مقالات

حين تتحول الكلمة إلى سلاح: تحيّز اللغة الإعلامية وخطر خطاب الكراهية في المشهد العربي

بقلم: أ.د. سوزان القليني . أستاذ الإعلام وعميد كلية الأداب الأسبق

تملك اللغة الإعلامية قدرة لا تضاهيها أي أداة أخرى في صياغة الوعي الجمعي وتشكيل الانطباعات وبناء الصور الذهنية للأفراد والدول والمجتمعات. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتوصيل أو الإخبار، بل هي أداة سلطة وتأثير؛ قادرة على بناء الأمم أو تمزيقها، وعلى إحياء قيم التسامح أو إشعال الفتن. وإذا كانت الكلمة في الأصل وسيلة للحوار والفهم المتبادل، فإنها في لحظة الانحراف عن الحياد تتحول إلى سلاح لغوي يزرع الانقسام ويؤجّج الكراهية.

إن أخطر ما في اللغة الإعلامية هو أنها تبدو موضوعية وهي في حقيقتها منحازة. قد يختبئ التحيز خلف مفردة صغيرة أو عنوان فرعي، أو حتى في ترتيب الخبر وصياغة الجملة. فالصحفي أو المذيع حين يختار لفظة “عدوان” بدلاً من “عملية”، أو “ضحية” بدلاً من “قتيل”، لا يصف الحدث فحسب، بل يحمّله موقفًا ضمنيًا. وهذا ما يجعل اللغة الإعلامية أحيانًا أخطر من الرصاص، لأنها تُقنع ولا تُكره، وتؤثر دون أن تُجبر.

اللغة الإعلامية بين الحياد والانحياز

في عالم مثالي، يُفترض أن تكون اللغة الإعلامية محايدة، تصف الواقع كما هو دون تلوين أو انتقاء. لكن الواقع الإعلامي العربي، مثل غيره في العالم، يشهد تحولات معقدة جعلت الحياد قيمة نادرة وسط تنافس سياسي واقتصادي محموم، وتعدد في المنصات والمصادر، وسباق محموم نحو “السبق” و”الترند”.

ولأن الإعلام هو مرآة المجتمع، فإنه يعكس أحيانًا تحيزاته الاجتماعية والسياسية والطائفية. فحين تكون هناك توترات بين دولتين، يتحول الإعلام في كل منهما إلى جبهة دفاع وهجوم، تُصاغ الأخبار بعبارات تحمل شحنة عدائية مقصودة، ويُعاد توصيف “الآخر” بلغة تُضعف إنسانيته وتؤطره كخصم أو تهديد.

وفي الأزمات الكبرى – مثل النزاعات الإقليمية أو الحروب الأهلية – يصبح الإعلام في بعض الأحيان طرفًا فاعلًا في الصراع لا ناقلًا له، إذ تتبدّل الألفاظ إلى ذخيرة، ويُستبدل التحليل بالتحريض، والحقيقة بالاصطفاف.

حين تُسيّس اللغة وتُختزل الحقيقة

تحيّز اللغة الإعلامية ليس ظاهرة عفوية، بل نتاج منظومة مصالح سياسية واقتصادية وثقافية تتقاطع في غرف الأخبار. فالكلمة تُختار بعناية لتخدم أهدافًا محددة: الحفاظ على صورة الدولة، أو مهاجمة خصم، أو تبرير سياسة. وهكذا تتحول بعض الوسائل الإعلامية إلى أدوات لإنتاج “حقيقة بديلة” تتناسب مع توجه الممول أو المالك.

والمتأمل في الخطاب الإعلامي العربي المعاصر يلحظ تعدد أنماط هذا التحيز:

تحيز سياسي: يظهر في المفردات التي تصف المواقف الوطنية أو الإقليمية، حيث تتحول “الاحتجاجات” إلى “أعمال شغب”، أو “المطالبات بالحقوق” إلى “تحركات مشبوهة”.

تحيز طائفي أو ديني: حين تُستحضر المقولات الدينية في غير سياقها لتبرير مواقف سياسية أو نزع الشرعية عن الآخر.

تحيز اقتصادي: حين تُستخدم اللغة لتلميع شركات أو مؤسسات كبرى على حساب المواطن البسيط، أو لتبرير ارتفاع الأسعار بعبارات “اقتصادية” منمقة.

تحيز جندري: حيث تُقدَّم المرأة بصور نمطية تحصرها في أدوار عاطفية أو ثانوية، وتُهمَّش مشاركتها في مواقع القيادة، رغم التقدم الكبير في تمكينها.

وتبدو خطورة هذا التحيز في أنه لا يُدرك بسهولة؛ فالمتلقي يظن أنه يتلقى معلومة موضوعية بينما تُزرع في وعيه توجهات فكرية خفية تُعيد تشكيل نظرته للعالم دون وعي منه.

الإعلام الرقمي وخوارزميات الكراهية

لم يعد التحيز الإعلامي اليوم حكرًا على الصحف والقنوات التقليدية؛ بل أصبح أكثر خطورة في فضاء الإعلام الرقمي، حيث تتحكم الخوارزميات في ترتيب الأخبار وانتشارها.

فهذه الخوارزميات لا تفكر ولا تحكم أخلاقيًا، بل تبرمج على تحقيق أكبر تفاعل ممكن، وغالبًا ما يكون الجدل والغضب والكراهية هما الأكثر جذبًا للمشاهدات والتعليقات. وهكذا يتحول الفضاء الرقمي إلى بيئة خصبة لتغذية خطاب الكراهية

تُظهر دراسات حديثة أن أكثر من 60% من المحتوى المتداول على منصات التواصل في فترات الأزمات يحمل قدرًا من التحريض أو الاستقطاب، سواء عبر اللغة المباشرة أو عبر الصور والمقاطع الموجَّهة.

وهنا تصبح الخطر الحقيقي ليس فقط في المتحدث، بل في نظام النشر ذاته الذي يضاعف انتشار المحتوى المثير على حساب المحتوى المتزن، مما يهدد وحدة المجتمعات وتماسكها الثقافي.

أمثلة من المشهد العربي

يتجلى هذا الانحياز اللغوي في العديد من الأحداث التي شهدها العالم العربي خلال العقدين الأخيرين.

ففي تغطية بعض النزاعات السياسية أو العسكرية، استخدمت وسائل الإعلام العربية تسميات متباينة لنفس الحدث تبعًا لموقعها الجغرافي أو توجهها السياسي.

فما يُوصف في وسيلة بأنه “عملية تحرير” يُوصَف في أخرى بأنه “عدوان”، وما يُسمّى في قناة “شهداء” يُسمّى في أخرى “قتلى”.

هذا التلاعب بالمصطلحات لا يغيّر فقط في اللغة، بل يغيّر في الموقف والضمير الجمعي، ويخلق سرديات متضاربة تشقّ الوعي العربي.

حتى في التغطيات الاجتماعية والثقافية، تتسلل لغة التمييز عبر توصيفات تبدو بريئة، مثل “المرأة القوية التي تنافس الرجال”، وكأنّ القوة معيار ذكوري، أو “الشباب الثائرون”، وكأنّ المطالبة بالإصلاح فعل فوضوي.

وهكذا تتكرر أنماط لغوية ترسخ الصور النمطية وتُعيق التغيير الاجتماعي.

تحيّز اللغة وأثره على الرأي العام

تُظهر التجارب أن الإعلام لا يكتفي بعكس الواقع، بل يصنعه، واللغة هي أداته الأولى في هذا الصنع.
فعندما تتكرر كلمة “تهديد” أو “عدو” في نشرات الأخبار، فإنها تخلق إحساسًا بالخطر حتى في غيابه.
وعندما تُستخدم مفردات مثل “التطبيع”، “الشرعية”، “الإرهاب”، “التحرر”، دون تحديد واضح، تتحول اللغة إلى ساحة صراع رمزي تتقاتل فيها المعاني كما تتقاتل الجيوش على الأرض.

تُعيد اللغة الإعلامية تشكيل الواقع في ذهن الجمهور عبر آليات التأطير والانتقاء حيث تُبرز بعض الجوانب وتُخفي أخرى.
فعندما تُسلّط التغطية الضوء على أحداث عنف دون ذكر أسبابها، أو تركز على مشهد دموع وتغفل خلفيته الإنسانية، فإنها تصنع رواية ناقصة تُعيد إنتاج الأحكام المسبقة.

ويبلغ التحيز اللغوي ذروته حين يتعلق الأمر بالأقليات العرقية أو الدينية أو الثقافية داخل المجتمعات العربية.
فغالبًا ما تُقدَّم الأقليات في الخطاب الإعلامي بصياغات تُظهرها كـ”إشكالية” أو “ملف حساس”، لا كجزء أصيل من نسيج الوطن.
وتتكرر في بعض التغطيات كلمات مثل “جماعة”، “طائفة”، أو “أقلية” وكأنها توصيفات للعزلة أو الانفصال، لا للتنوع والاختلاف.
ويُستخدم أحيانًا أسلوب لغوي يُلمّح إلى “الاستثناء” أو “الغرابة” عند الحديث عن هذه الفئات، مما يرسّخ في وعي الجمهور فكرة أن الاختلاف خطر يجب الحذر منه.

إن أخطر ما في هذا النوع من التحيز أن الإعلام يخلق الآخر المختلف لغويًا قبل أن يخلقه سياسيًا أو اجتماعيًا.
فاللغة التي تصف جماعة بأنها “منغلقة”، أو منطقة بأنها “ملتهبة”، أو سكانها بأنهم “غرباء”، لا تنقل فقط معلومة، بل تُعيد ترسيم حدود الانتماء الوطني في وعي الناس.
وتتحول المفردات إلى أدوات فرز اجتماعي ناعم، تزرع الفواصل بين أبناء الوطن الواحد تحت ستار “التحليل” أو “الوصف المهني”.

