطوائف، النساء — مهمة صعبة لكنها ممكنة، تشمل تحويل ما كان ممكنًا أن يكون مُجرّد تمرين شكلي إلى مسار تغيير حقيقي. ولاسيما بتشكيل كتلة برلمانية أو تحالف معين داخل البرلمان يُمثّل هذه المكونات، بحيث تكون له قوة تفاوضية موحدة تستطيع طرح قوانين التوزيع العادل، الحكم المحلي، وضمانات التمثيل داخل اللجان التنظيمية

وختامًا، يمكن فإن قدرة البرلمان على البقاء مستقلًا من الضغوط التنفيذية أو الأمنية ستكون معيارًا حاسمًا. إذا استطاع النواب أن يُمارسوا الرقابة الحقيقية، أن يُناقشوا الحزم القانونية بحرية، وأن يكونوا منصة لتداول الآراء، فهذا سيمثل نقلة سياسية مهمة. لكن إذا انحصر دورهم في تمرير التشريعات التي تُهيّئ السلطة المؤقتة فقط، فسنرى أن الانتخابات قد تحولت إلى دمغة شرعية فقط لا أكثر. فبدلًا من أن تغلق الانتخابات فصل الأزمة السياسية، فتحت فصولًا جديدة في معركة الشرعية والتمثيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى