البعد القانوني وأهميته في حياة الشعوب والخصوصيات الثقافية والتعددية

تحليل: د.رائد المصري/ أستاذ محاضر في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
توطئة
يرتبط الإستخدام التقليدي للتعددية بكافة تلاوينها وأشكالها، بالتركيز على الإختلاف والتنوع، والحقيقة هي بالأساس مفهوم يعزِّز من المساواة والوحدة أكثر، رغم الإختلاف والتنوع، حيث تُشير التعددية إلى إمكانية التلاحم والتكاتف والعيش المشترك، كنموذج سياسي/قانوني يحكمه النجاح بالضرورة، بالرغم من كلِّ ما يدفع لما هو عكس ذلك تماماً، سواء كان بحكم الواقع والطبيعة البشرية والإختلافات الظاهرة، وإن كان بعضها حقيقي والآخر مَبني على أفكار نمطية مُهيمِنة.
والإختلاف أو التنوُّع،هي خاصية فكرية سياسية وقانونية أيضاً،لا تهدف لتعزيز الإختلاف والخلاف، وإنما تهدف نحو تحقيق الوحدة والإتفاق بالرغم من الإختلاف والخلاف، فهي نهج يقوم على إيجاد وسائل وسُبل للعيش المشترك، وإستخدام آليات لإتخاذ القرار تكون قابلة للتطبيق، أو للتوصل الى حلول وسطية، أو لحلول مرضية بين مختلفين، يعترفون بكونهم كذلك، ولا يعتبرون ذلك نقطة ضَعف، بل نقطة إنطلاق لتحقيق المصلحة المشتركة وتجنُّب الضرر المحتمل للطرفين، بالرغم من إختلاف الإهتمامات والأولويات، بل والغايات في أغلب الأحيان.
على أن تركيز السلطات بشكل مُحكم في البلدان العربية في يد مؤسسة أو شخص، هو الأساس والحديث الذي يجرُّنا عن توزيع الإختصاصات، أو الفصل بين السلطات وأجهزة الدولة هو الإستثناء، بل ويقدم من ضمن سرديات مفخخة، على أنه يعكس أجندات أجنبية خارجية، هدفها إضعاف القيادة والدولة الوطنية أو السلطة الحاكمة، ويأتي العمل السياسي في هذه الدول، ضمن نمط واحد، أي نظام الحزب الواحد، أما تعدُّد الآراء وطرق التعبير عنها وتنظميها، من خلال الأحزاب فهو الإستثناء، ويقدم على أنه تهديد للأمن القومي والإستقرار السياسي والسِّلم المجتمعي.
فالحالة الطاغية والمهيمنة، هي المركز والوطني والقومي والقطري، وليس الهامش والجزئي والمحلي، والطريقة المهيمنة لتنظيم الدول، تقوم على التوحيد وليس الوحدة، والأسلوب المهيمن لممارسة السلطة يقوم على الإدارة وليس على الحكم، والنهج المُهيمن للتعبير عن الرأي، يقوم على الإقصاء وليس على عملية الإحتواء، وربما في إستطاعتنا من خلال هذه الدراسة، الكشف وإدراج السياقات القانونية لحماية الأقليات والتعدديات، والخصوصيات الذاتية للشعوب أينما تواجدت، سواء عبر المنظمات الدولية والأمم المتحدة، أو عبر القوانين الداخلية للدول المنضوية ضمن الإتفاقات الدولية، التي تشرِّع حماية الشعوب من التعسُّف والإذلال، وقضم حقوقها التاريخية، كشعوب أصيلة متأصلة في أرضها وجغرافيتها، التي عاشت فيها لآلاف السنين .
التعددية من وُجهة نظر قانونية ودستورية
هناك واقع مأزوم، يرفض النظام القانوني والسياسي والمجتمعي الإعتراف به والتعامل معه، وأمامه ينبغي تحديد ملامح هذا التنوع الموجود في المجتمع بشكل عام، كما لا يجب أن ينتج عنه إقصاء أو تخوين، لمَن يتبنَّى مثل هذا النهج، بل هذا التفكير في التنوُّع والإختلاف الموجودين في الحقيقة، والمُنكَر في المخيال السياسي والقانوني والإجتماعي أصبح الآن، وأكثر من أي وقت مضى، حاجة ملحَّة، للإنطلاق المتوازن نحو مستقبل أفضل للجميع، يقوم على إحترام الآخر من جهة، والتعاون والتكاتف معه لتحقيق مستقبل أفضل وآمن للجميع، وتكون نقطة الإنطلاق لما سبق هو التعدُّدية .
بعض الأنظمة السياسية الشمولية والتسلُّطية، لديها مشكلة قبول الآخر، وهي واحدة من أخطر المشكلات، فالمجتمعات التعدُّدية في مكوِّناتها الداخلية، التي تتشكَّل من الأديان والمذاهب والأعراق، والقوميات واللُّغات، وهي ما يُطلق عليها المجتمعات الإنقسامية، خاصة في عديد من دول جنوب العالم، والمنطقة العربية بشكل خاص، تسيطر فيها أنماط من الصراعات والمنافسات الظاهرة والمكبوتة، بين غالب لبعض هذه المكونات على المصالح والمكانة، والحضور داخل تركيبة الهياكل المجتمعية، والأهم الصراع على الفُرص، والتمثيل السياسي داخل السلطة والنظام السياسي، والطبقة السياسية الحاكمة، حيث أنماط الصراعات المعلَنة والمُضمَرة والمقموعة والمكبوتة، تؤدى إلى إعاقة عمليات بناء مشتركات جامعة، التي تتشكَّل من قيم ثقافية ورمزية وقومية، تعلو فوق الخصوصيات الثقافية والتعددية دون نفيها، أو إقصائها من المؤسسات السياسية، أو حرمانها من الحكم المحلِّي واللامركزية في بعض أنماطها وأشكالها، وتساهم هذه الصراعات المركَّبة، في إضعاف عمليات بناء الإندماج القومي والتكامل الداخلي، على نحو يؤثِّر على تشكيل الثقافة الجامعة، للتعدديات الثقافية للمكونات الأساسية للدولة والمجتمع.
وتزداد مشكلة قبول الآخر المختلف وتتفاقم أكثر، في ظلِّ المجتمعات التى تسودها ديانة ومذهب للأغلبية السكانية، إزاء المذاهب الأخرى داخل الدين الواحد، والأديان الأخرى، أو أصل عرقي أو قومي أو لغوي واحد جامع لها ولهويتها، حيث أن الصراعات الكابتة والمُعلنة والمضمرة، التى تنشب بين هذه المكونات المتعددة المصادر والتشكُّلات التاريخية، والجماعات المناطقية، لا سيما المهمَّشة منها، واللُّغوية والعرقية، تبدو من خلال السَّعْي للحصول على فرصِها في التمثيل السياسي، والتعبير عن ثقافاتها وهوياتها، أمام سياسة فرض الطبقات السياسية الحاكمة لإيديولوجياتها، زمن صعود الإيديولوجيات ما بعد المرحلة الكولونيالية،على كافة المكونات المجتمعية، لصالح إيديولوجيا النظام، وإنتماء طبقته الحاكمة وأصولها الدينية والعرقية والقبلية، وإقصاء مكونات أخرى على نحو ما ظهر في إفريقيا ما بعد الإستقلال، والعالم العربي وقضية الكُرد خير دليل،على سبيل المثال.
وهنا يظهر أحد أبرز مشكلات ثقافة قبول الآخر المختلف على نحو فردي أو جماعي، متمثلاً في صراع الهويات بين هذه المكونات، لصالح هوية الدولة والنظام، التي تفرضها الطبقة السياسية الحاكمة، كهويات لدولها ومجتمعاتها، وفق إستراتيجيات قائمة على الخلط والصهر بعنف أجهزة الدولة المختلفة، لكل مكوناتها وهوياتها المتعددة، حيث أن فرض الهويات الدولتية قسراً وبالقوة، على هويات متعددة في ذات المجتمع، هو تعبير وفرض إلزمي لرؤية الطبقة السياسية الحاكمة للهوية المختارة، ومصادرها ومكوناتها الرمزية المختلفة وتاريخها، وبناء سرديات رسمية حولها، وهي حالة كانت ولا تزال، تتم من خلال مؤسسات الدولة وطبقتها السياسية الحاكمة، بإستخدام القوة الرمزية والتعليمية، والإعلامية والأيديولوجية.
ولا شك، إن هذا التحيُّز الإيديولوجي والهُوياتي، من جانب الطبقة السياسية الحاكمة، قد أدى عبر التراكمات التاريخية إلى إنزياح وقمع للهُويات الأخرى، وللمكونات المجتمعية الأخرى في تشكيل تركيبة المجتمع والدولة، من ثم، وأدى ولا يزال كذلك إلى ولادة صراعات هوياتية، وإلى إستبعاد الحق في الإختلاف، وأيضاً لعدم القبول بالآخر المختلف، أيا كان هذا الإختلاف، سواء جماعي أو فردي في الثقافة السياسية، أو في الثقافة الشعبية، بغضِّ النظر عن الوثائق الدستورية والنصوص الخاصة بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، والشعارات السياسية والسرديات التي ينطق بها الخطاب السياسي السلطوي المُسيطر.
هنا لا بدَّ من الإشارة الى أن الثقافة الحديثة في الدول المتقدمة، ذات التطور السياسي والعلمي والتِّقني، إستطاعت إيجاد بعض من الحلول والسياسات والآليات لهذه المشكلة، من خلال دساتيرها وأنظمتها القانونية والسياسية والتعليمية، وسياساتها الثقافية، مع بدء تصاعد أجيال حركة ونظام حقوق الإنسان، من هنا تأتي أهمية درس وتحليل ثقافة القبول للآخر المختلف، وأعاقة طريقها في العالم العربي، وكيفية التعامل السياسي والثقافي معها، من خلال حزمة من السياسات التى تساهم في إقرارها وترسيخها، شعبياً وسياسياً ودولتياً وتعليمياً ودينياً.
رفض ثقافة القبول بالآخر المختلف، كحالة توسَّعت ظاهرتها من جديد، وهي ظاهرة برزت في بعض البلدان الأوروبية، نتيجة حركة الهجرة التصاعدية، من مجتمعات الجنوب إلى أوروبا، ثم إلى أمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا، وتمدَّد الموقف المعادي للأجانب، بسبب تمدُّد اليمين المتطرف في هذه البلدان، وإنتهاج سياسة التمييز ضدَّ الأجنبي، والربط بين بعض الأزمات الإقتصادية والإجتماعية، وبين وجود الأجنبي المختلف، أيا تكن ثقافته وديانته وعرقه ولونه، في الحياة الأوروبية والغربية، وذلك بسبب أزمات سياسة الإندماج الداخلي في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وأيضا التنافسية المُفرطة في الولايات المتحدة، وبقايا العنصرية، خاصة في ظلِّ حكم الجمهوريين.
فلا زالت بعض الظواهر الجديدة والقديمة، والإنتقالية، تشكِّل عائقاً كبيراً للقبول بالآخر المختلف، تتمثل في تمدُّد النزعة القومية، والشعبوية السياسية والثقافية، على نحو ما برزت مع اليمين المحافظ في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والولايات المتحدة، ولا شك أن بعض الشعبوية، والنزعات القومية وبقاياها، هي ردات فعل على أزمات كونية كبرى وعالمية، وإنعكاساتها على دولة الرفاهية في أوروبا، وتراجع بعض من مزاياها وكفاءة أجهزتها الصحية، وأيضاً على البطالة والتضخم، وعلى تحديد سنِّ التقاعد، ومحاولة رفعه، كل ذلك قد أثَّر على بعض المواقف الشعبية من الآخر المختلف، من أديان ومذاهب وأعراق وثقافات مهاجرة، وأدَّت إلى إعادة إحياء صُوَر نمطية قديمة، إنعكست سلباً على ثقافة القبول بالآخر داخل هذه المجتمعات.(1)
الخصوصية والتعددية والهوية الثقافية والتنوع
تشكَّلت المجاميع البشرية بأجناسها المختلفة، وبمشارب متعددة، وتفرَّعت أنسابهم وأصولهم، نتج عنها أمم كثيرة، ولا يزالون مُختلفين، يجمع بينهم عامل مُشترك كاللغة أو الدينٍ أو الإثنية أو غير ذلك، وقد عمل هذا الإلتفاف على توفير الأمان والمَنَعة، فضلاً عما يُنتِجه وجود القواسم المُشتركة بين أفراد الجماعة، من تقارب في العادات والأعراف، بما يسهِّل معه التعامل بين أعضاء الجماعة، وتتقلَّص به دائرة الصراع داخلها.
أي جماعة من البشر حتى من قبل قيام الدولة بمفهومها الحديث، لا بدَّ أن تكتسب نسيج ثقافي يربط بين أفراد مجتمعها، وليس ضرورياً أن يتلازم هذا الرابط الثقافي بالتطور والتعقيد، بل بالبساطة والغريزية، فالمجتمعات البدوية أو الريفية مثلاً، ترتبط برباط ثقافي ما، صحيح أنه لا يتسم بالحداثة والمدنية التي يتسم بها الإرتباط الثقافي داخل المُدن، إلاَّ أن له إحترامه عند أبناء القبيلة أو القرية.
إن ظهور الدول بمفهومها الحداثي العصري، لم يغيِّر في الأمر كثيراً، فكل دولة عند تكوينها، لا بدَّ أن جماعة ما شَكَّلَت نواتها الأولى، وغالباً ما يكون الإطار الثقافي لهذه الجماعة، يشكل البدايات لنشأة هذه الدولة، فمثلاً إحتفظت كثير من بلدان الخليج العربي، بالكثير من مظاهر القَبَلية القديمة، وتلازمت تعايشاً مع عاداتها حتى وقت قريب جداً. فهل تحظى الروابط الثقافية داخل المُجتمعات البشرية بحماية دستورية خاصة؟ وهل يُفترض أن يحمي دستور الدولة الخصوصية الثقافية لشعبها؟ وإذا كان ذلك، هل تتمدَّد هذه الحماية الدستورية للمُكونات البشرية داخل الدولة؟ وهل للمجتمعات الفرعية، كالأقليات العرقية أو الإثنية أو الدينية، الحق في حماية خصوصيتها الثقافية، بشكل مستقل عن الحماية الدستورية للخصوصية الثقافية للشعب عامة؟
هنا لا بدَّ أولاً من فهم وتوضيح مفهوم الخصوصية الثقافية، وإرتباطه بمفاهيم التعددية الثقافية والهوية الثقافية والتنوع الثقافي، حيث يجب أن نفهم أولاً، معنى إصطلاح الخصوصية الثقافية، وقبل الوقوف على معنى هذا التركيب الإصطلاحي، ينبغي أولاً التعرف على الدلالة في شقَّيه، الثقافة والخصوصية.
معنى الثقافة في اللُّغة العربية، مصطلح نابع من الذات الإنسانية، فالكلمة تعني تنقية الفطرة البشرية وتشذيبها وتقويم إعوجاجها، ثم دفعها لتكوين المعاني الجوانبية الكامنة فيها، وإطلاق طاقاتها لتنشئ المعارف التي يحتاجها الإنسان، وهذا يفتح الباب أمام العقل البشري لكل المعارف والعلوم النافعة، ويركِّز على ما يحتاج الإنسان إليه، طبقاً لظروف بيئته ومجتمعه، وليس على مُطلق أنواع المعارف والعلوم، وهذا يربط مفهوم الثقافة بالنمط المجتمعي الذي يعيش الإنسان في ظلِّه. (2).
كما عرَّف البعض الأخر، الثقافة على أنها مجموع العقائد والقيم والقواعد والسلوكيات، التي يقبلها ويمْتثل لها أفراد المجتمع، ذلك أن الثقافة هي قوة وسلطة مُوجِهَة لسلوك المجتمع، تحدِّد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم وعن العالم من حولهم، وتحدِّد لهم ما يحبون ويكرهون، ويرغبون به أو يلفظونه، كنوع الطعام والمأكل، ونوع الملابس، والطريقة التي يتكلَّمون بها، والألعاب الرياضية التي يمارسونها، والأبطال التاريخيين الذين خلَّدوا في ضمائرهم، والرموز التي يتَّخذونها للإفصاح عن ما في أنفسهم وغير ذلك، ويتبيَّن هنا، أن الثقافة ذات نمو تراكمي على المدى الطويل، فهي ليست علوماً أو معارف جاهزة، يمكن للمجتمع أن يحصل عليها ويستوعبها ويعايشها في زمن قصير، وإنما تتراكم عبر مراحل طويلة من الزمن، وهي تنتقل عبر التنشئة الإجتماعية من جيل إلى جيل، فثقافة المجتمع تنتقل إلى الأفراد الجدد عبر التنشئة الإجتماعية، بإكتساب الذوق العام للمجتمع، وللثقافة خاصية محددة، في أنها ذات طبيعة إجتماعية، أي أنها ليست صفة خاصة للفرد وإنما للجماعة، حيث يشترك فيها الفرد مع بقية أفراد مجتمعه، وتمثِّل الرابطة التي تربط جميع أفراده،
ولهذا فإن الثقافة تميِّز شعب ما، في نمط حياته عن أنماط الشعوب الأخرى، من دون أن تعزِله، أو أن تأخذه بالضرورة إلى حالة خصام مع الثقافات الأخرى، وقد يوجد في كل ثقافة من يدعو إلى العزلة والإنقطاع عن الأخرين، أو أسوأ من ذلك، إلى التعالي وتفخيم الذات وإحتقار الأخرين، وقد يصل هذا إلى مرحلة العداء للأخرين، وتشكيل خطر على وجودهم، ولذلك كان لا بدَّ من الحوار، حتى تخفّ حدَّة هذا العداء، ويجعل أصحاب الثقافات يتعايشون ويفهم كل منهم الأخر.
أما الخصوصية، فهي مصطلح يعني التمايز عن الأخر، بحوامل وملامح ذاتية تختلف عنه، وعلى المستوى القِيمي، فإنه يعني الوعْي بالذات وحقيقتها الوجودية، وإدراك تميُّزها وحدودها الزمانية والمكانية، ورسالتها الأخلاقية، وما يرتبط بها من دلالات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، وبذلك تكون الخصوصية مزيجاً من موقف وجداني وعقلاني في نفس الوقت، ومن هنا، يمكننا تعريف الخصوصية الثقافية،على أنها مجموعة من القواسم المُشتركة، من القيم بين أفراد أي جماعة، أو البصمة الخاصة بأفراد هذه الجماعة، والتي تميِّزهم عن غيرهم، وتعكس هويتهم الخاصة، وتُبرِز مظاهر تفردهم وإختلافهم عن غيرهم.
هنا تتجلَّى مظاهر الخصوصية الثقافية، في إرث الجماعة الفنِّي والأدبي، وفي التراث المعماري، وبإظهار تاريخها وماضيها، وتوثيق مراحل تطورها الثقافي، أو في صورة معنوية تتجسد في منظومة القيم داخل الجماعة والنسق الإجتماعي العام، الذي تدور في فلكه حياة هذه الجماعة، ذلك النسق الذي يضع قواعد السلوك، ويُحدِّد أنماط التعامل بين أفرادها، بحيث يُعد القبول به شرطاً أولياً لازماً، للإنتساب لهذه الجماعة وإكتساب عضويتها.
من هنا فإن الحماية الدستورية للجانب المعنوي من الخصوصية الثقافية، لها أهمية لا تقل، بل تزيد عن حماية الجانب المادي لها، فإذا كان بناء الإنسان هو الأساس، فإنَّ الحفاظ على هُوية الجماعة وقِيمها، يعلو في أهميته بالحفاظ على بصمتها المادية، والجماعة ذات الخصوصية الثقافية، قد تنحصر دائرتها في إطار ضيق، على أساس قَبَلي أو عرقي أو إثني أو ديني أو غير ذلك، وقد تتَّسع دائرتها، لتشكِّل عنصر الشعب في الدولة الحديثة، بحيث يمكن القول، بأن الإطار الثقافي الواحد، ينظم الغالبية الساحقة من أفراد هذا الشعب، ساعتها يمكن القول بأن لهذا الشعب خصوصية ثقافية معينة.
مُقابل الخصوصية الثقافية، يوجد ما يُعرف بـ التعدُّدية الثقافية، وبغية إيضاح المصطلح، هناك من يقول، أن فكرة الثقافة ذاتها يصعب الإحاطة بها، ولا نخطئ كثيراً، إذا أكدنا أن هذا يشير إلى كل ما نبدعه ونحتفظ به بإعتبارنا جماعة، أو بإعتبارنا بشراً، هذا التعريف يمتاز بأنه يشمل الثقافة بمعناها الفني، وبالمفهوم الأكثر إتساعاً، وهو المفهوم الأنثروبولوجي، فهي أسلوب للحياة، وبذلك تحفظ الصلة بين الإبداع الفنِّي، وإبداعية الحياة اليومية الجارية، هذا التعريف يأخذ أيضاً في إعتباره تنوُّع الثقافات، فالإبداعية والتنوع يتلازمان، وأخيراً فإن هذا التعريف يطرح المشكلة الحيوية الخاصة، بالفروق الثقافية بين التجديد والمحافظة، وعالمنا بحاجة إلى تنوُّع وجهات النظر الثقافية، التي يُعبَّر عنها بروح من الإنفتاح والفضول، لا بروح الحذر والرفض والإنكار، ففي عالم تتضاعف فيه الصلات الثقافية، يتحتَّم تشجيع الإعتراف بحقوق الأخرين، ومساعدة أولئك الذين قُضمت حقوقهم، مساعدتهم للإحتفاظ بهذه الحقوق ودعم هويتهم، هذا هو تحدِّي التعددية الثقافية.
إذن،هناك علاقة بين الخصوصية الثقافية والتعددية الثقافية، لأنَّهما مفهومان مُتكاملان، وجديران بالحماية الدستورية، فالأول يحفظ لكل جماعة هويتها وذاتيتها المستقلة وأصالتها، والثاني يُتيح إستيعاب ما بين الجماعات المُختلفة، من تنوُّع ثقافي وعَقَدي، وفروقات ذات صلة بالعادات والتقاليد والأعراف. فالعضوية بعنصر الشعب في الدولة العصرية، لم تعُدْ تقتصر على جماعة بعينها، بل تعدَّدت الجماعات داخل الدولة الحديثة، وأضحى نجاح أي دولة، مرتبطاً بقدرة هذه الجماعات على التعايش المُشترك، والإنصهار في بوتقة جَمْعية واحدة، إنصهار بالقدر الذي يستلزمه بقاء الدولة مُوحدة، وليس إنصهاراً بمعنى التماهي الى الدرجة التي تزيل ما بين المجموعات البشرية من إختلاف وتَفَرّد.
كذلك لا بدَّ من توضيح مفهوم الهُوية الثقافية، وعلاقتها بالخصوصية الثقافية، حيث الهوية لا تُعَدُّ أمراً ترفيهياً وحالة عارضة، بل هي مُكون رئيسي من مكونات الشخصية، تعبِّرعن الذات الإنسانية، وبدونها يجهد الإنسان دائماً في البحث عن وجوده لمعرفة حقيقة نفسه، وهنا تبرز التساؤلات المرتبطة بالهوية، من زوايا عديدة، كالجمع بين أكثر من هوية، والتغلُّب على المخاطر التي تواجهها، والبُعد عن العزلة الحضارية والفكرية في المجتمع، مع المُحافظة على الخصوصية والتميُّز الثقافي، وماهية سُبل التحصين لحماية الهوية من الذوبان والتحلُّل، وقد توضَّح أن الهوية الثقافية، هي البُعد النفسي للخصوصية الثقافية، بالنسبة لأعضاء أي جماعة، فهذه الهوية غير منعزلة عن محيطها، وهي ليست إلاَّ شعوراً داخلياً بالخصوصية والتميُّز، ولذلك فإن أي إعتداء على الخصوصية الثقافية لأي جماعة، أو أي محاولة لطَمْس هذه الخصوصية أو إذابتها وصهرها، تتحوَّل في النهاية عدواناً على الهوية المُشتركة لأفراد هذه الجماعة، أي ذاتيتهم وحقّهم الطبيعي، في ألاَّ تُمحى مظاهر التفرد، وأسباب تميُّز الجماعة التي ينتسبون إليها، ومنع هذا العدوان هو جوهر الحماية الدستورية للخصوصية الثقافية.(3)
هنا لا بدَّ من التنبُّه بما يتعلَّق بالحماية الدستورية للخصوصية الثقافية، والبحث عن طبيعة العلاقة، التي تربط بين حماية هذه الخصوصية، وما تفرضه ظاهرة العولمة من مُستجدات وتحدِّيات، وأهمية وضع وتحديد أُطر الرقابة الدستورية، فيما يتعلّق بحماية الخصوصية الثقافية، فالعلاقة بين الحماية الدستورية للخصوصية الثقافية، وظاهرة العولمة، هي علاقة دقيقة، وقد شكَّلت العولمة أحد وسائل الهيمنة على الشعوب ثقافياً، وخطورة ذلك تكبر كلَّما تتوسع فيه دائرة تأثير ظاهرة العولمة، لينحسر قبالتها دور الرقابة الدستورية فيما يتعلق بحماية الخصوصية الثقافية، ولذلك فالاستجابة غير المشروطة لدعاوى العولمة، والتفاعل الإمتثالي مع مُتطلباتها، حمل معه مخاطر عديدة، فهي تستهدف العبث بالبناء الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، أو إعادة تشكيل الوعْي الجَمْعي، وتوجيهه بصرفه عن قيمه العُليا.
بالمقابل، لا بدَّ من ضرورة التفاعل الثقافي مع الغير الآخر والمختلف، فالخصوصيات الثقافية ليست أمراً عارضاً وسطحياً، يمكن أن تتماهى في ثقافة أو حضارة أخرى بسهولة، أو أن تذوب في بوتقة ثقافية أخرى، ومن ثم تضيع ملامحها وتتبدَّد سماتها المميزة، وإذا كان هذا الإنخراط مع الثقافات المُغايرة يستدعي الحذر، فإنه يجب ألاَّ يتفاقم الخوف من ضياع الخصوصيات الثقافية، وبالتالي ضياع الهوية، أمام خصوصيات ثقافية أخرى، وافدة من العالم الأكثر تقدماً وقوة وثراء، خاصة إذا كنا على يقين بأن الخصوصيات الثقافية، هي أعمق من أن تطمسها التعاملات مع الخارج، وأن جذورها عميقة وضاربة في التاريخ، حيث إمكانية ضياع الخصوصيات الثقافية ليس بالأمر السهل.(4)
إن عملية إلإلتزام بالحفاظ على الخصوصية الثقافية داخل أي مجتمع، هو سلاح ذو حدين، إذ قد يكون محصِّناً لمنظومة القيم الاجتماعية العُليا داخل الجماعة، وحامياً لها من التغوُّلات الفكرية الخارجية، في المُقابل، قد يُشكِّل التخندق والإنحباس داخل هذه الخصوصية، عائقاً يحول بين الجماعة وبين التفاعل الإيجابي مع الأخر، والاستفادة منه ونقل المعارف عنه، بما تتضاءل معه في النهاية، إحتماليات إحراز أي تقدم داخل الجماعة، وهنا يبرز دور الرقابة الدستورية، في حماية هذه الخصوصية، بضبطها في إطارٍ مُحكمٍ، لا إفراط ولا تفريط فيه.
الحماية الدستورية للخصوصية الثقافية
حماية الخصوصيات الذاتية والثقافية بشكل عام، هو الذي يحفظ على الجماعة ذاتيتها وتفرُّدها، ويَمنع إعتبار جميع البشر نمطاً واحداً أو نُسخاً مُكرَّرة، وتمثِّل خط الدفاع الأول، ضدَّ الأفكار الهدَّامة الدخيلة على الجماعة، التي تهدف للنيل من إستقرارها الإجتماعي، أو تخريب منظومتها الدينية والأخلاقية، وتدمير ملامح الذوق العام فيها، وضرب سلوكيات المجتمع، وإن دعوات الحفاظ على الخصوصية الثقافية، تتَّسع لتشمل الحفاظ على هذه الخصوصية، سواء بالنسبة للجماعة في صورتها الجزئية البسيطة، كالقبيلة أو القرية، أو مجموعات الأقليات العنصرية أو الدينية، أو في صورتها الكُلية المُعقَّدة، أي بالنسبة لعنصر الشعب في الدولة المدنية الحديثة.
وفي ضوء الفهم لأنساق الحفاظ على الخصوصيات الثقافية، فيمكن أن تتمدَّد الحماية الدستورية لهذه الخصوصية لتشملها على المستوي الكُلي أو الجزئي، فكما يحمي الدستورعنصر الشعب في الدولة، يُفترض أن يحمي كذلك المُكونات البشرية، التي يتألف من جماعتها هذا العنصر، فالإعتقاد السائد أن حماية الخصوصية الثقافية للمجموعات الفرعية، هو الضامن الأكيد لحماية التعددية الثقافية، وإنعكاساً لذلك، فإن المادة (27) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تنص:” بأنه لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يُحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المُجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم”.
وهنا نلمس الإهتمام بحماية الخصوصية الثقافية والتعددية الثقافية، سواء على الصعيد الدولي، أو في المجال الدستوري المُقارن، بالتحديد في السياقات التي تربط بين هذين الإصطلاحين وفكرة التنوُّع، سيَّمَا التنوع الثقافي الذي يحظى بإهتمام واسع، على المستوى الدستوري في الكتابات المُقارنة، فالحماية الدستورية للتنوع الثقافي، تستوعب بالضرورة حماية الخصوصيات الثقافية بالنسبة لعنصر الشعب في الدولة، وإحترام تعددية هذه الخصوصيات الثقافية بالنسبة للمجموعات البشرية المُختلفة والمُتنوعة داخل الدولة الواحدة.(5)
إن أهمية الإعتراف الدستوري والبعد القانوني في حياة الشعوب والثقافات، أوصلت عملية السلام والمجتمع الديمقراطي إلى مرحلة ضرورة البحث عن الحل القانوني، حيث أتيحت الفرصة مؤخراً، للإستماع إلى آراء القائد والمناضل عبدالله أوجالان، ومقترحاته بعد فترة طويلة، وبعد أن كانت زيارة المحامين إلى سجن إمرالي بعد عام 2019 بالغة الأهمية وذات معنى، وقد أعطى هو نفسه معنىً للإجتماع وقيّمه في هذا السياق، وفي تقييماته، ذكر أنَّ إرساء القانون الديمقراطي شرط للدولة المعيارية وأحد الأهداف الرئيسية للعملية، مشيراً إلى أن عملية السلام الحالية والمجتمع الديمقراطي، قد وصلت إلى مرحلة الحل القانوني، وقال إنه خلال عملية المئة عام، ظلَّ الكُرد دائماً خارج نطاق القانون، وحاول أوجالان جاهداً القضاء على معاداة القانون له، وذكر أنه في إطار الأمة الديمقراطية، هناك إصرار على العيش المشترك، ولديه مشروع لجمهورية ديمقراطية، كما أشار إلى أنه في هذا السياق، هناك العديد من الجوانب السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية للقضية الكردية، وفي هذه المرحلة هناك حاجة إلى حلول قانونية، تشمَل أيضاً القوانين المؤقتة، التي يمكن وصفها أيضاً بأنها عملية إنتقالية.
إن المسؤولية الأساسية لكل من يؤمن بعملية السلام والمجتمع الديمقراطي، هي إظهار نهجٍ يتماشى مع دور السيد أوجلان ورسالته، وبهذه المناسبة، فإنَّ “حق الأمل” المُدرج على جدول أعمال لجنة وزراء مجلس أوروبا، هو مسألةٌ هيكليةٌ في القانون التركي، وأن الخطوات الإيجابية التي سيتم إتخاذها في هذا الصدد، ستكون خطوةً ملموسةً نحو إرساء القانون الديمقراطي، وهنا نقل السيد أوجلان تحياته العميقة إلى السجناء السياسيين في السجون، وإلى كل من سأل عنه، وإلى كل من آمن ويؤمن بعملية السلام والمجتمع الديمقراطي، ويبذل الجهود ويعمل على هذه القضية.(6)
ففي العادة، لا تُثير الحماية الدستورية للخصوصيات الثقافية، الكثير من الإشكاليات الدستورية، خاصة بما يتعلق بالنسيج الثقافي لعنصر الشعب في الدولة ككل، ولذلك فإنَّ الصورة الأبرز للحماية الدستورية للخصوصية الثقافية، تتلخَّص بالذات في حماية التفرُّد الثقافي للمجموعات الإنسانية، داخل الدول التي يتألف عنصر الشعب فيها، من مكونات بشرية ذات خلفيات مُتنوعة، عرقياً أو إثنياً أو دينياً أو غير ذلك، من مظاهر التنوع الإنساني، كالولايات المُتحدة الأمريكية مثلاً، وجنوب إفريقياً والهند، ومن منطقتنا العربية العراق مثلاً، وعليه، فإذا كانت الخصوصية الثقافية للجماعة الإنسانية داخل الدولة الواحدة، جديرة بالحماية الدستورية، إلاَّ أن إحترام وتقدير هذه الخصوصية، ليس مُطلقاً من كُل قيد، فقد تحظى وتُعطى هذه الخصوصية الحماية الدستورية، بالقدر الذي لا تخالف فيه نصوص الدستور، وبالطبع في إطار من النظام العام والآداب داخل الدولة، والقوانين المعمول بها فيها، فلا يمكن أن تكون حماية هذه الخصوصية، مَحفِّزاً لمُخالفة القانون ونَقْض العقد الإجتماعي، وإفراغه من معناه في الوثيقة الدستورية، فلا يجوز مثلاً وبذريعة حماية الخصوصية الثقافية، توفير حماية دستورية لنصوص تشريعية، تقرُّ العمل بعقوبات جنائية، غير تلك التي تنص عليها القوانين العقابية، لمُجرد أن هذه العقوبات مُعترف بها قَبَلياً أو قروياً، وبالمثل، فلا يمكن توفير حماية دستورية لنصوص تشريعية، تؤمِّن نفاذاً قانونياً لأَحْكام صدرت عن مُحاكمات عرفية، لا تتوافر في تشكيلها، أو قواعد تنظيمها الإجرائية والموضوعية، أية ضمانات دستورية أو قانونية، من تلك التي تنظم عمل الجهاز القضائي في الدولة(7).
الشعوب الأصلية وحماية حقوقها
الشعوب الأصلية هي التي أقامت على الأرض، قبل أن يتم السيطرة عليها بالقوة من قبل الاستعمار، ويعتبرون أنفسهم متميِّزين عن بقية المجتمعات السائدة الآن على تلك الأراضي، لكن رغم ما يحظى به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بإقراره بالحقوق الأساسية لكل الأفراد وما يحظى به من تقدير وقبول دولييْن، إلاَّ أنَّ الشعوب الأصلية لا تتمتع بشكل خاص على الصعيد العملي بالحد الأدنى من الحقوق، فلا تزال الى يومنا هذا، تواجه الشعوب الأصلية العديد من المخاطر المهددة لوجودها، من خلال نهج وممارسات حكومية، حيث أنه وفي العديد من البلدان، فإن موقع الشعوب الأصلية على مؤشرات التنمية، كنسبة_ أبناء الشعوب الأصلية ضمن السجناء، ومعدل إنتشار الأمية بينهم، ومعد البطالة وغير ذلك من المؤشرات _ تدل على مدى تدهور وضعيتهم، قياساً على المجموعات الأخرى في الدول التي يعيشون فيها، فأبناء الشعوب الأصلية دائماً يقعون ضحية للتمييز في المدارس، والإستغلال في سوق العمل، وفي العديد من الدول لا يُسمح لهم بدراسة لغتهم في المدارس، كما يتم سلْب أراضيهم وممتلكاتهم من خلال إتفاقات غير عادلة.
كما تستمر الحكومات في إنكار حقوق الشعوب الأصلية في العيش، وفي إدارة أراضيهم الموروثة، وكثيراً ما يتمّ تبنِّي سياسات لإستغلال وإنتزاع الأراضي التي تعود إليهم منذ عدة قرون، وفي بعض الحالات، قامت الحكومات بإعتماد سياسة الإدماج بالإكراه، لمحو ثقافات وتقاليد الشعوب الأصلية، وعلى نحو متكرر، تقوم الحكومات في مناطق مختلفة من العالم، بالإنتهاك والتعامل بإستخفاف مع قيم وتقاليد الشعوب الأصلية وحقوقهم.
وفي المناقشات الدولية المتعلقة بحماية وتعزيز حقوق الإنسان للشعوب الأصلية، أعلنت بعض الدول، بأن مجرَّد الإلتزام بتطبيق المعايير الدولية الراهنة لحقوق الإنسان، سيحل مشاكل الشعوب الأصلية، فيما ترى الشعوب الأصلية أن المعايير الدولية الراهنة، قد فشلت الى الآن في حمايتهم، وأن المشكلة تتجاوز عدم تنفيذ تلك المعايير، موضحين أن هناك حاجة إلى إعداد وثيقة دولية لحقوق الإنسان، تُعنى بالمشاكل الخاصة بالشعوب الأصلية، وبالرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أتى لحماية حقوق الإنسان لكافة الأفراد، إلاَّ أن القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيما يخص الخصوص الجماعية، بقي غامضاً، وهو ما يحول دون أن يكون له دوراً فاعلاً في حماية حقوق الشعوب الأصلية.
وعليه، تأخذ الصكوك الدولية الملزمة صورة معاهدة قد يطلق عليها أيضا عهد، اتفاقية بروتوكول، وقد يأخذ قيام الدولة بقبول الإلتزام بأحكام المعاهدة صور مختلفة، ويُعد التصديق أو الإنضمام، أكثر تلك الصور شيوعاً، حيث قد تقوم الدول التي شاركت في التفاوض حول نص المعاهدة بالتصديق عليها، فيما يمكن للدولة التي لم تشارك في هذا التفاوض، إذا ما رغبت أن تصبح طرفاً في المعاهدة أن تنضم إليها، ويتوجَّب على الدول التي توقِّع على معاهدة ما، ألإلتزام بعدم القيام بإجراء يناقض الهدف أو الغرض من هذه المعاهدة، إلاَّ أن التوقيع في حدِّ ذاته، لا يجعل من الدولة طرفاً في المعاهدة، بينما يكون التصديق أو الإنضمام، هما الإجراء الذي تصبح بمقتضاه الدولة طرفاً في المعاهدة، ومن ثم تصبح ملزَمة بالوفاء بما تضمَّنته من أحكام.
وبالنسبة لوضعية المعاهدات الدولية، التي تنضم إليها الدولة، ضمن نظامها القانوني الوطني، فذلك مرجعه إلى طبيعة وهيكل النظام القانوني للدولة، ففي بعض البلدان يكون للمعاهدات الدولية مكانة تعلو على القانون الوطني، وفي دول أخرى يكون لها نفس مكانة التشريع الوطني، إلاَّ أنه أيا كان النظام القانوني للدولة، فإنها تبقى ملزمة على الصعيد الدولي، بالوفاء بكافة الإلتزامات التي تقع على عاتقها، بموجب المعاهدات التي إختارت أن تصبح طرفا فيها، ولا يحق لها المحاججة بطبيعة نظامها القانوني الوطني، من أجل تبريرعدم الوفاء بأيٍّ من إلتزاماتها التعاهدية.
كما أن حقوق الشعوب الأصلية، تتداخل مع العديد من حقوق الإنسان، فكثير من حقوق الشعوب الأصلية، لم تكن ضمن صك خاص بحقوق الشعوب الأصلية، ولكن ضمن صك عام، يُعنى بحقوق الإنسان على نحو عام، مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، بإستثناء الأمم المتحدة، التي يُعَد مشروع إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، أشمل وثيقة فيما يتعلق بحقوق الشعوب الأصلية حتى الآن، إذ يُقرُّ بحقوقهم الجماعية على نحو أوسع من كافة صكوك القانون الدولي لحقوق الإنسان، كما يقرُّ بحق الشعوب الأصلية في حماية ثقافتهم التقليدية وهويتهم، وكذلك حقّهم في التعليم والتوظيف والصحة، وحقوقهم ذات العلاقة بالدين واللغة وعدد من الحقوق الأخرى، كما يحمي أيضاً، حق الشعوب الأصلية في الملكية العامة للأرض، وعلى الرغم من أن مشروع الإعلان في حالة إقراره سيكون غير ملزم للدول، إلاَّ أنه سيكون له قيمة أخلاقية وتوجيهية كبيرة، نظراً لإعتماده من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتضمن مشروع الإعلان على خمسة وأربعين مادة، مقسمة إلى تسع أجزاء وهي:
الحقوق الأساسية والحياة والأمان والثقافة، الدين واللغة والتعليم والإعلام والوظائف والمشاركة والتنمية والأرض والموارد والحكم الذاتي والتنفيذ والمعايير الأدنى.
وقد جرى الانتهاء من إعداد مشروع إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية من قبل الفريق العامل المعني بالشعوب الأصلية وذلك في عام 1994، وجرى إعتماد مشروع الإعلان من قبل اللجنة المعنية بحماية وتعزيز حقوق الإنسان، ثم جرى تقديم مشروع الإعلان إلى لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، حيث جرى تأسيس فريق عامل للنظر فيه، ويشارك ما يزيد على 200 من منظمات الشعوب الأصلية، في أعمال الدورات السنوية للجنة العمل الخاصة بالنظر في مشروع الإعلان/ وتهدف اللجنة إلى الانتهاء من أعمالها، في وقت يسمح باعتماد الإعلان من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها لعام 2004 ، وذلك بمناسبة حلول العام الأخير من العقد الدولي للشعوب الأصلية.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، الذي يُعد أول صك دولي يقرُّ بأن جميع الأفراد متساوين في الكرامة والحقوق بمادته الأولى، وأن لهم الحق في التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الإجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر في المادة الثانية.
أما إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1951(، فقد عُرِّفت بأنها “أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخرى.” (المادة 2).
والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، يتناول أيضا بشكل محدود وعام بعض الحقوق الجماعية، إذ ينص على أنه ” لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات اثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم.” (المادة 27 منه).
كما نصَّت الإتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري (1965)، والتي عرفت الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصرين تعبير التمييز العنصري بإعتبار: “أي تمييز أو إستثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الإعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو في ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”. (المادة 1).
كما جرى اعتماد وإعلان عمل فيينا عام (1993)، من قبل المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان، الذي عقد في فيينا عام 1993، وقد نص على أن تسليم المؤتمر :”بكرامة السكان الأصليين المتأصلة فيهم، وبمساهمتهم الفريدة في تنمية المجتمع وتعدديته، ويؤكد من جديد وبقوة إلتزام المجتمع الدولي برفاههم الإقتصادي والإجتماعي والثقافي، وبتمتعهم بثمار التنمية المستدامة ” (الجزء الأول من الفقرة 20). فضلا عن ذلك فقد طالب الإعلان بإنجاز صياغة مشروع إعلان بشأن حقوق الإنسان والسكان الأصليين، وأن يتم تجديد وإستكمال ولاية الفريق العامل المعني بالسكان الأصليين، وكذلك بإعتماد عقد دولي للسكان الأصليين في العالم، (الجزء الثاني، الفقرات من 28 إلى 32)
وجرى الإتفاق ضمن المؤتمر على أنه يجب النظر إلى حاجات الشعوب الأصلية، على نحو يتضمن إدراج منظورات وإحتياجات المجتمعات الأصلية، في تصميم برامج السكان والتنمية والبيئة، التي تؤثر عليهم وتنفيذها ورصدها وتقييمها، كما أنه يجب ضمان حصول السكان الأصليين على الخدمات المتصلة بالسكان والتنمية/ التي يرونها ملائمة إجتماعيا وثقافياً وإيكولوجيا (الفقرة 6-24) من إعلان وبرنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994)، وبأنه ينبغي أن تحترم الحكومات ثقافات السكان الأصليين وأن تمكنهم من حيازة أراضيهم وإدارتها. وحماية مواردهم الطبيعية ونظمهم الإيكولوجية التي تعتمد عليها المجتمعات الأصلية لبقائها ورفاهها (الفقرة 6-27).
كما أفرد إعلان برنامج عمل المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب، وما يتصل بذلك من تعصُّب، في العام 2001 والمعروف بإعلان ديربان، قسماً خاصاً بالشعوب الأصلية، مما يُعطي أهمية خاصة ربما تفوق ما تضمنته التوصيات الواردة، هو كون الإعلان يعد أول وثيقة للأمم المتحدة، تستخدم مصطلح الشعوب الأصلية بدلاً من السكان الأصليين.
ويتضمَّن قرار مجلس أوروبا بشأن المجتمعات الأصلية، فيما يتعلق بمشاريع التعاون التنموي المجتمعية، وفيما يخص الدول الأطراف (1998)،و يتعلق بدعم الشعوب الأصلية، ومن بين ما يشير إليه، هو العمل على إدماج إهتمامات المجتمعات الأصلية في كافة مستويات التنمية، وضمان مشاركتهم الحرة في كافة مستويات التنمية، كما يقر أيضاً بأن “ثقافة المجتمعات الأصلية تمثل مصدرا زاخرا بالمعرفة والأفكار يمكن للإنسانية الاستفادة منها”.
كما تم تأسيس منظمة التعاون والأمن في أوروبا، بشأن الأقليات الوطنية في عام 1992 ، وذلك للعمل على تحديد والسعي على نحو مبكر، لحل مشاكل الأقليات، التي يمكن أن تؤثِّر بشكل سلبي على السلم أو الإستقرار، أو العلاقات الودية بين الدول الأعضاء في المنظمة، ولا تتضمن مهام المفوض السامي أية مهام خاصة، فيما يتعلق بالسكان الأصليين، ولكن جرى إدراجهم ضمن الأقليات الوطنية، كما أعطى الإعلان الأمريكي المقترح بشأن حقوق السكان الأصليين عام (1997)، الخطوط العامة لحقوق الإنسان، المتصلة بالسكان الأصليين، بما في ذلك حقهم في الحكم الذاتي، وتطبيق القوانين الخاصة بهم وتنمية هويتهم الثقافية، لكن ما يزال الإعلان محل بحث ولم يتم إعتماده بعد.(8)
الإطار القانوني لأقليات شمال سوريا(أنموذج)
تُعتبرالأقليات والشعوب الأصلية شمال سوريا، من الكُرد والسريان والآشوريين والأرمن والأيزيديين، على أنهم شعوب أصيلة، تمتد جذورهم التاريخية والجغرافية عميقاً في شمال سوريا، هذا التحديد يتجاوز كونه خلافاً مصطلحياً، فهو يحمل أبعاداً قانونية مهمَّة، تُحدد طبيعة الحقوق والحماية المكفولة بموجب القانون الدولي، فالأقليات، وفقاً لإعلان الأمم المتحدة، بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية أو دينية ولغوية، لعام 1992، هم جماعات بشرية تتميَّز بهوية قومية، دينية، أو لغوية مختلفة عن الأغلبية السكانية في دولة ما، وهنا يمنح هذا الإعلان الأقليات حقوقاً أساسية، منها:
-الحماية من التمييز والتهميش، وضمان مشاركتهم الكاملة في الحياة العامة والسياسية.
-الحفاظ على هويتهم الثقافية واللُّغوية وممارساتهم الدينية دون تدخل.
أما الشعوب الأصلية، فقد خصَّصت لهم الأمم المتحدة إعلاناً مستقلاً عام 2007، عُرف بـ”إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية”، والذي تميَّز بتوفير حماية أوسع تشمل:
-الحق في تقرير المصير الداخلي وإدارة شؤونهم الثقافية واللغوية والدينية.
-الإعتراف بحقهم في الأراضي والموارد التي عاشوا عليها تاريخياً، وضمان عدم نزع ملكيتها دون موافقتهم الحرة والمسبقة.
-التمكين السياسي والإداري لضمان مشاركتهم الفعّالة في القرارات المتعلِّقة بمصيرهم.
من هنا، وفي سياق شمال شرق سوريا، يُعتبر الكُرد بما فيهم الأيزيديين، والسريان، والأرمن، والآشوريون، شعوباً أصيلة، بالنظر إلى وجودهم وإرتباطهم التاريخي الوثيق بالمنطقة، وعمق دورهم ومساهماتهم فيها، ومع ذلك، هم يُصنفون أيضاً كأقليات على المستوى الوطني، لأنَّ عددهم أقل مقارنةً بالأغلبية العربية، وهذا التداخل بين التعريفين، يُبرز تحدِّيات قانونية وسياسية، خاصةً في ضوء التحوُّلات التي شهدتها المنطقة، فعلى الرغم من أن القانون الدولي يكفل حقوقاً أساسية للأقليات، فإنه يفرض إلتزامات أعمق على الدول تجاه الشعوب الأصلية، تشمل الإعتراف الدستوري بهويتهم وحقوقهم الجماعية، وتمكينهم من المشاركة في إدارة مناطقهم التاريخية.
والنسبة لشمال شرق سوريا، يُعد الإعتراف بهذه المكونات كشعوب أصيلة، أساساً لتحقيق العدالة والإنصاف، وضماناً للتعددية الثقافية، وتعزيزاً للتماسك الإجتماعي لوحدة البلاد، كما أن الجمع بين الحماية المقررة للأقليات، والإعتراف بحقوق الشعوب الأصلية، يُمكن أن يشكّل إطاراً شاملاً، يعالج الإحتياجات والتطلُّعات المشروعة لهذه الشعوب، حيث تمثِّل الشعوب الأصلية والمجتمعات الدينية في شمال شرق سوريا، مكونات أساسية في النسيج الإجتماعي والتاريخي للمنطقة، رغم أن هذه المجتمعات عانت لعقود سالفة وقبل النزاع في سوريا، وبدرجات متفاوتة، من سياسات الإقصاء والتمييز الممنهجة على يد السلطات السورية، إذ كانت السياسات التي إنتهجتها الحكومة السورية، تستهدف هويتهم الثقافية واللُّغوية والدينية، حيث جرى فرض التعريب، ومنع إستخدام لغاتهم في المؤسسات العامة والتعليمية، مما أثر بشكل كبير على قدرتهم في الحفاظ على ثقافاتهم وهوياتهم.
مع تفاقم النزاع السوري، تعرَّضت هذه الشعوب لإنتهاكات جسيمة من أطراف متعددة، ومن هجمات وحشية على يد تنظيم داعش، الذي إستهدف بشكل خاص المجتمعات الدينية المسيحية والأيزيدية في مناطق شمال سوريا، حيث تمّ إختطاف المدنيين ونهب الممتلكات وتدمير البنية التحتية، كما أن فصائل الجيش الوطني السوري التابع للحكومة السورية المؤقتة/الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، إرتكبت إنتهاكات واسعة، كالقتل والإعتقال التعسفي والتعذيب، ضد الكُرد في مناطق مثل عفرين ورأس العين، كما تعرض الكُرد الأيزيديون لإنتهاكات مُركَّبة ومضاعفة على يد أطراف متعددة، مثل داعش والجيش الوطني السوري المعارض، حيث جاءت هذه الإنتهاكات بدوافع قومية ودينية معاً، فإستُهدفوا مرةً لكونهم كُرداً، ومرةً أخرى لكونهم من معتنقي الديانة الايزيدية، وهذا الإستهداف المزدوج جعل المجتمع الأيزيدي عرضة لهجمات منهجية شملت القتل والإعتقال التعسفي والتعذيب، والتهجير القسري، والإختطاف، والعنف الموجّه الذي يهدف إلى محو هويتهم القومية والدينية معاً، وهو يعكس التمييز العميق الذي عانى منه الأيزيديون والأقليات تاريخياً، بسبب خصوصيتهم القومية والدينية، وتظهر شدة هذه الإنتهاكات في تدمير وتدنيس مواقعهم الدينية، ومحاولات إجبارهم على تغيير عقيدتهم، مما يبرز الجهود المبذولة لتطهيرهم عرقياً وثقافياً.
كذلك،عانى الكُرد من سياسات ممنهجة، تهدف إلى محو هويتهم الثقافية، حيث فرضت الحكومة السورية مناهج تعليمية باللُّغة العربية، كلغة رسمية في جميع مجالات الحياة العامة، بينما كانت اللغة الكُردية محظورة في المدارس والمؤسسات الحكومية، كما شملت السياسات التعريبية، تغيير أسماء المدن والقرى الكُردية، مما كان له أثر طويل المدى على الذاكرة الثقافية الجماعية للشعب الكردي.
فسياسات التعريب في سوريا لم تقتصر على اللُّغة والثقافة فقط، بل شملت حتى إسم الدولة نفسها، فقد عانت الأقليات الدينية في سوريا من التهميش على المستوى الوطني، وبشكل خاص الكُرد الأيزيديون، حيث كانوا ولا يزالون من بين أكثر المجتمعات الدينية تهميشاً في سوريا، ولم يُعترف بهم كديانة مستقلة في الدستور السوري، وإفتقروا إلى قانون أحوال شخصية خاص بهم كما الديانات الأخرى، كما فُرضت عليهم مناهج دراسية إسلامية، لا تعترف بمعتقداتهم الدينية الخاصة، مما أسهم في طمس هويتهم الثقافية والدينية، هذه السياسات جعلت من الصعب على الأجيال الجديدة من الايزيديين الحفاظ على تراثهم الديني والثقافي، بعد ذلك أيضاً إستمرت معاناة الأيزيديين في المنطقة، حيث تعرّضوا لإنتهاكات عديدة في عفرين ورأس العين ، خلال وبعد عمليتي غصن الزيتون في عام 2018 ونبع السلام التركية في عام 2019، وشملت الإنتهاكات الموثقة، القتل والإعتقال التعسُّفي، والتضييق الديني عبر منعهم من ممارسة شعائرهم وطقوسهم والإحتفال بمناسباتهم الدينية، فضلاً عن نبش وتدمير المزارات والمواقع الدينية الايزيدية بشكل متعمد.(9)
لذلك، من الضروري اليوم، بناء دستور سوري جديد يعترف بهوية وحقوق هذه الشعوب، ويضمن التعددية الثقافية والدينية، كركيزة للسلام المستدام والعدالة الانتقالية في البلاد، فالمسؤولية كبيرة على عاتق الإعلام والتركيز على دوره مع وسائل التواصل الاجتماعي، في تمثيل قضايا الأقليات الثقافية والدينية، مع ضرورة تسليط الضوء على أهمية العناصر اللُّغوية والثقافية، في تعزيز الهوية الجماعية والتعددية الثقافية في المجتمع السوري، فالتصدي لسياسات الإقصاء الثقافي، ودورها في بناء خطاب إعلامي شامل يُسهم في تمكين الأقليات من التعبير عن قضاياهم، ويعزز من مشاركة هذه الشعوب في صناعة القرار السياسي، وصياغة دستور يعكس التنوع الثقافي والديني لسوريا، خصوصاً الكُرد، الذين عانوا من تهميش ممنهج على المستويين القومي والسياسي، في ظل حكومة حزب البعث، وضرورة تسليط الضوء على الدور المحوري للمجتمع المدني، بوصفه حاضنة لتعزيز مشاركة الأقليات والشعوب الأصلية، وتمكين الناشطين من لعب دور فاعل في العمليات السياسية وصنع القرار، والتركيز على دور المرأة كعنصر أساسي في الحوار وعمليات بناء السلام، و التأكيد على أهمية تمكين النساء من الأقليات وتوسيع نطاق مشاركتهن في المشهد السياسي، فتمثيل المرأة في العمليات السياسية، لا يعزز فقط قضايا المساواة بين الجنسين، بل يعطي بعداً أكثر شمولية وفعالية، على القرارات المتعلقة بمستقبل الأقليات وسوريا ككل.
هنا وَجَبَ العمل على بناء أنظمة حكم تشمل جميع المكونات، لضمان تمثيل عادل ومستدام للأقليات والشعوب الأصلية، فهذا يتطلب ليس فقط تغييرات سياسية ودستورية، بل أيضاً تحوُّلات مجتمعية، تدعم العدالة الإجتماعية والمساواة، مع تمكين الأفراد الأكثر تهميشاً، لا سيما النساء، من لعب دور ريادي في صياغة مستقبل البلاد، وضمان حقوق جميع مكونات الشعب السوري، وخاصة الأقليات والشعوب الأصلية، في إطار عملية شاملة، لإعادة بناء الدولة السورية على أسس المساواة والعدالة والتنوع، ولتحقيق ذلك، لا بدَ من آليات تنفيذ واضحة ومتكاملة، تشمل الإصلاح التشريعي لضمان توافق القوانين الوطنية مع المعايير الدولية، وإصلاح المؤسسات لضمان الشفافية والمساءلة، وتعزيز دور المجتمع المدني، كشريك رئيسي في دعم الجهود الوطنية ورصد تنفيذ السياسات.
في الختام
صياغة السياسة الثقافية والإنتاج الثقافي لقضية تعدد الهويات وتعايشها وتطورها، في إطار قبول الإختلاف الهوياتي، يمنع التحيُّز الإيديولوجي والهُوياتي، من جانب الطبقة السياسية الحاكمة لبلدان المنطقة، ويبعد الإنزياح والقمع للهُويات الأخرى، وللمكونات المجتمعية في تشكيل تركيبة المجتمع والدولة، ويمنع كذلك ولادة صراعات هوياتية، على نحو أدى ولايزال، إلى إستبعاد الحق في الإختلاف، وأيضاً إلى عدم القبول بالآخر المختلف، فهذه قضية مركزية، وأمر مهم ضروري جداً في المجتمعات العربية والشرقية، بالإنتقال من صراعات الهوية بها وعليها في الصراع السياسي، إلى سياسة التعايش الهوياتي، من منطلق المواطنية، والحق في الإختلاف، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والحريات، والإلتزامات العامة والفردية، وهي من ضرورات الواقع الحياتي، لتعيش هذه الشعوب بإستقرار وأمان دائمين.
ففي إطار هذه السياسة الثقافية، لا بدَّ من الإنفتاح الثقافي على التعدد في الثقافات العربية، وسائر التكوينات المجتمعية، وإبداعاتها الفنية والأدبية والشعرية، وفنونها الشعبية كمدخل للفهم المتبادل، وبناء جسور مؤسساتية مع ثقافات المنطقة، دون تحيّز أو تمييز، وبعيداً عن مشاكل الطبقات السياسية الحاكمة التي تتغير تبعاً للمصالح، وعليه فإن وضع سياسة الإنتفاح الثقافي على التعدد والخلاف، تشكل أحد مقاربات فهم وتحليل السياسة والمجتمع في هذه البلدان، ومصادر القوة والثراء داخلها، وهو أمر مهم للسياسي، والمثقف، والبيروقراطي، كذلك عند قمة أجهزة الدولة الرسمية، ويستطيع التعامل مع تعقيدات الهياكل الثقافية، في مجتمعات عربية إنقسامية في بنياتها وثقافاتها الداخلية.
من هنا، تنبع ضرورة الإنفتاح الثقافي على ثقافات العالم المختلفة، في ظلِّ تعقُّد عمليات التحوُّل إلى الثورة الرقمية، والذكاء الصناعي، والتركيزعلى السياسة الثقافية في مواجهة الأفكار الظلامية وسردياتها، وفي هذا الإطار، لا بدَّ من إدخال المكون الثقافي النقدي والتاريخي في دراسة تاريخ الأديان وسردياتها الوضعية، لإعادة النظر تجديدياً وإجتهادياً، في الموروث السردي التاريخي الوضعي، وعقائده، ومروياته البشرية، التي هي جزء من ثقافة زمانها، من ثم، لا بدَّ من إعادة درس بعض هذه السرديات في ضوء المناهج التاريخية، هنا يصبح الحثُ على إبداع الأشكال الفنية، التى تركز على القيم الدينية المشتركة من الأهمية بمكان، في السياسة الثقافية، بل وحثُ الأطفال على أهميتها والوعي بها وممارستها سواء في إنتاج أشكال كتابية سردية، وتخيلية، وفنية من رسم، ونحت، لكي تتأصل كجزء من التنشئة الإجتماعية في المدارس والجامعات، لا سيما في التعليم الديني والعام.(10)
إن وضعية التعليم الديني ومناهجه، تحتاج إلى دراسات متعددة الإختصاصات، من هنا، تأتي ضرورة إدخال تعديلات في السياسة الدينية والتعليمية، بحيث يتم دمج بعض المواد الثقافية، ودراسة الأديان الأخرى من منظورها، وليس فقط من المنظور المغلق للدين، أو المذهب إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، هذا التوجه لا بدَّ أن يتم على نحو متدرج لكي لا يصطدم برفض رجال الدين، وجموع الناس، فعملية إدخال المناهج الحديثة، وما بعدها في العلوم الإجتماعية والأديان المقارنة، لا بدَّ أن تتمّ على نحو متدرِّج من خلال منظور تاريخي ونقدي لهذه المناهج، وبعض تطبيقاتها، ولا تؤخذ كمسلمات يتعيَّن الإنصياع لها، فمثل هذا الإنفتاح على التعدد والإختلاف، لا يعني فقط الإلغاء أو التأثير السلبي على النظام العقدي والقيمي، والطقوسي الديني والمذهبي، ولكنه يعمِّق الدراسات الدينية، والمعرفية، والوعي بالتعدديات الدينية في عالمنا، وأن المشترك الإنساني، والتعايش المشترك مع الإختلاف ضرورة إنسانية، ونمط حياة في التعدد والإختلاف، والإتفاق على القيم المشتركة كونياً، وداخل كل مجتمع ودولة.
وهنا يتوجَّب تحرير الثقافة، كونها من المداخل الهامة لتطور المجتمعات العربية، وتسريع التنمية، وسد الفجوات التاريخية في مجال الثورات الصناعية، وأيضا الفجوات العلمية والتقنية، من هنا لا بدَّ أن تكون الحرية والعقل الحر، ودعم الإبداع والمبدعين في المجال الثقافي، والفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، والعلوم الطبيعية، والثقافة العالمية، والثقافة الوسيطة، والثقافة الشعبية، وتحريرهم من أية قيود سياسية وأمنية وقانونية، هو المدخل الرئيسي لثقافة الحرية، كذلك لا بدَّ من دعم البيئة السياسية، وتحريرها من القيود على الحريات والعقل الحر عربياً، وتحرير الإنسان الشرقي من الإنغلاقات في معتقلات الروح والعقل، حتى يستطيع أن يستعيد القدرة على المبادرة الفردية، أو في إطار جماعي، سواء من خلال المجتمع الأهلي، أو في إطار المؤسسات السياسية والحزبية.
وعليه فإن تحرير الثقافة السياسية للحريات والقيم السياسية، مع العدالة والمساواة والحرية، والإنتماء الوطني والإنساني، من القيود الدينية والتسلطية، التى تفرضها بعض السلطات الحاكمة في العالم العربي، والسلطات الدينية التابعة لها، وأيضاً الجماعات السلفية والدينية السياسية، هذه التحوُّلات وتحرير الثقافة السياسية من قيودها الشمولية والتسلطية، تحتاج إلى تغييرات إجتماعية وتعليمية، وتِقنية، ولا تتم دفعة واحدة ونهائية، لأن القيود الموروثة، ذات سطوة وهيمنة في تفاصيل الحياة لشعوب الشرق الاوسط والشعوب العربية، فضلاً عن دفاع هذه السلطات والجماعات عن مصالحها، في إبقاء الأوضاع السائدة على ما هو عليه.
إن نظرة تحليلية على منطق تشويه القبول بالآخر المختلف، تكشف التجذُّر في الموروث والثقافة التقليدية والإنقسامات، وسطوة العقل النقلي التقليدي الديني والثقافي، بينما الحياة الرقمية باتت تعكس تناقضات الواقع الفعلي، وثقافة كراهية الآخر، أو عدم القبول به ورفضه وهجاءه،من هنا يبدو الواقع الإجتماعي والثقافي والديني، عائقاً ضد قبول الآخر المختلف، والحق في الإختلاف، كذلك النُّظم الشمولية والتسلُّطية، لأن الحق في الإختلاف، شامل للفرد والمجتمع والسلطة والأحزاب السياسية، وفي مجال التنشئة السياسية والإجتماعية، ناهيك عن الخوف من الإختلاف الديني، والجماعات السلفية والإسلامية السياسية، لأنَّ الحق في الإختلاف، ودعمه سياسياً ودستورياً وقانونياً، إزاء العنف اللغوي والمادي والرمزي، يؤدي إلى تفكيك الخطابات والسرديات القائمة.
فالمعايير الدولية الراهنة، قد فشلت الى الآن في حماية التعدديات والخصوصيات الذاتية لأغلبية الشعوب، حيث المشكلة اليوم تتجاوز عدم تنفيذ تلك المعايير، بل أن هناك حاجة إلى إعداد وثيقة دولية لحقوق الإنسان، تتعلق بالمشاكل الخاصة بالشعوب الأصلية وتنوعاتها، وبالرغم من أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عمل على لحماية حقوق الإنسان لكافة الأفراد، لكن القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيما يخص الخصوص الجماعية، بقي غامضاً، وهو ما يعطل أي دور فاعل في حماية حقوق الشعوب وخصوصياته التعددية، ولذلك فإن الحق في الاختلاف، وقبول الآخر المختلف داخل المجتمعات الإنسانية، على تعددياتها وصراعاتها الاجتماعية والسياسية، سوف يواجه مشكلات جديدة مع العصر التقني المتسارع، وعصر ما بعد الإنسان، والتحوُّل من مركزية الإنسان في الكون والطبيعة، إلى طرف في ظل ثورات الذكاء الصناعي، ودورها في أداء الوظائف التى ينهض بها العقل الإنسانى وإبداعاته، ففي ظل الثورة الصناعية والتقنية الخامسة، ستتغير غالب المفاهيم والأفكار التى عاشت عليها الإنسانية في عصور التنوير والحداثة، وما بعدها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- مقال في مجلة اللقاء، السنة 32، العدد 1، 2017، ص. 49-64،الموقع الإلكتروني:
2- إبراهيم طلبة حسين – مسألة الهوية لدى الأقليات الإسلامية– صـ553.
3- المستشار د. محمد عبدالفتاح عبد البر – وكيل مجلس الدولة وعضو هيئة المفوضين بالمحكمة الدستوريا العليا ندبا،30 ديسمبر 2023 الموقع الإلكتروني: https://manshurat.org/content/lhmy-ldstwry-llkhswsy-lthqfy
4-بشير عبد الفتاح – الخصوصية الثقافية – الموسوعة السياسية للشباب – العدد 20 / يوليو 2007 – صـ7.
5-نصت المادة الثانية من إعلان اليونيسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي على أنه “لا بد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعاً يوماً بعد يوم من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معاً فيما بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية. فالسياسات التي تشجع على دمج ومشاركة كل المواطنين تضمن التلاحم الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام. وبهذا المعنى فإن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي.
7- الحماية الدستورية للخصوصية الثقافية الموقع الإلكتروني: https://manshurat.org/content/lhmy-ldstwry-llkhswsy-lthqfy
8-مكتبة حقوق الإنسان: الموقع الإلكتروني: https://hrlibrary.umn.edu/arabic/SGindigenous.html
9- الأقليات والشعوب الأصلية في شمال سوريا، الموقع الإلكتروني: https://hevdesti.org/ar/ar-minorities-and-indigenous-peoples-in-northern-syria/