وفي المقابل، يمكن للغة الإعلامية العادلة أن تكون وسيلة لدمج هذه الفئات وتأكيد مساهمتها في الحضارة الإنسانية.
حين يختار الإعلامي أن يقول “المواطنون من أصول مختلفة” بدلاً من “الأقليات”، أو “التنوع الثقافي في مصر” بدلاً من “الفئات الهامشية”، فهو لا يغيّر الكلمات فقط، بل يغيّر زاوية النظر إلى الآخر.
وهنا تتحول الكلمة من أداة تقسيم إلى جسر تواصل، ومن وسيلة هيمنة إلى لغة تعايش وسلام.

لقد علّمتنا تجارب التاريخ أن الحروب لا تبدأ بالرصاص، بل بالكلمات، وأن أول ما يُستهدف في أي صراع هو اللغة التي تصف الآخر وتُشرعن التعامل معه.
لذلك فإن مسؤولية الإعلام العربي اليوم لا تقتصر على نقل الأحداث، بل تمتد إلى إعادة بناء الوعي الجمعي بلغة عادلة تُعيد الاعتبار للإنسان أيًّا كان لونه أو دينه أو أصله.
فاللغة المنصفة لا تُقلل من الانتماءات، بل تحتضنها جميعًا داخل هوية إنسانية واحدة،
هي هوية المواطنة والكرامة، التي لا تميز بين الأغلبية والأقلية، بل تضع الجميع تحت مظلة العدالة والاحترام.

مسؤولية الإعلامي والمواطن

أمام هذا الواقع الملتبس، تزداد مسؤولية الإعلامي في أن يراجع لغته ويعي أثر كلماته.

فالصحفي الحقيقي لا يملك ترف الحياد الزائف ولا رفاهية الاصطفاف الأعمى، بل يملك أخلاقيات المهنة

 التي تُلزمه بأن يزن الكلمة قبل نشرها،

وأن يفرّق بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، بين النقد البنّاء والتحريض، بين التحليل والمبالغة.

وفي المقابل، يتحمل المواطن أيضًا مسؤوليته في التلقي النقدي للمحتوى الإعلامي.

فالمتلقي الواعي لا يكتفي بقراءة الخبر، بل يسأل عن مصدره وسياقه، ويتفحّص لغته ودلالاته.

وحين يرتقي وعي الجمهور إلى هذا المستوى من النقد والتحليل، يصبح من الصعب على أي وسيلة إعلامية أن تمارس التضليل أو تزرع الكراهية.

نحو لغة إعلامية مسؤولة

إن بناء لغة إعلامية جديدة لا يعني تجريد الإعلام من مواقفه أو من قضاياه الوطنية،

بل يعني أن تُمارَس هذه المواقف بمسؤولية ووعي،و أن تكون اللغة جسرًا للحوار لا جدارًا للفُرقة

وأن تُستبدل مفردات الاتهام بمفردات التفسير، ومفردات الإقصاء بمفردات الفهم المشترك

على المؤسسات الإعلامية العربية أن تُعيد النظر في سياسات التحرير والتدريب،

وأن تدمج مفاهيم العدالة الجندرية، والتنوّع الثقافي، وأخلاقيات الاتصال في كل مراحل الإنتاج الإعلامي.

كما ينبغي دعم مبادرات رصد الخطاب الإعلامي (Media Monitoring)

التي تكشف مؤشرات التحيز وخطاب الكراهية وتقدّم تقارير شفافة ترفع الوعي المهني والمجتمعي

.

وأخيراالكلمة بين البناء والهدم

إن اللغة الإعلامية ليست مجرد بناء نحوي أو بلاغي؛ إنها بنية قيمية وأخلاقية تحدد مصير الأمم.

فالكلمة الواعية تبني، والكلمة المتحيزة تهدم..

وعندما تُستَخدم اللغة لتقسيم البشر بدل جمعهم، ولتغذية الأحقاد بدل التفاهم، فإنها تتحول من رسالة إلى رصاصة.

 وفي مجتمعنا العربي نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعلام عربي رشيد يتبنى لغة مسؤولة تُعلي من شأن الحقيقة والإنسان معًا.

لغة ترى في الاختلاف ثراءً لا تهديدًا، وفي الحوار طريقًا لا معركة.

فالإعلام الذي يختار العدل في كلماته، يختار مستقبل وطنه.

والكلمة التي تُقال بضمير حيّ، هي وحدها القادرة على أن تُطفئ نيران الكراهية وتُضيء دروب الوعي والسلام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى