ثقافة

المتحف المصرى الكبير هدية القاهرة للعالم

تحليل الكاتب فتحى محمود .. في أول نوفمبر الجارى، شهد العالم حدثا ثقافيا تاريخيا بإكمال افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يعد أحد أبرز المشاريع الثقافية في القرن الحادي والعشرين، هذا المتحف، الذي يقع بالقرب من أهرامات الجيزة، لم يكن مجرد بناء معماري هائل، بل رمزا لإحياء التراث المصري القديم وتعزيز مكانة مصر كوجهة سياحية عالمية، حيث يغطي مساحة تصل إلى 490 ألف متر مربع، منها 110 آلاف متر مربع مخصصة للمعارض الدائمة.

بدأت فكرة إنشائه في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، تحت رعاية الرئيس الراحل حسني مبارك، لكن توقف العمل به لأسباب مختلفة، حتى أعاد الرئيس عبد الفتاح السيسي الاهتمام به وتابع معدلات التنفيذ بنفسه ، وأعلن عنه كجزء من (رؤية مصر 2030) للتنمية المستدامة، وتم تمويل المشروع بتكلفة تقدر بنحو مليار دولار أمريكي، من خلال شراكات دولية مع اليونسكو واليابان والاتحاد الأوروبي، مما يعكس الجهود المصرية لتحويل التراث إلى أصل اقتصادي.

وتكمن أهمية المتحف أولا في دوره كحارس للتراث الفرعوني، حيث يحتوي على أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، معظمها لم يُعرض من قبل، بما في ذلك 50 ألف قطعة من كنوز الملك توت عنخ آمون، التي كانت محفوظة في المتحف المصري القديم بميدان التحرير بالقاهرة، وتشمل هذه القطع التابوت الذهبي الشهير، والقناع الذهبي الذي يزن 11 كيلوجراما، والذي يُعد أيقونة الحضارة المصرية، كما يضم المتحف تماثيل عملاقة لرمسيس الثاني، ومومياوات الفراعنة، ومجموعات كاملة من العصور الوسطى والحديثة للحضارة المصرية.

وهذا التنوع يجعل المتحف ليس مجرد مستودع، بل مركزا للبحث العلمي، حيث يحتوي على مختبرات متقدمة للترميم والتحليل الجيني، مما يساهم في دراسات حديثة حول الـDNA الفرعوني والتكنولوجيا القديمة.

ثانيًا، يمثل المتحف قفزة معمارية وثقافية، فقد صُمم على يد المهندس المعماري المصري حامد حسن، بأسلوب يجمع بين التراث الفرعوني والحداثة، حيث يشبه الهرم الكبير في تصميمه الخارجي، مع سقف زجاجي يسمح بدخول الضوء الطبيعي ليبرز جمال القطع الأثرية، ويعيد المتحف التركيز على الهوية المصرية في زمن التحديات الجيوسياسية، مثل الصراعات في الشرق الأوسط، حيث يصبح الثقافة أداة للدبلوماسية الناعمة.

ثالثًا، أهميته الاقتصادية والاجتماعية لا تُحصى، فخلال مرحلة البناء، خلق المتحف آلاف الوظائف، وأدى إلى تطوير البنية التحتية في الجيزة، بما في ذلك الطرق والفنادق، وبعد الافتتاح، يُتوقع أن يجذب 5 ملايين زائر سنويا في السنوات الأولى، مما يعزز الاقتصاد المحلي، يشجع على التعليم، من خلال برامج تعليمية تفاعلية باستخدام الواقع الافتراضي (VR) والذكاء الاصطناعي، مما يجعل الزيارة تجربة غامرة للأجيال الشابة.

إن السياحة تمثل عماد الاقتصاد المصري، حيث تساهم بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوظف ملايين الأشخاص، وقبل جائحة كورونا، بلغ عدد السياح 13 مليونا سنويا، لكن المتحف المصري الكبير سيقوم بدور جديد في انتعاش السياحة، ودوره في الترويج يتجاوز الجذب السياحي التقليدي، إذ يدمج التراث مع الابتكار ليصبح مصر وجهة عالمية مستدامة.

ويعزز المتحف الجذب السياحي من خلال موقعه الاستراتيجي، حيث يقع على بعد دقائق من الأهرامات، مما يخلق ممرا سياحيا متكاملا، يبدأ الزائر بالأهرامات، ثم ينتقل إلى المتحف لاستكشاف السياق التاريخي، وهذا الربط يطيل مدة الإقامة السياحية، حيث يُتوقع أن يزيد المتوسط من 7 إلى 10 أيام، مما يعني إنفاقًا أكبر على الفنادق والمطاعم.

كما يدعم المتحف السياحة الثقافية المستدامة، بخلاف المتاحف التقليدية، ويركز على التفاعل من خلال معارض تفاعلية تسمح للزوار بإعادة بناء الأهرامات عبر الشاشات اللمسية، أو استكشاف المقابر الافتراضية، ويشمل حدائق خارجية ومسرحا مفتوحا للعروض الثقافية، مما يجذب السياح الشباب والعائلات.

ويلعب المتحف دورا إقتصاديا كبيرا، فمن المتوقع أن يحقق المتحف إيرادات تصل إلى 1.5 مليار دولار سنويا من تذاكر الدخول، بالإضافة إلى المتاجر والمطاعم، وهذا يعزز التنمية المحلية ويؤدى إلى بناء فنادق جديدة، كما يشجع على الشراكات الدولية، مثل بروتوكول مع المتحف البريطاني لإعادة القطع الأثرية، مما يعزز صورة مصر كشريك ثقافي.

ويساهم المتحف في الدبلوماسية الثقافية، حيث أقيمت بمناسبة الافتتاح، معارض مؤقتة لقطع من اللوفر والمتحف الأمريكي للطبيعة، مما يعزز التبادل الثقافي، وهذا يجعل مصر لاعبا رئيسيا في شبكة المتاحف العالمية، ويروج للسياحة كأداة للسلام، خاصة في ظل التوترات الإقليمية.

وعلى المستوى الاجتماعي، يعزز المتحف الفخر الوطني، ويدرب آلاف الشباب المصريين كمرشدين سياحيين، مما يقلل من البطالة الشبابية التي تصل إلى 25%.، وكذلك التركيز على الاستدامة البيئية من خلال استخدام الطاقة الشمسية في بنائه.

إن الحضارة الفرعونية، التي امتدت لأكثر من 3000 عام (من 3100 ق.م. إلى 30 ق.م.)، تُعد واحدة من أقدم وأعظم الحضارات البشرية، ولا يزال الاهتمام بها عالميا هائلا، كما يتجلى في الزخم حول افتتاح المتحف المصري الكبير، وهذا الاهتمام ليس مصادفة، بل نتيجة عوامل تاريخية، ثقافية، علمية، ونفسية عميقة.

وعلى رأس هذه العوامل العنصر التاريخي والأثري، مثل اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في 1922 على يد هوارد كارتر أثار وظهور الحديث عن لعنة الفراعنة في الإعلام، وأصبح رمزًا للغموض، وكذلك الأهرامات، التي بنيت كمقابر للفراعنة مثل خوفو، وتُعد إنجازا هندسيا يفوق الخيال، حيث نقلت 2.3 مليون كتلة حجرية دون عجلات.

وشكلت الحضارة الفرعونية الثقافة الغربية منذ عصر النهضة، حيث رسم ليوناردو دا فينشي مستوحى من التماثيل المصرية، وأصبحت رمزًا في الأدب، كما في روايات أجاثا كريستي “موت على نيل”، و في هوليوود، أفلام مثل “الأمومياء” (1999) و”إكسبيديشن” حققت إيرادات مليارات، مما جعل الفراعنة أيقونات شعبية، وحتى في الموضة، استخدمت كرستيان ديور رموزا فرعونية في مجموعاتها.
وهذا الانتشار الإعلامي يجعل الحضارة “عالمية”، حيث يزور ملايين الأوروبيين مصر سنويًا لـ”اللمسة السحرية”، كما وصفها الشاعر الألماني جوته.
ومن الناحية الفلسفية فإن الفراعنة آمنوا بالحياة الأبدية، كما في كتاب الموتى، الذي يصف رحلة الروح عبر العالم السفلي، والاهتمام النفسي يأتي من الغموض: المومياوات، التي حُفظت بتقنيات كيميائية متقدمة، ترمز للخلود، مما يجذب الفلاسفة مثل نيتشه الذي رأى فيها نموذجًا لـ”الإنسان الأعلى”. وفي العصر الحديث، أصبحت الحضارة موضوعًا للدراسات الجينية، حيث كشفت تحاليل DNA لرمسيس الثالث عن أصول أفريقية مختلطة، مما يغذي نقاشات الهوية العرقية.
وتمتلك المتاحف العالمية مثل البريطاني آلاف القطع المصرية، مسروقة في القرن التاسع عشر، مما يثير حملات “إعادة التراث”، كما في حالة حجر رشيد، وهذا يجعل الفراعنة أداة للدبلوماسية، حيث تستخدم مصر معارض متنقلة لجذب الاستثمارات، كما أن السياحة الفرعونية تحقق إيرادات عالية، مع حملات مثل (Visit Egypt) التي تربطها بالتغير المناخي، إذ تهدد ارتفاع مياه النيل الأقصر.
وفي عصر الإنترنت يحقق محتوى الفراعنة ملايين المشاهدات على تيك توك ويوتيوب، مع نظريات المؤامرة حول الأسلحة الفرعونية، وعلميا، تُدرس تقنيات التحنيط في الطب الحديث، والهندسة الفرعونية في الفضاء (ناسا استخدمت نماذج أهرامات للدراسات الجيوفيزيائية)، وهذا الاهتمام يتجاوز الحدود، حيث يُقام مهرجان (أفيستيفال دي ليجيبت) في فرنسا سنويًا، يجذب 100 ألف زائر.
إن الاهتمام بالحضارة الفرعونية ينبع من مزيج الغموض والإعجاز، الذي يعكس تطلع الإنسان للأبدية، ويعزز المتحف المصري الكبير بإفتتاحه الآن هذا الاهتمام، محولا إياه إلى قوة دافعة للسياحة والثقافة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى