الذاكرة المجتمعية أداة المقاومة والسلام

تحليل: د.حسني أحمد مصطفى .. يُشكل هاجس لدى أي كيان قمعي متسلط، أيما كان حجمه في ضوء النُسق الاجتماعية، هو كل ما يزال حيويًا في ذاكرة الآخر، وهذا الذي يحيا في الذاكرة والوجدان من إرث ثقافي واخلاق ولغة ورموز وفلسفة، كلها ترسخ آليات دفاع ومقاومة قمع القوموية والنظم الرأسمالية، مهما تبدلت أنماطها الناعمة أو الغاشمة، حيث تُبادر المكونات المجتمعية فردانية للتوحد في سياق جمعي، قائم على وعي المواطن الفرد مرورًا بجميع النسق المجتمعية، مُشَكِلة حالة جمعية، لا يرى الفرد ذاته الفردانية فيها – بالرغم انها سر القوة الجمعية – فقد انصهرت في ذات الجمعية المجتمعية، مقاوِمة ان مُست من قريب أو بعيد هويتها وتاريخها النابض في الذاكرة، وتظل ذاكرة مثل هذه المجتمعات الانسانية محملة بماضيها، ليس فقط حملًا مثقل بالحنين الى مآثر الاجداد وسرديات مجدها، بل تحيا الذاكرة المجتمعية بذلك، وتصبح بجمعيتها لا تحتفظ من الماضي إلا بما يكفل حياتها الحاضرة المتجددة، فالتاريخ إرث حي قادر على البقاء حيًا عند الجماعة التي تحمله.
وبتدقيق النظر الى الواقع الاجتماعي الكردي في ظل محاولات الصهر والابادة الرمزية تتضح مقومات تكوين ذاكرة مجتمعية حية نابضة، يستمد منها المناضلون مقاومتهم، والمفكرون رؤاهم، والقانونيون فقههم، والأدباء جماليات إبداعاتهم، وبذلك يغدو المجتمع الكردي خزان للمقاومة والوعي الجمعي، ” وما حل بالمقاومات الارمينية والرومية والسريانية وبالمقاومات الكردية في الماضي القريب، كان ما يزال حيويًا في الذاكرة، وهذا ما يشكل مصدر الهواجس العميقة”.
لقد استطاع المجتمع الكردي بثقافته وهويته والتقائه مع الطبيعة بجبالها وسهولها وانهارها أن يمتلك زمنًا خاصًا، خلقه من خلال عاداته وطقوسه ودورته الاجتماعية، حيث يمثل الزمن بهذا المعنى ليس اطارًا فيزيائيًا محايدًا، بل بناء اجتماعي أتاح للشعب الكردي أن يجمد لحظات معينة من تاريخه وماضيه وإرثه تمنحه استقرارًا رمزيًا داخل وعيه الجمعي، وذلك ما يعطي الهوية والثقافة الكردية طابعها وخصوصيتها، والتي على اساسها تجابه كل محاولات النظم الرأسمالية والقومية القمعية صهرها وابادتها، حيث يمثل الاحتفاظ باللحظة الزمنية ذات طابع خاص في وعيه ومن ثم ممارساته الاجتماعية اليومية.
فالمقاومة ضد الصهر أو الإبادة بمثابة ظاهر اجتماعية للمجتمعات الواعية، يُشكل التاريخ مركزية أساسية في فهم الهوية وتكوين الذاكرة الجمعية لأفرادها، والتي لا تُبتر، وتظل متواصلة بين الاجيال مهما اختلفت تطورات البيئة ووجه الحضارة الانسانية المتجددة بطبيعة الحال، فتحليل ظاهرة المقاومة لا يقتصر على وقائع الحاضر بل يظل النطاق التاريخي مَعينًا أساسيًا لصيرورة الوعي بالهوية والحقوق والواجبات، بشكل لا تُخطئه منهجيات البحث والتحليل، وقد أكد المفكر عبد الله اوجلان على تناول الظواهر هذه، ليس فقط في سياقاتها الآنية بل من خلال جعل التاريخ والذي هو محل حضور حي في الذاكرة الاجتماعية محل دراسة واهتمام، فقد أشار اوجلان أنه: ” من الضروري بمكان الادراك يقينًا أنه لا يمكن تعريف أية ظاهرة اجتماعية بالاقتصار على الاساليب التحليلية الحاضرة دون البحث في واقعها ضمن مسار التاريخ، وأنه في حال تناولها خارج نطاق تاريخانيتها فسيكون إدراك واقعها الاجتماعي مشحونًا بالأخطاء والنواقص “.
– الذاكرة المجتمعية:
كان ينظر الى موضوع الذاكرة باعتبارها عملية داخلية ترتبط بالفرد المتذكر وتنحصر فيه، هذا الاتجاه كان سائدا الى حدود عشرينيات القرن الماضي، إلا ان عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس (1877 – 1945) تبنى وجهة نظر اخرى ألا وهي: أن الذاكرة ايضًا ذاكرة مجتمعية وليست مجرد إرث بيولوجي كما كانت تعتقد الاوساط العلمية آنذاك، ويُعد موريس هالبفاكس المؤسس الفعلي لعلم اجتماع الذاكرة، وذلك بفضل اعماله السوسيولوجية التي ظهرت قبل نحو قرن من الزمن، والتي اهتم فيها بقضية البعد الاجتماعي للذاكرة، وعليه اصبح موضوع الذاكرة ينتقل من كونه ظاهرة بيولوجية نفسية الى براديغم اجتماعي جديد في العلوم الانسانية والاجتماعية الغربية.
ويؤكد هالبفاكس أن ذكرياتنا تبقى رغم فردانيتها الظاهرية ذات طبيعة مشتركة؛ ومن ثم فهي جمعية، وذلك حينما يُذَكِرنا بها المجتمع المحيط بنا – مع انها أحداث عُنينا بها وحدنا – ويضيف ” أننا لسنا في الحقيقة وحيدين البتة “، ومن هذا المنطلق يرى أن النسيان لا يمكن فهمه ببساطة بوصفه عملية فزيولوجية؛ فهو مرتبط بتلك الأطر الاجتماعية نفسها المؤثرة في عملية التذكر الفردية: ” أن ننسى فترة من حياتنا، هو أن نفقد الصلة بأولئك الذين كانوا يحيطون بنا في تلك الفترة “، حيث يشترط أنَ لاستذكار الشخص ماضيه الخاص هو في حاجة الى ذكريات الاخرين، إضافة الى أن استناد ذاكرة الفرد الى ذاكرة الجمع إنما لسد ثغرات الذاكرة الفردية، بل توطيدها أيضًا – من دون أن يُقلل هذا الأمر من استقلاليتها ودورها في تشكيل الذاكرة الجمعية التي تتطور وفق قوانينها الذاتية – وانها في نهاية المطاف مؤلفة من ذكريات فردية متعددة ومتنوعة تسهم في تأسيس الوعي الجمعي للجماعة التذكرية، حالما تتموضع بصورة لا فردية، أي جمعية: ” تأتي الذكريات الجمعية لتُضاف الى الذكريات الفردية ولتعطينا على هذه الاخيرة ممسكًا مناسبًا وأكيدًا أكثر، ولكن ينبغي للذكريات الفردية أن تكون مسبقًا موجودة، وإلا فإن ذاكرتنا ستعمل في خواء “.
وتتمثل عملية استعادة الذاكرة الاجتماعية ليس فقط أنها مجرد فعل ثقافي؛ في حقيقة الأمر هي بمثابة شرط وجود لأي تجمع انساني يربو للتحرر وبناء المستقبل في سياق المعنى الانساني بمضمونه الأشمل والاسمى، في هذا السياق يتناول أوجلان الذاكرة المجتمعية يعني بها تجاوز السياق النظري لتصبح الذاكرة المجتمعية قضية وجود مصيرية، فالنسق الانساني الذي يفقد ذاكرته الحقيقية ما هو سوى قطيع يُسلب إرادته، ومطية للاستغلال والابادة الرمزية أو المادية، فالحداثة واذرعها الرأسمالية جعلت من الذاكرة المجتمعية ميداناً للصراع والاستلاب بين كل من قوى الهيمنة وقوى المقاومة، حيث تغدو فيها الذاكرة المجتمعية إما اداة للتخدير والهيمنة، أو دافع للتحرر وتحقيق الديموقراطية.
–الذاكرة شرط للاجتماع الانساني:
النظر الى الذاكرة المجتمعية على انها وظيفة فردية يعد نظرة قاصرة لخصيصة الذاكرة المجتمعية، فصفة الجمعية للذاكرة تمنح المجتمع معناه وجوهره واستمراريته، فالمشترك التاريخي في ذاكرة الافراد رابط بين الاجيال المتعاقبة، هذا الرابط يسمح بتراكم الخبرات وتشكيل السرديات ذات التماسك الانساني، بينما ذلك قائم.
وفيما يتعلق بارتباط المكان بتكوين واستمرارية الذاكرة الجمعية؛ أي جماعة انسانية تصيغ بناء ذاكرتها داخل كيان جغرافي – مكاني – محدد تثبت فيه وجودها المادي والرمزي، حيث يحمل المكان آثار هذه الجماعة ويحتفظ بصورتها الذاتية المتشكلة في ضوء النقش الرمز، حيث المكان يُدمغ ببصمة الجماعة كما تُدمغ الجماعة ببصمة المكان، فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ويصبح بذلك استمرارية توطين المكان بجماعته شرط اساسي لدوام الذاكرة المجتمعية لهم.
فثمة رابط مشترك بين كل من بناء الذاكرة في داخل اطار مكاني – جغرافي – محدد تضع المجتعات بصماتها نقوش لرموزها وثقافتها ولغتها، حيث لا تنفصل ذات الفرد عن المجتمع، فبذلك يتضح ان التذكر فعل اجتماعي تتشارك فيه مجمل المكونات الانسانية في بقعة تشملها اجتماعيا وفلسفيا وانثروبولوجيا.
هذه المكونات التي تترابط فيما بينها تضخ روح التذكار في نبض المجتمعات الانسانية، فيغدو الماضي حي والتاريخ متجدد معيش بين ابناء المجتمع لا تفصله هيمنة أو تبتره صنيعة في امتداد غير مصطنع.
ولكن؛ عبر فترات انسانية هيمنت الرأسمالية الحديثة، تعمل على افتراس وبتر هذا الامتداد، وتفسيخ التماسك القائم بين مكوناته، فنتج عنه إنساناً مسلوب الذاكرة، منفصلا عن جوهر تاريخه الحقيقي، يدور في مضمار الحاضر الاستهلاكي المنغلق على مفاهيم تختزل مضمون المجتمعية – الجمعية – في علاقات اقتصادية أو سياسية فقط؛ خالية على أقل تقدير من القيم الانسانية والاخلاق، هذه الذاكرة المجتمعية التي تمثل بنية ذاكرية تحتفظ بالمعنى، وتجعل الماضي والتاريخ والارث مرآة للحاضر الانساني ونبراساً لمستقبل الشعوب والأمم، فالحقيقة؛ أنه لا ذاكرة بلا جماعة، والفعل انه كل جماعة تعيد صياغة ماضيها بشكل متواصل، وبذلك تمنح حاضرها قيمة ومعنى وصيرورة.
– الذاكرة والتاريخ:
أي عملية بناء للدولة ولنظامها السياسي ترتكز في الأساس على الذاكرة، إذ تأخذ الذاكرة اجندتها وتوجهاتها للعملية التنظيمية والسياسية، لذا يكون هنالك اتجاهين لدى السلطة الحاكمة، فإما أن يتم بناء الدولة وفق الإرث الذاكراتي (ذاكرة جمعية) الجامع لكل ذاكرات الجماعة الاجتماعية في المجتمع، أو انشاء ذاكرة وادلجتها، أو اعادة توجيهها لصالح السلطة الحاكمة، وهنا ثمة وقفة بين كل من تاريخ الشعوب وإرثها الثقافي والاخلاقي وسرديات مجتمعاتها المحلية، وكذلك معيشها واستمرار هذا الارث في سلوكها الجمعي النابض في جميع مجالاتها كل يوم، وبين ما يتم هندسته وصياغته في سياقات التوجهات النفعية لصالح زمر بعينها.
ثمة فارق بين التاريخ المكتوب وبين التاريخ المعيش، فالتاريخ المكتوب هو الذي يمثل مجرد توثيق لجانب ما من الماضي وليس كل الماضي، أما التاريخ المعيش – أي التاريخ الحي المتجدد عبر الزمن – وهو التاريخ الذي بناء عليه تستند الذاكرة لاحقًا فهو: ” كل ما يلزم لتشكيل إطار حي وطبيعي يُستند عليه لحفظ صورة الماضي واستعادتها “، وهذا ما يميز التاريخ المعيش من التاريخ المكتوب الذي يُرى في ” المعرفة المجردة المعنية وليس الذاكرة “.
وفي هذا المعنى ” التضاد ” بين التاريخ والذاكرة المجتمعية، حينما يُرى أن التاريخ لا يبتدئ إلا في اللحظة التي تنطفئ فيها الذاكرة الاجتماعية، وفي ذلك يرى هالبفاكس: ” عندما تتبعثر الذاكرة في أذهان بعض الافراد التائهين في المجتمعات الجديدة تصبح الوسيلة الوحيدة لإنقاذ تلك الذكريات هي تثبيتها كتابة كسرد “.
بذلك يمثل الجانب الوظيفي للذاكرة الجمعية انها تتميز بكل من الاستمرارية والتنوع، فتعد بذلك تيار أفكار مستمر، استمرارًا لا شيء مصطنعًا فيه، بذلك تصبح الذاكرة الجمعية لا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حي، حي قادر على البقاء حيًا عند الجماعة التي تحمله، أما التاريخ في نظر هالبفاكس: ” متموضع خارج الجماعات وأعلى منها، ذلك انه – التاريخ – يهتم بالفوارق والتضاد “.
ولفهم حقيقة المجتمعات الانسانية يتطلب ذلك الرجوع الى محتوى ذاكرتها الجمعية، وذلك ليس فقط عبر عملية الاختزال لتذكر سرديات الماضي، بل ما تمثله الذاكرة من خزان للخبرات ومستودع للأخلاق والقيم، ووسيلة عبر الزمن لحفظ الثقافة والهوية، حيث يطرح أوجلان هذا المفهوم في إطار نقدي شامل في رؤياه الفكرية التي تتناول حرية الشعوب والأمم في ظل الحداثة والرأسمالية، ويؤكد دومًا: ” أن أي مشروع للتحرر والديموقراطية لا يمكن أن ينجح من دون استيعاب الذاكرة الجمعية وتفعيلها في الحياة اليومية “.
– الذاكرة الجمعية والهوية:
المشترك ” الذاكراتي” أو الرصيد الجمعي من الخبرات والتجارب الفردية في إطار جماعة معينة يسمى ” ذاكرة جمعية “، وهي بمثابة شرط أساسي لا محيد عنه لوجود هذه الجماعة نفسها، إذ أنها تؤسس لهويتها عبر فعل التذكر الجمعي، وهنا تبرز بجلاء وظيفة الذاكرة الجمعية، وهي تأسيس هوية ” جمعية ” وضمان ديمومتها على اعتبار أن هذه الهوية المشتركة ما هي إلا نتاج لتفسير مشترك للماضي الخاص بهذه الجماعات الاجتماعية، فكل ما يتم تذكره على المستوى الجمعي ما هو إلا تلبية ذاكراتية لمصالح ورغبات جمع معين أو جماعات معينة، والمشاركة التذكرية – الجمعية يعني أن المشارك ينتمي هوياتيا الى هذه الجُمع أو هذه الجماعات، والوظيفة الهوياتية للذاكرة الجمعية لا تجعلها مرتبطة بالمجتمع الذي تعيش فيه ذاكرات الافراد فحسب، بل هي تعبير هوياتي عن سياق مجتمعي وثقافي بل وحتى سياسي يتميز بالانتقائية والمنظورية.
ذلك أن الذاكرة الجمعية لا تستحضر صورة طبق الأصل للماضي بصفة لا هدفية، بل تقوم بإعادة بناء الماضي الجمعي والمشترك بكيفية انتقائية ووفق منظور محدد فهي بهذا المعنى تلبية هوياتية لرغبات الحاضر وتطلعات المستقبل ضمن مجتمع ما، ” فالذاكرة لا تقوم بإعادة إحياء الماضي ببعث الماضي، بل تقوم بإعادة بنائه وتشكيله في زمن الحاضر، فالتذكر هو عملية إعادة بناء الماضي بمساعدة الحاضر “.
على هذه الاسس الهوياتية ورغم محاولات التهميش والإنكار للمكون الكردي في كل من الدولة التركية والايرانية، وما يمر به من ازمات في الدولة السورية وكذلك الوضع الراهن في العراق؛ إلا أن الكرد ساهموا بشكل فعّال في إثراء ثقافة الشعوب الفارسية والتركية من خلال الأدب الشعبي، فقد كانت هناك تأثيرات كردية واضحة في الأدب الشعبي، خاصة في الحكايات والأساطير والأغاني الفولكلورية، وكذلك اللغة والموسيقى بما تحمله الموسيقى الشرقية التركية من نغمات وكلمات وأوزانًا مستمدة من الثقافة الكردية، وقد تداخلت اللهجات والألحان بفعل التعايش الطويل، وأيضاً الطرق الصوفية والدينية فقد ساهم شيوخ التصوف الكرد في نشر الطرق الصوفية، وكانوا رموزًا روحية ساهمت في التشكيل الثقافي والديني للمجتمع العثماني والتركي لاحقًا، ولم يقتصر ذلك على فارس والترك، بل طال التأثير بشكل فاعل وعميق في ثقافة الشعوب العربية، فقد قدّم العرب اللغة والثقافة، بينما قدّم الكرد الروحانية والمساهمة العسكرية والفكرية، وبالتالي فإن محاولة طمس أحد هذه الأدوار يشكل خيانة للحقيقة التاريخية، بما يعكسه من حضور واعي في الذاكرة الجمعية الكردية.
وتُعد الهوية بما تعكسه اللغة والثقافة والمعتقد كلًا سوسيولوجيًا وانثروبولوجيًا مؤثر في الذاكرة، بما يمثله التذكر كفعل اجتماعي تتشاركه الجماعات الجمعية من خلال لغتها ورموزها، حيث ترفض فيه الفصل بين الذات الفردانية والمجتمع، في حالة يتداخل فيها البعد الزماني – التذكار الحي – والبعد المكاني – جغرافيا الموطن – تتشكل على إثره ملامح الاجتماع الانساني وفلسفته وتاريخه الممتد يتخطى الحاضر.
ومن هذا الاطار الجمعي تُستَمَد القوة الجمعية وتنطلق من ركائز المشروعية والأهلية والأولوية، يتم تشكيلها من مضامين الهوية، دون انتقاء او غلبة او توظيف، فالغاية هنا يحركها وعي جمعي وهوية مشمولة بالتقاءات، لا تتناصر فيها قومية على أخرى، ولا تُنتزع فيها حقوق على حساب حقوق أُخر.
– الذاكرة المجتمعية في سياق المدنية الرأسمالية:
تُعَدّ الذاكرة المجتمعية (الجماعية) ركيزة أصيلة يقوم عليها وعي الأمم والشعوب الجمعي، بما تمثله ليس فقط من سرديات انسانية متوارثة، أو مجرد استحضار للماضي، بل هي أداة هامة لإنتاج المعنى، وإعادة بناء الهوية، وصياغة رؤية مشتركة لمستقبل الشعوب والأمم، غير ان المدنية الرأسمالية أحدثت أزمة عميقة أصابت الذاكرة الجمعية لمعظم شعوب الانسانية، ولا غلو في القول؛ أنها اصابت كل الأمم، في ظل هيمنة الرأسمالية الحديثة والدولة القومية، حيث يتم تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى أداة أيديولوجية تُخدِّر المجتمع بدلًا من تحفيزه.
حيث يتحول الفرد في ظل المدنية الرأسمالية الى ” لا فرد ” أي؛ وحدة من وحدات القطيع، يفقد في وسط ذلك التمييز والصلة بالذاكرة المجتمعية، في سياق الانغماس في اللحظة الاستهلاكية دون جذور ولا امتداد، هذا السياق المصطنع يُفرغ الحياة من معانيها، محولا المجتمعات الى حشود موجهة ببساطة نحو خيارات قسرية تنتهي الى كارثة، حيث تعبر كل كارثة عن ذاتها بكارثة أخرى اكثر فتكًا بالحشود والقطعان، إذن، فالأزمة ليست أزمة فردية فحسب، بل هي أزمة ذاكرة جماعية، كما عبر أوجلان: ” حين تنقطع صلة الإنسان بمجتمعه وتاريخه، يصبح عُرضة لكل أشكال التضليل والاستغلال”.
– الذاكرة المجتمعية بين المصادرة والتزييف والإبادة:
إن ما يقدم في هذه الآونة على أنه ” تاريخ قومي ” أو ” ذاكرة وطنية ” ليس سوى قوالب أيديو لوجية مصطنعة، كليشيهات قوموية جاهزة تُفرض على الناس عبر أجهزة الدولة والإعلام، والمواطن عديم الفلسفة المجرد من ملكات التفكير النقدي، المنقطع عن الاستفادة من إرث التجربة التاريخية الانسانية، اللاهث خلف القيم الاستهلاكية المفرغة المحدودة (المنفعة، الملكية الفردية، الاثرة، المتعة اللذية) هو نتاج هذه الذاكرة الموجهة المصطنعة، ويتجلى في ذلك التناقض البيّن بين الترويج لذاكرة قومية، بالأساس حقيقتها أنها ذاكرة انتقائية اقصائية، تخضع للسلطة وسدنتها، وشرعنة النظم القائمة، بما يمثل ذلك أخطر أدوات السيطرة من كونها سجلا يحوي التجارب الانسانية.
وفيما يتعلق بمعنى إبادة الذاكرة؛ لا يقتصر هنا معنى الإبادة على التخلص من الجسد بالقتل والمحو، بل إن مسخ الذاكرة يقود الى إبادة جماعية للهوية والثقافة والوعي، فالتاريخ الانساني يذخر بالعديد من السرديات المتعلقة بشعوب وكيانات انسانية دُمرت ذاكرتها، وبعضها تم إعادة تشكيله قسراً، ما أفقدها قدرتها على الحفاظ على ذاتها الجمعية ومقاومة هذا القسر وهذه الابادة، يتضح في ذلك أنه كلما تم السيطرة على الذاكرة كلما تم الخطو نحو السيطرة على الأرض والموارد والاقتصاد، ومن ثم توجيه مستقبل المجتمعات والسيطرة عليه، فحقيقة القول انه من لا يمتلك سرديته ولا يستحضر تاريخه يغدو فريسة يسهل الهيمنة عليه، في حالة من اللاوجود رغم حضوره الفيزيائي.
وتمثل سياسة الاحتكار لكل من الاعلام والتقنية توجيه اسلحة فتاكة نحو إبادة مجتمعية ممنهجة ومقصودة، بهذه الأدوات يشير أوجلان بانه: ” إذ يُفرغ المجتمع من أخلاقه وقيمه وذاكرته، النتيجة هي حشود بشرية بلا ذاكرة، أقرب إلى قطيع، فاقدة للمعنى والقدرة على المقاومة، بهذا المعنى، تصبح السيطرة على الذاكرة وسيلة أخطر من السيطرة على الأرض أو الاقتصاد، لأنها تحوّل الإنسان إلى مجرد كائن مستهلك، غير واعٍ بوجوده التاريخي “، حيث: ” تُستبدل المجتمعات الحقيقية بـ”مجتمعات افتراضية” مسلوبة الذاكرة، هذه الإبادة ليست جسدية فقط، بل هي رمزية “.
– الذاكرة والعقل الجمعي أداة للمقاومة:
إن استحضار الشعوب والأمم لتقاليدها المطموسة واستعادتها لتاريخها، والقبض بقوة على استعادة ذاكرتها الحقيقية يمثل أداة للتحرر، فالقدرة على إعادة صياغة وبناء سردياتها بالنقد الموجه نحو الروايات المغلوطة المتخذة من الطابع الرسمي وجاهة وتمظهر، وربط الحاضر بجذورها الثقافية وارثها وهويتها، ليس فقط من نابع الحنين الانساني لمآثر الماضي والاجداد، بل نحو فعل سياسي واخلاقي يهدف الى بناء وعي جمعي جديد، مؤسس لعلاقات انسانية أكثر عدلا وشمولا، هذا المعنى يمثل ركيزة من ركائز القوة في مقاومة النزعة الرأسمالية والتي لا تقتصر مواجهتها على الوجهة العسكرية او الاقتصادية، بل التحرر من براثن تزييف وتسليع القيم والشعوب جزء من تحرر الذاكرة. الذاكرة والهوية في مواجهة محاولات الإبادة الثقافية.
والواقع القائم في حال القضية الكردية تتنوع فيه اساليب الصهر والمحو والابادة، والتي لم تتوقف على الجانب العسكري، بل باستعراض العقود الماضية على مدار ما يربو من القرن ويزيد يتضح حجم هذه الابادة على مختلف المستويات، ولولا حضور الوعي لدي ذاكرة الشعب الكردي لَما استمر النضال هذا الأمد، بتنوع اوجهه وصولًا الى نداء السلام الذي ارساه القائد أوجلان، وعلى حد توصيفه لهذه الحالة: ” فطراز القمع والاستغلال المسلط على الهوية الكردية، ليس كطراز القمع والاستغلال الذي تؤديه أية دولة قومية أوروبية مثلا، ذلك أن اساليب الابادة الثقافية الطويلة المدى والمستشرية في كافة الحقول الاجتماعية قائمة في كردستان على قدم وساق “، وهذا ما يدعو الى تحليل مكامن القوة طويلة الأمد لدى العقل الجمعي الكردي في سياقاته المقاومة.
فدومًا ثمة ارتباط وثيق بين الذاكرة المجتمعية وقوة عقلها الجمعي، فقدرة المجتمعات على تجاوز مشكلاتها ومواجهة تحدياتها وتطوير أنماط معيشتها، لا تتم سوى باستيعابها الأواصر الكامنة بين كل من الذكاء البشري وسياقها الاجتماعي الذي به تعيش، وذلك ما أشار اليه اوجلان بأن: ” العقل الجمعي ليس قدرة مجردة، بل حصيلة تراكمية تستند الى خبرة الاجيال “، حيث تتبلور الذاكرة المجتمعية ممثلة آلية توجه الذكاء الانساني في سياقات خبرات متوارثة، باستطاعتها مواجهة التحديات ومقاومتها، والتي إن افتقدتها يتحول الانسان الى كائن يدور في مضمار الخطأ ذاته، لا يستوعب من التاريخ العبر والدروس.
وفيما يتعلق بالذاكرة المجتمعية والاخلاق، يعقد أوجلان علاقة وثيقة في تحديد مدى قوة الذاكرة، حيث يرى أوجلان: ” أن الاخلاق تمثل أعظم خزائن المجتمع ومصدر ثباته واستمراريته “، ففي وجهة نظره انها – الاخلاق – لا تختزل في القواعد السلوكية، بل تراكمات لخبرات جماعية عبر قرون، فبذلك تمثل الأخلاق في الفلسفة الاوجلانية جوهر الذاكرة المجتمعية: ” تحفظ ما تعلمه المجتمع من تجارب، وتعيد توجيهه كلما انحرف عن مساره “، حيث تمثل الاخلاق مركزية الذاكرة المجتمعية المؤثرة في بقاءه أو فناءه، بكونها شرط اساسي لوجود وصيرورة المجتمع وتحديد مصيره، بما لا يدع شك بأنها لا تمثل ترف أو رفاهية فكرية.
– الذاكرة الجمعية والهوية الكردية:
لفهم هوية الشعب الكردي الجمعية، وجب التمعن في الذاكرة التاريخية الكردية كركيزة جوهرية للوصول الى مضمون ذلك، حيث تتمركز الذاكرة الجمعية مكونة آلية دفاعية ضد محاولات الابادة والصهر والانكار الممارسين على الشعب الكردي لعقود طويلة منذ القرن المنصرم، وبذلك يعد الشعب الكردي ليس مجرد جماعة إثنية، بل يمثل الكرد حَمَلة لذاكرة انسانية حضارية لها جذورها التاريخية منذ مهد التاريخ الزراعي في جبال زاغروس، ومع معترك الصهر والانكار ومحاولات الابادة تحولت هذه الذاكرة الجمعية الكردية الى رأسمال رمزي، ومخزون هوياتي، وأداة للمقاومة المتجددة.
ولقد تناول المفكر عبد الله أوجلان في في كتاب “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية ” لجذور الذاكرة التاريخية للشعب الكردي، وتتجلى نظرة أوجلان والتي تشتمل على احاطة العالِم بعمقها الفلسفي واصرار الثوري المناضل، بشروحها وسردياتها باعتبارها – الذاكرة الجمعية التاريخية – منظومة من التجارب التاريخية والخبرات المتراكمة، والتي ساهمت في ابقاء الوعي بالهوية الكردية في صيرورته الى الان نابضًا، بكونها ليست مجرد قصصًا شعبية، أو نصوصًا سردياتية، بل فعل مقاوم ضد المحو والابادة والانكار والصهر، والتي تجابه مقاومة تعيد تعريفها للذات الجمعية ضد الآخر المتسلط، وهذا المعنى الذي رسخه أوجلان مستلهمًا إياه من وحي التاريخ والحاضر الكردي، الذي لا ينفصل عن سياسته أو ثقافته، بل هذا ما يتشكل به الوجود الجمعي الكردي.
– سيوسيولوجية الحرية والذاكرة الجمعية:
كل ممارسة يومية معتمدة على الافكار الخلاقة التي يمثل العقل الجمعي معينها ومنبعها، تمثل سياسة المجتمع التي لا تنفصل عن ذاكرته، إذن حقيقة السياسة هي إعادة تفعيل الذاكرة المجتمعية في حسن صياغة قراراتها بما يحفظ مصالحها المشتركة، في حين انفصال السياسة عن الذاكرة الجمعية تفقد بذلك جذورها، وتصبح أداة بيروقراطية مفتقدة لجوهر المجتمع وروحه المستمدة من أخلاقه وثقافته وهويته.
وينتقد أوجلان بشدة محاولات الدولة المركزية والليبرالية الرأسمالية في تشكيل ” هندسة مجتمعية “، وذلك بواسطة المركزية في التخطيط والسطو عبر الاعلام، في رأيه أن هذه الممارسات تستهدف إعادة صياغة للمجتمعات بما يصب في وعاء السلطة – مسخ الذاكرة الجمعية، ويعزو أوجلان المجتمعات التي تمتلك ذاكرتها الجمعية بناصيتها الى انها تمتلك شيفرات وراثية خاصة بها – تشبه جينات الكائنات الحية – تحفظ ذاكرتها وتمنحها حياة وقدرة على المقاومة، بما تمثله أشبه بجهاز مناعي يحمي المجتمع من محاولات الابادة والمحو.
حيث يرى أوجلان في (سيوسيولوجياه) أن البديل لإعادة صياغة وبناء الذاكرة المجتمعية يكمن في ” إعادة دمقرطة الذاكرة “، وذلك من خلال فتح المجال امام تعددية السرديات، ومشاركة المجتمعات المحلية والمكونات الثقافية في إعادة بناء واحياء تاريخها بعيدا عن القوموية والسوق الرأسمالي، ويؤكد أوجلان ان: ” المجتمع الديموقراطي بمثابة البيئة الأكثر ملاءمة لحماية الذاكرة الجمعية وتفعيلها، فالديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي عملية إحياء للذاكرة المشتركة، بما يضمن التوازن الحقيقي بين الحريات الفردية والجمعية “، ويشير إلى انه: ” من دون ذاكرة مشتركة لا يمكن للمجتمع أن يحقق المساواة على أساس الاختلاف، لأن كل فرد سيُترَك ليعيش في عزلة استهلاكية، بلا جذور ولا روابط، أما حين تُفعَّل الذاكرة، فإنها تخلق تضامنًا حقيقيًا يجعل الحرية الفردية ممكنة داخل إطار جماعي “، ومن ثم يتطلب ذلك:
- إعادة نقد الذاكرة الرسمية الموجهة التي تنتجها مساعي السلطة.
- إحياء الذاكرة الشعبية المحلية المستمدة من سرديات المقاومة والتقاليد المحلية، وتجارب الشعوب والمجتمعات اليومية.
- الدينامية في ربط الماضي بالحاضر، حتى تصبح الذاكرة عنصر قوة فاعل وليس عبئا تقليديا.
- دمج كل من التحرر الديموقراطي بالذاكرة، وجعلها أداة تعزيز للقيم والعدالة والحرية، بدل من كونها اداة هيمنة وإقصاء.
- دمج الأخلاق بالسياسة لجعل الذاكرة مصدرًا يوميًا للقرار الجماعي.
- إعادة بناء الإعلام والثقافة كأدوات لخدمة المجتمع، لا لمسخه.
يتضح بذلك أن أوجلان يقدم في رؤيته السوسيولوجية للحرية رؤية عميقة لمفهوم الذاكرة المجتمعية باعتبارها قلب المشروع الديمقراطي والتحرري، فهي التي تحفظ القيم والأخلاق، وتوجه السياسة، وتحمي المجتمع من الإبادات الرمزية والمادية، إنها ليست ترفًا ثقافيًا، بل شرط وجودي يؤكده أوجلان:” من دونها يتحول المجتمع إلى قطيع فاقد للمعنى، ومن خلالها فقط يمكن بناء مستقبل حر ومتوازن “.
كما يمكن ان نقول أن المفكر عبد الله أوجلان يؤسس لرؤية وسردية فلسفية تتجاوز ضيق البعد القومي، ومن ثم تغدو الذاكرة الجمعية أداة تفكيكية لواقع سلطوية الحداثة، نحو اتجاه بناء أمة ديموقراطية، قائمة على تنوع في إطار الوحدة، تعترف بالتعددية الهوياتية الثقافية والتاريخية في جغرافيا الشرق الأوسط، وبذلك تكون قد اكتسبت طابعًا تحرريًا يتجاوز الحدود الجغرافية ليصبح مشرعًا انسانيًا منفتحًا على مستقبل أكثر ديموقراطية.
……………………………………………………………………………………
المراجع
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الرابع، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” المدنية الرأسمالية ، العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية – عصر الآلهة غير المقَنَعة والملوك الغزاة “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- أوجلان، عبد الله (2018): مانيفستو الحضارة الديمقراطية ” سوسيولوجيا الحرية “، ترجمة: زاخو شيار، المجلد الثالث، ط (3)، مطبعة داتا سكرين، لبنان.
- رشيد، ايناس محمد حسن (2003): الذاكرة الجمعية وبناء الهوية في المجتمع العراقي ما بعد 2003، بحث منشور بمجلة دراسات دولية، العدد 97.
- سوكاح، زهير (2020): مراجعة كتاب الذاكرة الجمعية لموريس هالفاكس، مجلة تبيان، العدد 33.



