دراسات

ما بعد البارود.. فضاء الحل السياسي بين الكلمات والمفاوضات

تحليل: د. أحمد محمد إنبيوه .. لأول وهلة تبدو مرحلة ما بعد السلاح ضبابية خالية من خريطة واضحة للوصول لحافة السلام السلس للكرد في الفضاء التركي. لكن بالاقتراب قليلا يختفي الضباب وتضحي الصورة أكثر وضوحًا. في هذا الإطار يمكن البدء بتفكيك المشهد الجيوسياسي، وصولا لوضع تصور ما. مثلت دعوَةُ عبد الله أوجلان من سجن إمْرالي إلى وضع السلاح وحلّ البنية العسكرية لحزب العمال الكردستاني، نقطة مفصلية رمزية وعملية في صراع امتدّ لأربعين سنة تقريبًا. فعلى مستوى الرمزية، تأتي هذه الدعوة من مؤسّس ومنظر الحركة، وهو ما يمنحها ثِقلاً داخليًا داخل الحقل الكردي؛ وعلى مستوى الواقعية، فإن فعالية الدعوة تعتمد على آليات التنفيذ والضمانات التي تَجعل من التحوّل خطوة قابلة للاستمرار وعدم العودة إلى العنف.

في فبراير 2025، وجّه عبد الله أوجلان، نداءً تاريخيًا من خلال رسالة دعا فيها التنظيم الذي أسّسه إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه. في الواقع، لم تكن هذه المرة الأولى التي يدعو فيها أوجلان الحزب إلى إنهاء كفاحه المسلح، لكنه في بياناته السابقة كان يدعو إلى وقف العنف وإيجاد حلّ سياسي للمسألة الكردية في تركيا. أما هذه المرة، فقد وجّه كلماته حصريًا إلى حزب العمال الكردستاني، متجاوزًا مجرد الدعوة إلى وقف العمل المسلح، ليطالب بحلّ التنظيم نفسه بالكامل. ورغم أن هذا التطور يُعدّ نقطة تحوّل تاريخية، فإن ثمة فجوة واضحة في الطريقة التي فَسّر بها كل من الحكومة التركية والجماعات الكردية مضمون الرسالة ودلالاتها. فبينما يرى حزب العدالة والتنمية الحاكم في الرسالة إعلانًا نهائيًا لانتصار الدولة التركية على التمرّد الكردي، يميل التيار السياسي الكردي إلى قراءتها كتطور طبيعي للمقاومة الكردية نحو مرحلة جديدة بالكامل من التعايش المشترك وفق أسس الديمقراطية التشاركية، المؤسسة في جزء معتبر منها علي أفكار أوجلان.   

حقيقة، لا يزال عبد الله أوجلان شخصية محورية ومؤثرة في ديناميات الشرق الأوسط الإقليمية، وذلك رغم ظروف الاعتقال القاسية والعزلة الطويلة، لا يزال قادراً على توجيه دفة جهود حلّ أحد أطول النزاعات القائمة، وإغلاق صفحة التوتر المزمن بين الدولة التركية والكرد. ومن المهم الإشارة إلى أن دعوات أوجلان الأخيرة للسلام وإنهاء الكفاح المسلح ليست جديدة. فمنذ سجنه في إمرالي، وأثناء محاولات سابقة للوساطة مع السلطات التركية، ظلّ موقفه الداعي إلى المصالحة والتسوية السياسية ثابتًا لا يتزحزح، حتى بات يُشار إليه في كثير من الأوساط بوصفه مانديلا الشرق الأوسط”.  وفي منطقةٍ تتصاعد فيها التوترات بين القوى العالمية، وتشتعل فيها الحروب المحرّكة بالمصالح والهيمنة الديموغرافية التي تمارسها الدول المركزية، حيث يسود الخطاب الأمني والعسكرة السياسةَ السيادية، تبدو مقترحات أوجلان – التي تدعو إلى نزع السلاح طوعًا من دون ضمانات دستورية معلنة أو عفوٍ شامل أو التزامات واسعة لبناء السلام – جريئة وبالغة التواضع في آنٍ واحد. وتأتي في وقتٍ تخيّم فيه مشاعر القلق الوجودي على مجتمعاتٍ كثيرة في المنطقة.

لقد حملت هذه اللحظة دلالات تتجاوز كونها تطورًا مفصليًا في موازين السياسة الواقعية، إذ مثّلت، بالنسبة لملايين الكرد ودعاة الحل السلمي والديمقراطي للقضية الكردية في تركيا – والذين ناضل كثير منهم لسنوات من أجل حرية أوجلان بوصفها شرطًا مسبقًا لأي حوار جاد وجهود سلام حقيقية – ثمرة عقود من العمل السياسي والقانوني والدبلوماسي حول هذه القضية. ففي بيانه الصادر تحت عنوان «دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي»، يعرض أوجلان قراءة استراتيجية لمسار الحراك الكردي–التركي من منظور ينطلق من التحوّل الفكري والاستراتيجي وليس مجرد وقفة عسكرية. فهو يرى أن تأسيس حزب العمال الكردستاني (PKK) جاء «في القرن العشرين، في أقسى حقبة عنفٍ في تاريخ الإنسانية… ظلّ إنكار الواقع الكردي، وتقييد الحريات – خصوصاً حرية التعبير – يلعبان دورًا رئيسيًا في نشأته. من هذا المنطلق، يعترف أن الخيار العسكري لم يُعد مجدٍ سياسياً، ويُقدّم بديلًا يتمثّل في «المجتمع الديمقراطي» كمسار لا بديل له: «لا بديل للديمقراطية في السعي وإقامة نظام سياسي. وهذا التحول الفكري يُعدّ نقطة محورية لفهم دعوته لنزع السلاح وتحويل الحركة إلى إطار سياسي ومدني.

ومن بين الأفكار الجوهرية التي يطرحها أوجلان في هذا النص تتثمل في: أولًا، الاعتراف بالهوية الكردية كجزء لا يتجزّأ من الصراع السياسي، إذ يرى أن إنكارها كان من أهم عوامل تشكّل الحركة المسلحة. ثانيًا، إعادة بناء العلاقة التاريخية بين الكرد والأتراك ليس باعتبارها صراعًا أبدياً، بل باعتبارها «تحالفاً طوعياً» عبر ما يزيد على ألف سنة، وأن العصر الحديث – عبر بروزه الحداثي والرأسمالي – كسر هذا التحالف وجعله هشاً. ثالثًا، دفع أوجلان للمضي نحو حلّ بنيوي: فهو لا يكتفي بوقف العنف، بل يدعو إلى حلّ البنى العسكرية للحركة، قائلاً إنّ «جميع المجموعات يجب أن تضع السلاح وPKK يجب أن تذوب نفسها. بهذا، يقدّم أوجلان مانِيفِستو ليس فقط لإنهاء الحرب وإنما للانتقال إلى «المجتمع الديمقراطي» الذي يُؤسس على المشاركة، والاعتراف، والتحوّل من منطق الدولة–القومية إلى منطق المواطنة والمجتمع. إن الفكر الذي طرحه أوجلان يُولّد تلقائيًا ضرورة وجود إطار تشريعي وتنفيذي يكفل هذا التحول، ولا يكفي أن يتم الإعلان فقط. هنا يتّضح دور البرلمان التركي واللجنة البرلمانية الخاصة بمتابعة نزع السلاح، التي أُنشئت في أغسطس 2025. ففي ضوء فكرة أوجلان بأن «الديمقراطية هي الأساس» وأن «مجتمع السلام» لا يمكن أن يُقام بلا اعتراف قانوني وسياسي، فإن اللجنة مطالَبة بوضع تشريعات محددة، منها تعديل قوانين الإرهاب لتوسيم العنف بدقة، وإقرار قانون حصانة مؤقتة للعناصر السابقة، وإطار إعادة إدماج اجتماعية ومهنية. على سبيل المثال، تعديل تعريف الإرهاب يعكس فكرة أوجلان بأن القنوات السياسية كانت مسدودة، وأن التسوية تتطلب فتح المجال السياسي وليس الاقتصار على الأمن. بالتالي، يتضح الربط الفكري بين مانِيفِستو أوجلان والإجراءات التشريعية. إذ يضع الخطاب في «الواجهة» شعار (التحول إلى مجتمع ديمقراطي). وبهذا، يمكن أن تكون اللجنة على طريق التشريع والتنفيذ. إلا أنّ إمكانية النجاح لن تعتمد فقط على التشريعات، بل على الوفاء بالضمانات التي تتطلّبها الفكرة: من فتح قنوات سياسية، توسيع المشاركة، احترام الحقوق الثقافية، والتزام الدولة بـ«لغة السلام» التي ذكرها أوجلان. ومن دون هذه الضمانات، سيبقى التحوّل معرضًا للانكسار رغم الرمزية الهائلة التي صاحبت انطلاقة الدعوة. وبذلك، يتحول  المانِيفِستو وأجندة التشريع من مجرد أحداث زمنية منفصلة، إلى أجزاء من عملية بنائية مُركّبة تطمح إلى إصلاح جذري لعلاقة الدولة بالمجتمع الكردي، وتحويل نموذج الصراع إلى نموذج مشاركة ديمقراطية . وهو ما وصفه أوجلان بأنه “لا بديل للديمقراطية”.

بداية سبقتها بدايات

ليس الحوار بين الدولة والحزب بالأمر الجديد. فمنذ عام 1999 حتى 2005، أجرى مؤسس الحزب وزعيمه المعتقل عبد الله أوجلان لقاءات مباشرة مع مسؤولين عسكريين أتراك. غير أن تركيا آنذاك فشلت في استثمار الرغبة التي أبدتها قيادة الحزب في التوصل إلى تسوية. في عام 2009، أطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية (AKP) ما عُرف باسم “الانفتاح الديمقراطي” أو “المبادرة الكردية”. وقد تحدث كبار المسؤولين، بدءاً من الرئيس ورئيس الوزراء، بصراحة عن وجود “قضية كردية”، وكُسرت العديد من المحظورات. أنشأت الحكومة قناة تلفزيونية رسمية ناطقة بالكردية في مطلع 2009، وسمحت للمؤسسات الخاصة بتدريس اللغة الكردية في ديسمبر من العام نفسه. وبين سبتمبر 2008 و2011، جرت سلسلة من الاجتماعات – على ما يبدو في أوسلو – بين ممثلين رفيعي المستوى من جهاز الاستخبارات الوطني التركي (MIT) وقيادات بارزة من الحزب مثل زبير آيدار وصبري أوك ورمزي كارتال وآدم أوزون، بوساطة دولية. وقد طلب الجانب التركي من الحزب قائمة بمطالبه، وانتهت المحادثات إلى إعداد ثلاثة بروتوكولات.

إلا أن ما عُرف بـ “عملية أوسلو” تعثّر بسبب غياب الثقة ووحدة الهدف والتحضير الشامل. فقد اعتُبرت الحكومة غير صادقة بعد موجة اعتقالات في أبريل 2009 طالت كردًا اتُهموا بالارتباط باتحاد الجماعات الكردستانية (KCK)، المظلة التنظيمية للحركة الكردية. وقد اعتُقل الآلاف من الكرد، بينهم رؤساء بلديات منتخبون وناشطون سياسيون ومحامون وطلاب، رغم أن كثيرين أُفرج عنهم لاحقاً بانتظار المحاكمة. انهارت عملية أوسلو في صيف 2011، قبيل الانتخابات البرلمانية في 12 يونيو، بعد هجوم في 14 يوليو قتل فيه ثلاثة عشر جندياً تركياً في منطقة سيلفان بمحافظة ديار بكر. وألقى الحزب باللوم على “عناصر محلية خارجة عن السيطرة”، بينما اتهم قياديون آخرون الحكومة التركية بأنها تسعى إلى إشعال حرب شاملة. واستمر القتال حتى إعلان الحزب وقفاً أحادياً لإطلاق النار في مارس 2013، أودى بحياة نحو 920 شخصاً، 90% منهم من المقاتلين، ومعظمهم من الحزب. ورغم فشل المحاولات السابقة، شعر الطرفان بالحاجة إلى إبقاء باب الحوار مفتوحًا. ففي ديسمبر 2012 أعلن رئيس الوزراء أن جهاز الاستخبارات يتواصل مباشرة مع أوجلان. وتُعرف هذه المرحلة من المفاوضات بأسماء مختلفة: “عملية السلام”، أو “عملية الحل”، أو “عملية إمرالي” نسبة إلى الجزيرة التي يُسجن فيها أوجلان منذ 1999. وقال بشير أتالاي، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية والمسؤول عن ملف السلام بين 2009 و2014، إن هذه المحادثات تمثل “استمراراً لتحول النموذج الذي بدأ عام 2005”. ولأول مرة، زار أعضاء من الحزب الكردي الرئيسي جزيرة إمرالي، كما التقوا بقيادات الحزب في جبال قنديل والشتات الكردي في أوروبا.

منذ البداية، طالبَت الحركة القومية الكردية بوضع إطارٍ قانونيٍ للمفاوضات. ففي تسجيلاتٍ مسرّبة يُزعم أنها تعود إلى “عملية أوسلو” عام 2011، اعترف أحد المسؤولين الأتراك بأن تبادل الوثائق المكتوبة الذي سهّلته الحكومة بين أوجلان وأعضاءٍ آخرين من حزب العمال الكردستاني (PKK) كان غير قانوني في ذلك الوقت. وقد برزت خطورة هذا الوضع في مارس 2012 حين حاول جناحٌ مناهضٌ لعملية السلام داخل الدولة التركية فتح تحقيق مع رئيس جهاز الاستخبارات الوطنية، هاكان فيدان، الذي كان يقود الجانب التركي في المحادثات. وفي 8 فبراير 2014، هدّد أوجلان بإنهاء العملية إذا لم يتم التوصل إلى إطارٍ قانوني. وتحرّكت الحكومة لاحقاً لتتحمل مسؤوليةً أكثر علنية عن عملية السلام، فطرحت في أبريل 2014 مشروع قانونٍ ينظم أنشطة جهاز الاستخبارات الوطنية، وبموجبه أقرّ البرلمان لأول مرة مشاركة الجهاز في المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني. وفي يوليو، أقرّ البرلمان قانوناً يمنح الحكومة صلاحية معالجة القضية الكردية ويوفر الحماية القانونية لجميع الموظفين العموميين المشاركين، مما أرسى للعملية أساساً قانونياً أكثر صلابة. وصرّح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية بشير أطالاي بأن الحكومة ستُعد لاحقاً الإطار القانوني لعودة المسلحين.

وقد لاقت هذه الخطوات ترحيباً من الجانب الكردي. فعندما زار نوابٌ مؤيدون للكرد أوجلان في 10 يوليو، شكر كل من دعم ما سماه “قانون الإطار للمفاوضات”، واعتبره “بدايةً إيجابية لتأسيس سلامٍ كبير”. كما أشاد أحد قادة حزب العمال الكردستاني/منظومة المجتمع الكردستاني (PKK/KCK) بالمبادرة، لكنه دعا المشرّعين الأتراك إلى التوقف عن استخدام لغةٍ تختزل المشكلة في “الإرهاب” وحده. وقال أحد السياسيين الكرد المؤيدين: “إنه لأمر بالغ الأهمية أنه بعد تسعين عاماً من الإنكار والعقلية التدميرية، بدأت تركيا تناقش القضية عبر البرلمان. لا شيء أثمن من ذلك… لكن علينا أن نُغني مضمون هذا القانون من خلال السياسة الديمقراطية”. وجاءت الخطوة التالية نحو إنشاء إطارٍ قانوني في 1 أكتوبر 2014، عندما أنشأت الحكومة آليةً رسمية لتقييم وتحديد خطط العمل ومتابعة التقدّم. وتتكون هذه الهيئة من جهازٍ حكومي بحت، يرأسه رئيس الوزراء أو أحد نوابه، ويضم نحو عشرة وزراء آخرين. وتشرف على إحدى عشرة لجنة فرعية معنية بـ “المتابعة والتقييم”، تعمل في مجالاتٍ تشمل نزع السلاح، والعودة، والدبلوماسية العامة، ويمكنها التعاون مع الحكومات المحلية والمجتمع المدني. ومع ذلك، فقد جاءت هذه الخطوة كمبادرةٍ أحادية من حزب العدالة والتنمية، وليست نتيجة توافقٍ مشترك، وتضم بشكلٍ رئيسي ممثلين عن الحكومة دون الطرف الآخر. ومع هذا، وصف صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك لحزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، هذه “خريطة الطريق” الجديدة بأنها “تطور إيجابي” و”وثيقة بالغة الأهمية”.

وقال أحد قادة الحركة الكردية: “على الطرفين أن يعترفا ببعضهما، وأن يسمّيا المشكلة باسمها الحقيقي، وأن يجلسا إلى طاولة التفاوض كندّين. لكن قيادتنا – أوجلان – يقبع وحيداً في السجن، يجري الحوار مع الدولة بمفرده. هكذا لا تُدار المفاوضات. فكما أن للدولة وفداً تفاوضياً، يجب أن يكون للكرد وفدٌ مماثل”. ورغم أن تركيا كانت ترى في أوجلان المفاوض الوحيد باسم حزب العمال الكردستاني، إلا أنها رأت أنه بالإمكان إيجاد سبلٍ لتلبية هذا المطلب. فوجود فريقٍ كرديٍ موحد يضم أوجلان وممثلين عن مقاتلي الحزب وأفراداً من الشتات الكردي في الخارج من شأنه تسريع العملية وجعلها أكثر اتساقاً. كما طالبت منظومة المجتمع الكردستاني بوجود رقابةٍ خارجية على العملية، وربما من خلال لجنةٍ دوليةٍ مستقلة، لمتابعة تنفيذ أي اتفاقاتٍ رسمية. وقد ألمح حزب الشعوب الديمقراطي إلى إحراز بعض التقدم في هذا الشأن مع الحكومة، لكن لم يتم بعد التوصل إلى اتفاق حول هوية الأطراف التي ستشارك في هيئة المراقبة هذه. وقد أظهر فشل عملية السلام بين عامي 2013 و2015 المشكلات التي تنشأ عندما تُسعى هذه الأهداف المترابطة ولكن المختلفة في الوقت ذاته بشكل متزامن. لم تكن تعددية استراتيجيات وأطراف ومحاور وأولويات الحركة الكردية السبب المباشر لانهيار العملية، لكنها كانت عاملاً جوهريًا في تفسير المعضلات التي واجهتها الحركة في تلك الفترة.

ومع تقدّم المحادثات، أعلن حزب العمال الكردستاني وقفًا لإطلاق النار في مارس 2013 وسحب مقاتليه من الأراضي التركية. لكنّ هذه الخطوة لم تُقابل بأي إصلاحات ملموسة من جانب الحكومة التركية، باستثناء قانون يمنح حماية قانونية للمسؤولين الذين يتولّون إدارة المحادثات مع الحزب. انتهت العملية فعليًا بعد الانتخابات العامة في يونيو 2015، عندما فقد الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) الأغلبية المؤهِّلة لتشكيل حكومة بمفرده. واستغل الحزب فترة الاضطراب السياسي لترويج خطاب قومي ركّز على «أمننة» القضية الكردية، مما ساعده في استعادة تأييد القواعد القومية المتشددة. ومع ذلك، لم يكن تراجع نجاح الحزب الانتخابي وحده سبب انهيار المفاوضات؛ فقد انهارت العملية بفعل مزيج من العوامل، شملت انعدام الثقة بين الجانبين، واختلاف تصوّراتهما لقوة كل طرف عسكريًا وسياسيًا، والتباين بين الخطاب والممارسة، وضعف آليات التفاوض، إضافة إلى دور بعض الأجنحة المعرقلة داخل الدولة التركية، وتأثير التطورات الإقليمية. أدّى انهيار المحادثات إلى كارثة إنسانية بالنسبة للسكان الكرد، بدأت بردّ مفرط من الحكومة على تحدّي الحركة الكردية لاحتكار الدولة للعنف المشروع. خلال عملية السلام، أدّت الضغوط المكثفة من قوات الأمن التركية على الشباب الكرد وقتل عدد من النشطاء العُزّل إلى دفع الشباب الكردي لتأسيس مناطق محظورة على الدولة. وردّت الأجهزة الأمنية باستخدام أسلحة ثقيلة، بما في ذلك المدفعية والغارات الجوية على مراكز حضرية مثل شرناق، نصيبين، سور، جزرة، سيلفان، وسيلوبي، ما أسفر عن مقتل الآلاف وتدمير أحياء بأكملها في مدينتَي سور ونصيبين على الأقل. واصلت الدولة بعدها تجريم السياسة الكردية على نطاق أوسع، فأغلقت عشرات وسائل الإعلام الكردية، وأقالت أكثر من 100 رئيس بلدية كردي واستبدلتهم بمندوبين حكوميين، كما اعتُقل آلاف من أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي عقب انهيار العملية.

إذن، سبق أن أطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية عمليتين للسلام بين الدولة وحزب العمال الكردستاني — الأولى بين عامي 2009 و2011، والثانية بين عامي 2013 و2015 — انتهتا كلتاهما بالفشل، ما أدى إلى تصاعد موجات العنف. وقد أسهمت تلك التجارب السابقة في تشكيل الحذر الشديد الذي تتسم به مقاربة الحكومة والفاعلين الكرد، وكذلك الرأي العام اليوم. وقد جاء أول مؤشر علني على العملية التي أفضت إلى نداء أوجلان بشكل غير متوقع من دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية اليميني المتطرف (MHP) والحليف الرئيس في ائتلاف أردوغان الحاكم. ففي 22 أكتوبر 2024، أدلى بهتشلي بتصريح لافت دعا فيه أوجلان إلى أخذ زمام المبادرة لإنهاء حزب العمال الكردستاني. واقترح أن يتوجّه أوجلان إلى البرلمان التركي لإعلان حل الحزب طوعًا، مقابل الاستفادة من حقه القانوني في مراجعة حكمه بالسجن. كان ذلك تحولًا مفاجئًا من حزب الحركة القومية الذي عارض بشدة جميع محاولات السلام السابقة. لكن في الواقع، تشير المعطيات إلى أن العملية كانت قد بدأت بالفعل قبل ذلك بعدة أشهر عبر مفاوضات غير معلنة بين أوجلان والدولة، وأن تصريح بهتشلي جاء فقط بعد بلوغ المحادثات مرحلة متقدمة. وخلال العملية، اضطلع بهتشلي بدور المتحدث السياسي الرئيس باسم الحكومة وضامنها السياسي، بما ساعد على احتواء أي ردّ فعل قومي متشدد.

وفي الوقت نفسه، اتخذت الحكومة إجراءات استباقية لتحييد المعارضة القومية المتطرفة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك اعتقال السياسي اليميني البارز أوميت أوزداغ قبل أن تكتسب عملية السلام زخمًا. ففي 20 يناير 2025، ألقت السلطات القبض عليه بتهمة إهانة الرئيس، وفي اليوم التالي وجّهت إليه تهمة التحريض على الكراهية العامة عبر خطاب تمييزي ضد اللاجئين السوريين. ورغم أن هذه التهم لم تكن مرتبطة رسميًا بعملية السلام، فإن احتجازه حال دون قدرة الفصائل القومية على حشد معارضة جدّية لأي تسوية محتملة مع الحزب. وتُظهر هذه الخطوة سمة مميزة للعملية الحالية: بخلاف عمليات السلام السابقة التي قادها حزب العدالة والتنمية، لم تُطرح هذه العملية في إطار مشروع أوسع للديمقراطية، بل تجري في ظل مرحلة يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها الأكثر تسلطًا في التاريخ السياسي الحديث لتركيا.

في أعقاب تصريح بهتشلي، شُكّلت لجنة من شخصيات كردية بارزة لتيسير التواصل بين أوجلان والدولة. وقد زارت اللجنة أوجلان عدة مرات في السجن لمناقشة شروط ومضامين نداءه لإنهاء الصراع، كما أجرت لقاءات مع مسؤولين حكوميين وأطراف سياسية أخرى للتفاوض حول الإطار العام لعملية السلام. وجاء مضمون رسالة أوجلان المؤرخة في 27 فبراير ليعكس التفاهمات التي تم التوصل إليها خلال تلك اللقاءات، مما يشير إلى أنها لم تكن مبادرة فردية منه، بل نتاج تسوية تفاوضية أوسع.

لماذا الآن؟ الحسابات والمصالح

تخلى الرئيس رجب طيب أردوغان عن عملية السلام السابقة مع الكرد عام 2015 بعد أن خسر حزب العدالة والتنمية (AKP) أغلبيته البرلمانية ورفض حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) المؤيد للكرد دعم مسعاه لإقرار نظام رئاسي تنفيذي أكثر قوة. وبشكل مفاجئ، انتقل أردوغان إلى موقف قومي متشدد وعدائي تجاه الكرد، وأقام لاحقًا تحالفًا مع التيار اليميني المتطرف في تركيا. وقد مكّنه هذا التحالف القومي، المدعوم بموارد الدولة وبالتحول نحو الحكم السلطوي، من الفوز في عدة انتخابات لاحقة. لكن مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، بدأت قدرة هذا التحالف على ضمان استمرار قبضته على السلطة تضعف تدريجيًا.

نجا أردوغان من انتخابات 2023 بفضل سياسة إنفاق ضخمة وأخطاء استراتيجية ارتكبتها المعارضة — أبرزها اختيار مرشح يفتقر إلى الكاريزما — إلا أن شعبيته واصلت التراجع. وفي الانتخابات المحلية لعام 2024، تراجع حزب العدالة والتنمية إلى المرتبة الثانية للمرة الأولى، ما كشف هشاشة التحالف الحاكم. وأمام هذا الواقع، يجد أردوغان نفسه مضطرًا لتوسيع قاعدته السياسية. لم يعد أردوغان مجبرًا على الاختيار بين الدعم الكردي والدعم القومي التركي المتشدد. فهو، وقد شغل منصب الرئاسة منذ عام 2014، محظور دستوريًا من الترشح لفترة جديدة إلا في حال تعديل الدستور، وهو ما يتطلب إما أغلبية الثلثين لتمرير التعديل مباشرة في البرلمان، أو دعم ثلاثة أخماس النواب على الأقل لعرضه في استفتاء شعبي. لكن أردوغان يفتقر إلى الأرقام اللازمة لكلا الخيارين، وحتى لو تمكّن من تأمين دعم كافٍ للاستفتاء عبر المناورات السياسية، فإنه لا يملك حاليًا التأييد الشعبي الكافي للفوز به. وبعد أن أنهى عملية السلام السابقة لتعزيز سلطته، يسعى الآن إلى إحيائها لتمديد بقائه في الحكم. إلا أن الوضع اليوم يختلف جذريًا عن عام 2015؛ فحزب الحركة القومية (MHP) بات مكوّنًا أساسيًا في تحالفه الحاكم، ما يعني أن أردوغان لم يعد مضطرًا للاختيار بين دعم القوميين ودعم الكرد. لقد استوعب العناصر القومية داخل النظام ذاته، وضَمِن ولاءها عبر مزيج من القمع والحوافز السياسية. وهكذا، يدخل العملية هذه المرة من موقع أقوى وأكثر ثقة.

توفر عملية السلام الكردية لأردوغان أيضاً ميزةً استراتيجية متعددة الأبعاد، تجمع بين أولويات الأمن القومي من جهة، والطموحات السياسية والإقليمية من جهةٍ أخرى. فمن خلال التصدي لهذا التحدي التاريخي، يبدو أن أردوغان يسعى إلى تعزيز موقعه السياسي الداخلي في الوقت الذي يناور فيه داخل البنية الحكومية المعقدة لتركيا ويسعى لترسيخ نفوذها الإقليمي. ومن ثم، يمكن أن تخدم المبادرة الكردية أهداف تركيا الداخلية العاجلة وكذلك تطلعاتها الخارجية. وعلى الصعيد الداخلي، يستند نهج الحكومة التركية وأردوغان في التعامل مع عملية السلام الكردية إلى عاملين رئيسيينتسوية صراعٍ داخليٍ طويل الأمد وتحقيق تثبيتٍ سياسيٍ متجدد. تسوية صراعٍ داخليٍ طويل الأمد: يُعد إعلان حزب العمال الكردستاني في عام 2025 التزامه بنزع السلاح وحلّ نفسه لحظةً محورية في صراعٍ امتد لأربعة عقود. هذا الصراع الطويل كشف عن مظالم الكرد وزعزع استقرار تركيا السياسي. بالنسبة لأردوغان، يمثل حل هذا النزاع فرصةً حاسمة لضمان الاستقرار الداخلي وتثبيت إرثه السياسي. وقد تبنّى هذا التطور بوصفه “فرصةً تاريخية” للقضاء على الإرهاب وإعادة بناء الوحدة الوطنية.  تحقيق التثبيت السياسي: يواجه أردوغان جملة من التحديات الداخلية، خصوصاً بعد تكبّده أول هزيمة انتخابية كبيرة في الانتخابات المحلية لعام 2024. ويبدو أن مشاركته في عملية السلام تمثل محاولةً محسوبة لإعادة تشكيل سلطته وترسيخها على مستوياتٍ متعددة. ومن خلال إطلاق محادثاتٍ مع ممثلين كرد، بما في ذلك لقاء محوري مع حزب المساواة والديمقراطية الشعبي حزب DEM) )الموالي للكرد في أبريل 2025 — وهو أول تواصلٍ من هذا النوع منذ أكثر من عشر سنوات — يسعى أردوغان على الأرجح إلى كسب دعم الناخبين الكرد الذين يشكّلون شريحةً مهمة من القاعدة الانتخابية. وفي الانتخابات السابقة، حققت الأحزاب الكردية تقدماً ملحوظاً، ووصلت أحياناً إلى منافسة تحالف الشعب(تحالف الجمهور) على السيطرة في البرلمان. ومن خلال إطلاق مبادرات سلامٍ جديدة والتجاوب مع المطالب الكردية، يحاول أردوغان استعادة تأييدهم، مما يعزز موقعه الانتخابي قبل الاستحقاقات الرئاسية المقبلة.

أما على الجانب الكردي، أصبح استمرار الصراع المسلح عبئًا متزايدًا على الحركة الكردية. فلم يعد حزب العمال الكردستاني يشن عمليات عسكرية كبيرة داخل تركيا منذ سنوات، إذ اقتصرت المواجهات على مناطق في العراق وسوريا. ومع تصاعد الضغط العسكري، وجد الحزب نفسه في موقع دفاعي متزايد، بينما أدت فعالية الطائرات التركية المسيّرة إلى تقييد حركته بشدة، حتى خارج الحدود التركية، وجعلته شبه مشلول ميدانيًا. ورغم أن الحزب أظهر أحيانًا قدرته على تنفيذ هجمات محدودة داخل تركيا، فإن هذه العمليات لم تعد تحمل أي هدف سياسي واضح ولا تحقق مكاسب ملموسة للمطالب الكردية السياسية أو الاجتماعية. في المقابل، تصاعدت وتيرة القمع ضد النشاط السياسي الكردي. فقد أصبح استبدال رؤساء البلديات الكرد المنتخبين بمسؤولين حكوميين ممارسة معتادة. وتبرّر الحكومة هذه الإجراءات عبر اتهامات فضفاضة وواسعة النطاق بـ«دعم الإرهاب»، مما يعني أن وجود حزب العمال الكردستاني يتيح لها الاستمرار في استخدام هذه الذريعة لقمع النشاط السياسي السلمي. أما إذا أُزيل الحزب من المعادلة، فسيصعب على الحكومة استخدام تهمة «الارتباط بالإرهاب» ضد السياسيين الكرد القانونيين أو تبرير عزلهم من مناصبهم.

ولا يقتصر أثر حل الحزب على الحركة الكردية فحسب، بل يمتد ليحمل دلالات أوسع على مستقبل الديمقراطية في تركيا. لطالما شكّلت المسألة الكردية أحد أكبر العوائق أمام مسار التحول الديمقراطي في تركيا. فقد استخدمت الحكومات المتعاقبة ذريعة «مكافحة الإرهاب» لتبرير سياسات سلطوية، ما جعل الصراع عاملًا رئيسيًا في تراجع الحريات. ومن هذه الزاوية، فإن إزالة حزب العمال الكردستاني من المشهد لا تمثل فقط تحولًا مهمًا في القضية الكردية، بل قد تفتح أيضًا الباب أمام نقطة انعطاف محتملة في مسار الديمقراطية التركية.

لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الديمقراطية ستزدهر. فهدف أردوغان الأساسي ليس استعادة سيادة القانون أو توسيع الحقوق الديمقراطية، بل ترسيخ قبضته على السلطة من خلال توسيع «تحالفه الرابح الأدنى» بشكل استراتيجي. وبدلًا من تبنّي إصلاحات ديمقراطية، استخدم العملية كورقة مساومة سياسية. يتضح ذلك من غياب أي إشارة منه إلى تقديم تنازلات ديمقراطية خلال المفاوضات الجارية. بل إن ممارسة تعيين الأوصياء الحكوميين لإقصاء البلديات التي تسيطر عليها المعارضة امتدت مؤخرًا لتشمل رؤساء بلديات من حزب الشعب الجمهوري (CHP) المعارض الرئيسي، وليس فقط البلديات الكردية. ويُرجّح أنه، في إطار هذه العملية، سيتجنّب أردوغان تعيين أوصياء لإقصاء رؤساء البلديات المنتمين إلى حزب “ديم” (DEM) الكردي — الامتداد السياسي لحزب الشعوب الديمقراطي (HDP) — مقابل دعم سياسي من الحركة الكردية. غير أن ذلك لا ينبغي اعتباره خطوة نحو الديمقراطية، بل هو ترتيب سياسي بحت يخدم مصالح أردوغان. وإذا لم يحصل على الدعم الانتخابي أو السياسي الذي يتوقعه من الأطراف الكردية، فقد يتخلى عن العملية تمامًا كما فعل في عام 2015.

تتبنّى الحركة الكردية في تركيا ثلاثة أهداف رئيسية معلنة: حلّ القضية الكردية، ديمقراطية تركيا، وإقامة نظامٍ سياسي لا مركزي صاغه عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) المعتقل، تحت مسمى الكونفدرالية الديمقراطية. وعلى الرغم من أن حزب العمال الكردستاني يقع في صميم هذه الحركة – وهو مصطلح يشمل جميع الكيانات المسلحة وغير المسلحة، القانونية وغير القانونية، التي تنتظم حول الفكر الذي طرحه أوجلان – فإن الروابط بين مختلف مكوناتها ليست جامدة أو مطلقة. في هذا السياق، يمكن اعتبار حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) – ثالث أكبر حزب معارض في تركيا، وهو ائتلاف يضم ناشطين كرداً وجماعات يسارية تركية وعدداً من الليبراليين البارزين – جزءاً من الحركة الكردية. إن النموذج التنظيمي الخاص بالحركة الكردية، المكوَّن من مجموعاتٍ مستقلة أو شبه مستقلة وأخرى مرتبطة مباشرةً ببعضها، يتيح لها الجمع بين أهدافٍ متعددة مترابطة لكنها متميزة في الوقت ذاته. فبينما يُفترض أن تكون الأهداف الثلاثة مكملةً لبعضها البعض وتغطي طيفاً واسعاً من القضايا من المحلي إلى الكوني، فإنها في الوقت ذاته يمكن أن تتعارض وتُضعف بعضها البعض — وهو ما تجلّى بوضوح في فشل محادثات السلام بين الحركة الكردية والدولة التركية خلال الفترة ما بين 2013 و2015.

يتطلب حلّ القضية الكردية، تجاوز كلٍ من الدولة التركية والكرد نهج العنف والعسكرة. وقد يشمل تسويةً لإعادة هيكلة الدولة التركية نفسها وفق تفاوض متبادل. ومن بين المطالب الأساسية التي تطرحها الحركة الكردية قبل إنهاء حملتها المسلحة:

  • الاعتراف بحق التعليم باللغة الكردية،
  • تعزيز الحكم الذاتي المحلي عبر إصلاحات إدارية،
  • العفو عن أعضاء حزب العمال الكردستاني وربما عن أوجلان نفسه، بما يُنهي تجريم السياسة الكردية على نطاقٍ أوسع.

أما ديمقراطية تركيا، فيسعى إلى جعل السياسة الوطنية أكثر شمولاً من خلال صياغة دستورٍ جديدٍ وشاملٍ يمثل عقداً اجتماعياً جديداً. غير أن هذا الهدف اتخذ منحىً أكثر ضيقاً مع اقتراب انتخابات عام 2015، إذ تمحور آنذاك حول منع رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء حينها، من الوصول إلى الرئاسة، بل والإطاحة به عبر صناديق الاقتراع. أما اللامركزية، والمُعبَّر عنه من خلال مفهوم الكونفدرالية الديمقراطية، فيسعى إلى إنشاء نظامٍ إداري قائم على مجالس مدنية منتخبة مباشرةً تعمل إلى جانب دولةٍ كونفدرالية ضعيفة، ليس في المناطق الكردية فقط، بل في عموم تركيا وربما خارجها.

تختلف الأهداف الثلاثة للحركة الكردية من حيث مدى التحول السياسي المقترح وإطارها الزمني وطبيعة الفاعلين المعنيين بها. فمثلًا، يُعَدّ حلّ القضية الكردية هدفاً قومياً دون الدولة، إذ يطالب بالمساواة بين الأتراك والكرد. أما هدف ديمقراطية تركيا فيتجاوز البعد القومي ليشمل كل المجموعات الإثنية والقومية في البلاد. ورغم أن عدداً كبيراً من الكرد يعيشون خارج المناطق ذات الأغلبية الكردية، فإن محور الهدف الأول يظل المنطقة الكردية في تركيا. وخلال عملية السلام، ركّز حزب العمال الكردستاني على تعزيز المؤسسات المحلية وتسهيل عودة الكرد المهجّرين قسراً منذ الثمانينيات. والطرف الأساسي في تحقيق هذا الهدف هو حزب العمال الكردستاني نفسه، بوصفه يقود التمرّد ضد القوات التركية، في حين يتمثل الطرف المقابل في أجهزة الأمن والدولة التركية. ومن ثمّ، فإن العملية ذات طابعٍ “من الأعلى إلى الأسفل”، يمكن حسمها من خلال مفاوضاتٍ مغلقة تفضي إلى تعديلات قانونية وإدارية تُعرض لاحقاً على البرلمان التركي. وإذا ما تم التوافق عليها، يمكن تسوية القضية الكردية عبر ترتيباتٍ إدارية دون المساس بحدود الدولة التركية، وبمنح سلطات محلية موسعة كما نص عليها الميثاق الأوروبي للحكم الذاتي المحلي. ويُذكر أن هذا الإطار أصبح ممكناً بعد تخلي الحركة الكردية، خلال العقدين الماضيين، عن مطلب إقامة دولة كردية مستقلة، ليبقى الحل داخل منظومة الدولة القومية. تحقيق هذا الهدف لا يتطلب بالضرورة تغييراً جذرياً في بنية السلطة السياسية في تركيا، إذ يمكن الوصول إليه دون إسقاط الحزب الحاكم. كما أنه مطلبٌ إصلاحي يمكن تحقيقه على المدى القصير، حتى دون بلوغ مرحلة ديمقراطية شاملة. ويمكن تخيّل وضعٍ يكون فيه الكرد مواطنين مقيَّدين في ظل نظامٍ سلطوي، لكن دون أن يُضطهدوا أو يُميَّز ضدهم على أساسٍ إثني.

أما هدف ديمقراطية تركيا، فهو مشروعٌ أممي الطابع يشمل الأمة التركية بأكملها. إن تحقيق هذا الهدف يعني الحفاظ على الدولة القومية التركية مع إعادة تشكيلها بحيث تُجسّد تعددها الإثني. لذا، فإن تركيز هذا المشروع وطني شامل لا يقتصر على منطقةٍ بعينها. المحرك الرئيسي والأكثر وضوحاً لهذا الهدف هو حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، بينما تشمل الأطراف المقابلة أو الحليفة المحتملة أي حزب سياسي معارض لحزب العدالة والتنمية (AKP) الحاكم. وبينما يمكن تحقيق حلّ القضية الكردية عبر اتفاقٍ مباشر بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تحالفٍ واسعٍ يجمع المعارضة التركية بمختلف أطيافها، بما في ذلك النخب المنافسة داخل الدولة نفسها. ومن ثمّ، يتطلب هذا المشروع إعادة توزيع القوة السياسية في البلاد وربما استبدال النخب الحاكمة بنخبٍ جديدة. ويتطلّب ذلك الانخراط في عملياتٍ سياسية من أعلى، بالتوازي مع تعبئةٍ جماهيرية من أسفل لدعم مشروع الديمقراطية. كما أن هذا الهدف، الذي يرى حلّ القضية الكردية جزءاً من عملية ديمقراطية أوسع، يحتاج إلى مدى زمني أطول من مجرد تسويةٍ سياسية مع الدولة.

الهدف الثالث، وهو إقامة الحكم الذاتي في إطار الكونفدرالية الديمقراطية، يُعد مشروعاً عابراً للحدود الوطنية يتجاوز نموذج التحرر القومي التقليدي. إذ يقوم على تفكيك السلطة المركزية للدولة القومية لصالح مجالس محلية تُدير شؤونها ذاتياً، ضمن منظومة حوكمةٍ قاعدية يمكن أن تمتدّ عبر الحدود إلى مناطق غير كردية. ولا يتطلب هذا الهدف إسقاط الحكومة القائمة على المدى القصير، إذ يتجاوز فكرة تبديل النخب داخل النظام إلى إعادة صياغة شكل السلطة نفسه. ويتطلّب من كوادر حزب العمال الكردستاني التحوّل نحو العمل السياسي القاعدي وتأسيس هياكل للحكم الذاتي المحلي بدلاً من التركيز على السياسة الانتخابية الوطنية. بينما يُعَدّ كلٌّ من هدفَي حلّ القضية الكردية ودمقرطة تركيا مشروعين إصلاحيين، فإن اللامركزية — كما صاغها عبد الله أوجلان في إطار «الكونفدرالية الديمقراطية» — تُعَدّ مشروعًا ثوريًا يمثّل ذروة تطور أيديولوجيا الحركة الكردية. يتطلّب هذا الإطار تحوّلًا عميقًا في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومع ذلك، ونظرًا لأن المشروع يُطرح كعملية تدريجية ومرنة وطويلة الأمد تُبنى من الأسفل إلى الأعلى، فقد لا تعتبره الكتلة الحاكمة تهديدًا فوريًا. كما أنّ تطبيق «الكونفدرالية الديمقراطية» بصيغتها الكاملة ليس ممكنًا بالنسبة للحركة الكردية ما لم تحدث تحولات كبيرة في موازين القوى على المستويين الوطني والإقليمي، وربما العالمي. ومن هذا المنظور، يمكن القول إنّ مشروع الحكم الذاتي الديمقراطي يُعدّ أكثر طولًا في أفقه الزمني من مشروعَي حلّ القضية الكردية أو دمقرطة تركيا.

النهاية وبداية جديدة

في صباح الجمعة 11 يوليو، قام فصيل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني علنًا بإلقاء أسلحته، بحضور مئات الممثلين عن الأحزاب السياسية التركية، والصحفيين، ومنظمات المجتمع المدني، والمراقبين الدوليين. وشكل هذا الحدث التنفيذ العملي لقرارات مؤتمر الحزب المنعقد بين 5 و7 مايو، التي قضت بإنهاء الكفاح المسلح وفتح الطريق أمام ردود متوقعة من الحكومة التركية – ولا سيما فيما يتعلق بالمعتقلين السياسيين، ومن بينهم عبد الله أوجلان، ورئيسا حزب الشعوب الديمقراطية السابقان صلاح الدين دميرطاش وفيغن يوكسيك داغ، وآلاف غيرهم ممن اعتُقلوا بتهم ذات دوافع سياسية. ومع ذلك، يسود شعور واضح بالهشاشة الدقيقة التي تحيط بهذا المسار – شعور يتجلى بعمق في الجانب الكردي، لكنه يلامس كذلك بعض دوائر السلطة التركية. وفي وقتٍ يُتوقع فيه تصاعد الاستفزازات الداخلية والخارجية خلال تسوية هذا الصراع الدموي الذي أودى بحياة الآلاف، فإن القيادات الكردية – وعلى رأسها أوجلان – والفاعلين الأتراك الأساسيين في هذه العملية، يواصلون السير بثبات دون تراجع عن المهمة التاريخية العاجلة: حلّ المعادلة المستعصية للسلام. ومن الواضح أن انعكاسات هذه التسوية تمتد فورًا إلى خارج تركيا، ولا سيما إلى الساحة السورية.

وفي اليوم نفسه الذي بُثّ فيه البيان المصور لأوجلان وبدأ الكرد يحتفلون بما قد يكون نهاية عقود من الاضطراب، توجّه وفد رفيع المستوى ضمّ القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، ورئيسة الدبلوماسية في شمال شرق سوريا إلهام أحمد إلى دمشق لإجراء محادثات رفيعة المستوى. وقد التقى الوفد بكل من المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا والسفير لدى تركيا توم باراك، والرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، وممثلين عن الدبلوماسية الفرنسية. ويمثل هذا اللقاء الثاني رسميًا بين عبدي والشرع، بعد توقيع اتفاق ثنائي في 10 مارس 2025 بشأن دمج المؤسسات السياسية والعسكرية والمدنية في شمال شرق سوريا ذي الأغلبية الكردية ضمن هيكل الدولة السورية. ورغم استمرار الاجتماعات وغموض المشهد السياسي الذي يجعل من الصعب التكهن بمآلاتها، إلا أن تدخل أوجلان المباشر في معادلة تركيا–الـPKK يبدو أنه يُسهم في تخفيف المخاوف الأمنية لأنقرة في شمال سوريا. وفي الوقت نفسه، فإن الدعم الأمريكي والفرنسي المستمر لقوات سوريا الديمقراطية في إطار الحرب الدولية ضد الإرهاب قد يعكس بوادر ميلٍ تدريجي نحو الاعتراف بمشروع روجافا المستلهم من فكر أوجلان.

لقد تمّ توقيع اتفاق السلام الشهير بين الحكومة البريطانية والأطراف الأيرلندية يوم جمعة، وعُرف لاحقًا باسم اتفاق الجمعة العظيمة. ورغم أنه لن تُوقّع وثائق رسمية في هذه الحالة، فإن مبادرة حسن النية التي يجسدها مقاتلو حزب العمال الكردستاني بتجمعهم في منطقة نائية من السليمانية في كردستان العراق، قد تسجّل أحد أكثر الإعلانات التاريخية للسلام في المنطقة. ولعلّ المؤرخين والباحثين سيذكرون صباح الغد باعتباره اللحظة الفاصلة التي ختمت أطول انتفاضة كردية في تاريخ المنطقة، ومهّدت لبداية عهد جديد من السلام والاستقرار المشترك.

إذن، وبعد أربعة عقود من الصراع المسلح، من المنتظر أن تبدأ في الأشهر المقبلة عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. ورغم ما قد يبدو من وضوح هذه العملية المفهومي، فإن تطبيقها العملي في سياقات ما بعد النزاع غالباً ما يكون معقداً للغاية. وتشير الدراسات الحديثة في مجالي مكافحة التمرّد المقارنة وبرامج نزع السلاح وإعادة الإدماج إلى مجموعة من التحديات والفرص الاستراتيجية التي قد تواجه تركيا. تتقدّم عملية السلام في تركيا بخطوات لافتة. ففي أغسطس/آب 2025، وبعد ثلاثة أشهر من إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) حلَّ نفسه رسميًا، عقدت لجنة برلمانية تركية معنية بالإشراف على الإصلاحات المرتبطة بالعملية اجتماعها الأول. جاء ذلك بعد مراسم رمزية لنزع السلاح في شمال العراق، أحرق خلالها مقاتلون كرد أسلحتهم علنًا. ويمكن الادعاء أن عميلة نزع السلاح وإعادة الإدماج بعد حلّ حزب العمال الكردستاني (PKK)، ستكون عملية غير مسبوقة في العصر الحديث، ما يترك أمام صانعي السلام مهمة شقّ طريق جديد بأنفسهم.

وتُظهر المقارنات الدولية أن نجاح مثل هذه العمليات يختلف اختلافاً كبيراً تبعاً للظروف المحلية ومستويات الإرادة السياسية لدى الأطراف المعنية. كما أن التفاعل بين عمليات نزع السلاح وإعادة الإدماج من جهة، وجهود بناء السلام طويلة الأمد من جهة أخرى، يمثل عاملاً حاسماً حين يقترن بإصلاحات قانونية تستهدف معالجة جذور النزاع ومنع العودة إلى العنف.

وربما لم يقدّم الإعلان الصادر في 12 مايو، خطة واضحة لكيفية تسليم السلاح، بل أشار إلى حلّ التنظيم ونهاية الكفاح المسلح لصالح مرحلة جديدة من النضال السياسي الديمقراطي. وتشير التجارب السابقة لعمليات الانتقال بعد النزاع التي انخرطت فيها حركات ذات مطالب تقرير مصير إلى ضرورة معالجة المطالب السياسية الأوسع إلى جانب برامج نزع السلاح، لتحقيق الاستقرار وتجنّب الانتكاس. وأفادت وسائل الإعلام التركية بأن للحزب نحو 3500  مقاتل في شمال العراق. ومن المتوقع أن يقوم هؤلاء بتسليم أسلحتهم إلى مراكز تحقق مخصصة، بينما تعمل أنقرة بالتنسيق مع بغداد وأربيل للإشراف على العملية. ومن المنتظر أن تشمل هذه العملية أيضاً انسحاباً تدريجياً لعناصر الحزب من المناطق التي يسيطر عليها في العراق مثل قنديل وغارا وسنجار ومخمور، في إطار عملية منسقة بين جهاز الاستخبارات الوطني التركي (MIT) والقوات المسلحة التركية. وتشير التقارير الإعلامية إلى احتمال نقل نحو 100 من القادة البارزين إلى دول ثالثة، في حين يُتوقع أن يعود نحو 2000 عنصر ممن لا توجد بحقهم مذكرات توقيف أو سجلات جنائية خطيرة إلى تركيا.

لقد أدار حزب العمال الكردستاني (PKK) صراع عابر للحدود، يتداخل فيه المستوى الوطني ودون الوطني في تركيا والعراق وسوريا وإيران، وهو ما يميّزه عن معظم عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) التي جرت منذ أواخر الثمانينيات، مثل تلك التي شهدتها موزمبيق (1992)، وليبيريا (2003)، ونيبال (2006)، وكولومبيا (2016)، والتي أعقبت في الغالب نزاعات داخلية بحتة. ويُعدّ الصراع الأهلي الطويل في جمهورية الكونغو الديمقراطية (DRC) من الحالات النادرة التي اتخذت أبعاداً إقليمية، إذ تعاملت فيها عمليات DDR بشكل مباشر مع مقاتلين من دول الجوار. كما كانت جهود نزع السلاح وإعادة الإدماج بين سيراليون وليبيريا مترابطة إقليمياً بعمق، نظراً لتدفق المقاتلين عبر الحدود. تُعتبر النزاعات ذات الطابع العابر للحدود أكثر تعقيداً وصعوبة في الحل من النزاعات الداخلية أو الثنائية. ومع ذلك، فإن عدد مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين سيجري تسريحهم يُعدّ ضئيلاً نسبياً مقارنة بحالات أخرى، ما يجعل فرص النجاح أكثر احتمالاً. فعلى سبيل المثال، قامت المجتمع الدولي بتسريح نحو 70 ألف مقاتل من فصائل متمردة مختلفة في سيراليون.

وبالإضافة إلى ذلك، ستؤثر أصول حزب العمال الكردستاني وتطوره بوصفه فاعلاً مسلحاً يسعى لتقرير المصير، بشكل مباشر على مسار انتقاله السياسي. فقد شهدت أيديولوجيته المعلنة تحولات براغماتية جوهرية: من حركة انفصالية في أواخر السبعينيات، إلى السعي نحو الحكم الذاتي في التسعينيات والألفينيات، وصولاً إلى مرحلته الحالية التي يدعو فيها إلى الديمقراطية ضمن حدود الدولة القائمة. وقد أظهرت تجارب التحولات ما بعد النزاع التي انخرطت فيها حركات ذات مطالب تقرير مصير، ضرورة معالجة المطالب السياسية الأوسع إلى جانب برامج نزع السلاح والتسريح والإدماج لتحقيق الاستقرار وتجنّب الانتكاس. وباعتباره تنظيماً ماركسياً-لينينياً عند تأسيسه، يضمّ الحزب في صفوفه مقاتلين خضعوا لتدريب أيديولوجي صارم، ويتبنّون ثقافة الاستشهاد ويوقرون شخصية أوجلان. وتشير دراسات الحركات المتمردة والنزاعات المسلحة إلى مفهوم ما يُعرف بـ “الفاعلين المخلصين” (devoted actors)، أي أولئك الذين تحرّكهم التزامات عقائدية عميقة وغير قابلة للتفاوض، ما قد يدفعهم إلى مقاومة التسريح أو الصعوبة في الاندماج ما لم تُتّبع سياسات موجهة تهدف إلى تحويل ولائهم أو تيسير انتقالهم إلى أشكال سياسية سلمية من النضال.

ترى أنقرة أن حلّ حزب العمال الكردستاني يمثل نتيجة لانتصار الدولة عسكرياً، بما يتوافق مع عقيدتها الأمنية، واستراتيجياتها في جمع المعلومات الاستخباراتية ومكافحة الإرهاب، التي مكّنت القوات المسلحة التركية (TSK) من تضييق نطاق عمل الحزب وقدراته العملياتية في جبال قنديل وشمال العراق. لكن بعض قيادات الحزب، ومنهم مراد قريلان، أحد مؤسسيه وقادته العسكريين البارزين، يفسّرون القرار بشكل مغاير. فقد صرّح قريلان مؤخراً بأن الحزب لم يُهزم عسكرياً، وأنه طوّر تكتيكات جديدة وقدرات تكنولوجية متقدمة. وأشار إلى أن تسليم السلاح مرهون بتقديم الدولة التركية ضمانات قانونية مكتوبة. ورغم استمرار الشكوك في تركيا حيال نوايا الحزب بعيدة المدى، حتى بعد حلّه، فإن تراجعه عن مطالب الحكم الذاتي، إلى جانب التقييم (التركي) بأنه بات أضعف عسكرياً من أي وقت مضى، كلها عوامل قد تعزز فرص نجاح العملية الحالية. وتؤكد أنقرة أن الفرع السوري للحزب، أي وحدات حماية الشعب (YPG)، الذراع العسكرية لـ قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، يجب أن تلتزم أيضاً بدعوة أوجلان إلى الحل. وقد صرّح الرئيس رجب طيب أردوغان بأن إعلان الحزب يجب أن يشمل جميع فروعه:  نعتبر هذا الإعلان شاملاً لكل أذرع التنظيم، بما في ذلك تلك الموجودة في شمال العراق وسوريا وأوروبا. وفي المقابل، رحّب قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي بالقرار، واعتبره خطوة نحو عملية سياسية وسلمية جديدة في المنطقة، إلا أن تصريحه أوحى بأن قواته ليست ملزمة بقرار الحزب، انسجاماً مع موقفه الثابت بأن قواته كيان مستقل. وفي 19 مايو، أعلن حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، الفرع الإيراني للحزب، أنه لن يقوم بنزع سلاحه رغم قرار التنظيم الأم. ويمثل هذا التناقض الظاهر تهديداً لنجاح العملية الشاملة ما لم يُعالج عبر تسوية تفاوضية.

خطوات تنفيذية

في أغسطس ٢٠٢٥ أطلق البرلمان التركي لجنة جديدة للإشراف على عملية نزع سلاح حزب العمال الكردستاني (PKK) . وقال رئيس البرلمان نعمان كورتولموش للنواب في الجلسة الافتتاحية إن من بين مهام اللجنة الإشراف على عملية نزع السلاح، مضيفًا: “مع إتمام عملية نزع السلاح بالكامل، فإن إعداد التشريعات القانونية التي تجعل السلام دائمًا يقع أيضًا ضمن مسؤوليات هذه اللجنة.” وتضم اللجنة ممثلين عن جميع الأحزاب البرلمانية باستثناء حزب واحد، وهي المرة الأولى التي تجتمع فيها عدة أحزاب رسميًا داخل البرلمان لمعالجة مسار السلام. وقد انضم حزب الشعب الجمهوري (CHP) المعارض الرئيسي إلى اللجنة بشرط أن تتناول خطوات ديمقراطية. ولعب حزب الشعوب الديمقراطي/اليسار الأخضر (DEM)، ثالث أكبر حزب في البرلمان التركي، دورًا محوريًا في تسهيل دعوة أوجلان للسلام. وقالت غلستان كوجيغيت، ممثلة حزب DEM، أمام اللجنة: السلام الدائم ممكن من خلال عملية حل ديمقراطي تقوم على أساس سياسي شرعي وشامل.”
وأضافت أن حزبها يطالب بـحقوق جماعية للكرد، بما يشمل الحق في التعليم باللغة الأم وخطوات لتعزيز الإدارة المحلية.

في إطار ما يُعرف بـ”عملية تركيا الخالية من الإرهاب”، تتجه الدولة التركية نحو تأسيس لجنة برلمانية تتولى الإشراف على تفكيك البُنية المسلحة لحزب العمال الكردستاني (PKK)، وتقديم مقترحات تشريعية وإدارية من شأنها ترسيخ الانتقال نحو تسوية سياسية مستدامة. هذه الخطوة تَندرج ضمن مقاربة تُعرّف الصراع الكردي – التركي بوصفه مسألة سياسية قابلة للحل المؤسسي، لا مجرد ملف أمني. صرّح عبد الله غولر، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، بأن المرحلة الأولى لعمل اللجنة ستتمحور حول التحقق من التزام الحزب بوقف العمل المسلح وحلّ تشكيلاته، وتوثيق هذه العملية بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية. وتُعد هذه الخطوة تحوّلًا مهمًا؛ إذ تشير إلى انتقال الدولة من منطق الردع الأمني إلى منطق التفاوض المؤسسي المشروط. في المقابل، أكّد غولر أن اللجنة ستملك صلاحية تقديم توصيات لرئاسة البرلمان حول تعديلات قانونية وإدارية، ما يفتح الباب أمام احتمالات مثل إعادة دمج الأفراد السابقين، أو تعديل قوانين مكافحة الإرهاب، أو بحث صيغ للعدالة الانتقالية.

على المستوى الموازي للعمل البرلماني، تبرز لقاءات وزير العدل يلماز تونتش مع وفد من حزب المساواة والديمقراطية للشعوب (DEM)، وهو ما يعكس محاولة إشراك الفاعل السياسي الكردي في هندسة مسار التسوية. وقد أكدت بيروين بولدان، أحد أبرز قيادات الحزب، أن الحوار مع الحكومة شمل الأبعاد السياسية والقانونية، في إشارة إلى إمكانية توسيع النقاش. ومن جهتها، أوضحت المتحدثة باسم حزب DEM، آيشغول دوغان، أن الحزب ينظر إلى هذه الخطوة بوصفها لحظة تاريخية تؤسس لطيّ صفحة الصراع المسلح وفتح مسار ديمقراطي جديد لحل القضية الكردية. وقد ربطت نجاح العملية بشرطين أساسيين:

  1. شمولية اللجنة البرلمانية، بما يسمح بتمثيل جميع القوى السياسية بما فيها غير الممثلة في البرلمان.
  2. الاعتراف بالحقوق الجماعية للكرد، بما في ذلك حق التعليم باللغة الأم وتعزيز الإدارة المحلية.

هنا، تتقاطع رؤية الحزب مع أدبيات “الحل الديمقراطي” التي تربط إنهاء العنف بمأسسة الحقوق القومية والثقافية ضمن إطار الدولة لا خارجها.

خريطة الفعل الأوجلاني

إن الانتقال الحقيقي من «البارود» إلى «القانون» لا يُقاس بحذف الأسلحة من المشهد فحسب، بل بقياس ما إذا انبنت في أعقاب ذلك علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع مبنية على قواعد دستورية وتشريعية مؤسّسة تَحمي الحقوق وتمنع تكرار العنف. دعوة عبد الله أوجلان في «مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي» تعبّر عن هذا الموقف بعنفوانٍ مفاهيمي: نزع السلاح ليس نقطة نهاية بل نقطة انطلاق لإعادة تأسيس العقد السياسي على أسس الاعتراف، المشاركة والعدالة. وإن أي محاولات لفصل التسليم الميداني للأسلحة عن مصاحبة حزمة قوانين وضمانات دستورية ستجعل هذا التسليم هشّاً ومعرضاً للانكسار. يقوم منطلق أوجلان في «مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي»، على فكرة مركزية مفادها أن المشكلة الكردية ليست مسألة أمنية ولا تمرّد مسلح، بل هي نتيجة مباشرة لبنية معرفية وسياسية بنتها الدولة‐القومية الحديثة، حيث تأسست الهوية الوطنية التركية على إنكار التعدد القومي والثقافي، وقصر السيادة والشرعية على لغة واحدة وشعب واحد. لذلك يقول أوجلان إن حزب العمال الكردستاني نشأ أساساً كـ«رد فعل تاريخي على تراكم طويل من الإنكار، القمع، وسحق الكرامة الكردية»، وليس كحركة تمرد عابرة أو استنساخ لحركات التحرر الكلاسيكية. من هنا يتحدّد جوهر التحول الذي يقترحه: الانتقال ليس من العنف إلى اللاعنف فقط، بل من منطق الدولة–القومية إلى منطق المجتمع الديمقراطي. وهذا المجتمع، في رؤيته، قائم على ثلاثة أعمدة: حرية المرأة، الديمقراطية القاعدية (البلديات والمجالس الشعبية)، والعيش المشترك بين الشعوب على أساس تعاقد طوعي لا إكراه مؤسّس له.

الفكرة المركزية التي تضع أساس مرحلة «ما بعد البارود» مأخوذة مباشرة من مانيفستو أوجلان: الانتقال ليس مجرد فعل رمزي (التخلي عن السلاح) بل هو تحوّل قيمي ومؤسساتي نحو «المجتمع الديمقراطي»؛ أي إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر اعتراف بالهوية، توسيع المشاركة، وضمان حقوق مدنية وسياسية حقيقية. لذلك تبدو أي إجراءات ميدانية لنزع السلاح غير مكتملة ما لم تُتبع بحزمة متزامنة من الإصلاحات التشريعية، وسياسات العدالة الانتقالية، وبرامج إعادة الإدماج الاقتصادية والاجتماعية. هذا الربط الفكري يفرض أن تُعامل مرحلة ما بعد البارود كسلسلة سياسات متكاملة: أمنية (نزع السلاح والتحقق)، قضائية (حصانات وقضايا المحاسبة وفق معايير حقوقية)، سياسية (قنوات تمثيل جديدة وإصلاحات دستورية/قانونية)، واجتماعية-اقتصادية (إعادة اندماج، فرص عمل، دعم مجتمعي).

على المستوى الأمني-العملي، تتضمن مرحلة ما بعد البارود إجراءات متدرجة ومفصّلة: قوائم تسليم منظمة للأسلحة، مراكز مؤقتة لتخزين الأسلحة تحت إشراف مشترك (برلماني-مدني-دولي)، وحزم زمنية لانسحاب البنيات العسكرية وتفكيك مواقع التمركز. هذه الإجراءات يجب أن تُنفّذ بمرافقة لجان تحقق شفافة ومُسلّحة بصلاحيات تفتيش ميداني، وإلّا ستتحول عمليات التسليم إلى مجرد طقوس رمزية لا تمنع تجدد العسكرة. عملياً، يُنصح بتقسيم دفعات المسلّحين إلى «محطات» لكلٍ منها اشتراطات واضحة: (أ) تسليم الأسلحة، (ب) توقيع التزام بعدم العودة للعنف، (ج) إدراج الفاعل في برامج إعادة الإدماج، و(د) فتح ملف قضائي مراجع وفق آليات العدالة الانتقالية. الربط بين كل دفعة من التسليم وبين حصول المستفيدين على امتيازات إعادة الإدماج هو آلية حاسمة لبناء الثقة وتقليل نسبة “الارتداد”.

انطلاقاً من هذه الفلسفة، يقدّم أوجلان نقداً جذريًا لفكرة الدولة المركزية العسكرية؛ فيعتبر أن الصراع بين الدولة التركية والحركة الكردية لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كان صداماً بين نموذجين للحياة: نموذج السلطة الهرمية الذي يؤمن بأن الأمن والقوة هما أساس السياسة، ونموذج المجتمع الديمقراطي الذي يرى أن السياسة هي فن تنظيم الحياة المشتركة والتعدد والاعتراف. لذلك، فإن دعوته لوقف إطلاق النار وحلّ حزب العمال الكردستاني ليست تراجعاً أو هزيمة، بل انتقالاً «من ساحة البارود إلى ساحة العقد الاجتماعي». يكتب بوضوح أن “حلّ القضية الكردية لا يأتي بتقسيم أو حدود جديدة، بل بالمشاركة الحرة في دولة ديمقراطية تتخلى عن قوميتها الصلبة”. ويتحوّل هذا التصوّر الفكري إلى خريطة عمل لما بعد البارود: فإذا كان السلاح هو نتيجة غياب السياسة، فإن التخلي عنه يجب أن يترافق مع خلق فضاء سياسي بديل؛ أي دستور يعترف بالتعدد اللغوي والهوية، قوانين تمنح البلديات الكردية صلاحيات حقيقية، رفع الحظر عن استخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام، وإلغاء الأطر القانونية التي وصمت النشاط السياسي الكردي بالإرهاب حكماً. هنا يتصّل طرح أوجلان بفكرة تكوين «لجنة برلمانية للسلام والديمقراطية» تشرف على عملية نزع السلاح، إعادة التأهيل، وشكل الدولة الجديدة. هو لا يدعو لهدنة مؤقتة، بل لـ«إعادة التأسيس» على قاعدة الديمقراطية التشاركية، ويقترح أن البرلمان التركي يمكن أن يكون مركز هذه العملية بشرط أن يتحرّر من مقاربة الأمن القومي ويعتنق منطق العقد الاجتماعي.

وفي إطار رؤيته لمآلات مرحلة “ما بعد البارود”، يتحدث أوجلان عن «المسؤولية الأخلاقية» للكرد أنفسهم؛ فهو لا يوجّه خطابه للدولة وحدها، بل ينتقد النزعة العسكرية داخل الحركة، ويطالب بتحويل كوادر PKK من مقاتلين إلى «مثقفين عضويين للمجتمع». في هذا السياق تظهر فكرة «الكادر الديمقراطي» الذي يحفظ ذاكرة النضال لكنه ينقلها من سلاح الجبل إلى لغة السياسة والمجتمع المدني. ولذلك يشدّد على ضرورة أن تُعقد مؤتمرات داخلية للحركة تعلن بوضوح نهاية الكفاح المسلح، وتحول الحزب إلى «حركة اجتماعية مدنية» تُنظّم الكومينات والمجالس المحلية وتدافع عن الحرية والبيئة وحقوق المرأة. ويتعمق أوجلان في البعد الثقافي–الفلسفي لما بعد البارود، فيرى أن العنف السياسي لم يكن فقط فعلاً مادياً، بل كان أيضاً «عنفاً معرفياً» مارسته الدولة عبر محو اللغة الكردية، تشويه التاريخ الكردي، وتجريم الذاكرة الجماعية. لذلك، فإن بناء السلام لا يكتمل إلا باستعادة هذه الذاكرة، وتدريس التاريخ الحقيقي للشعوب، وإحياء الثقافة واللغة كجزء من مقاومة الاستيعاب القومي. لكنه يحذّر أن هذا الاسترداد لا يجب أن يتحول إلى قومية مضادة، بل إلى مشروع «ديمقراطي حضاري»، حيث تتعايش الهويات بديلاً عن صراعها الدموي. وهنا يربط صراحةً بين «تحرير المرأة» و«تحرير المجتمع» و«تحرير السياسة من السلاح»، معتبراً أن كل أشكال السيطرة – الذكورية، القومية، الطبقية – تنتمي إلى بنية واحدة هي “ذهنية الدولة السلطوية”.

وعلى المستوى العملي، يُدخل أوجلان مرحلة ما بعد البارود في مسار ثلاثي: تفكيك البنية العسكرية – بناء الثقة السياسية – تأسيس مؤسسات المجتمع الديمقراطي. فيرى مثلاً أن نزع السلاح يجب أن يتم على مراحل، مقابل التزام دستوري واضح من الدولة التركية بالاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية الكردية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المنفيين، وإنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية تحفظ حقوق الضحايا من الطرفين. ويشير إلى أن البرلمان التركي يجب أن يسنّ ثلاثة قوانين جوهرية: قانون الاعتراف بالهوية، قانون الحكم المحلي الديمقراطي، وقانون المصالحة المجتمعية. بهذا الشكل، تصبح مرحلة ما بعد البارود – بحسب أوجلان – ليست مجرد صمت للأسلحة، بل «فجر لغة سياسية جديدة». فإذا كانت الدولة التركية قادرة على التحول من “دولة الإنكار” إلى “دولة العقد الدستوري”، وإذا كانت الحركة الكردية مستعدة للتحول من “حركة سلاح” إلى “حركة مجتمع”، فإن السلام لن يكون هدنة، بل تأسيساً لديمقراطية تتصالح مع تاريخها وتفتح مستقبلها.

كما أن العدالة الانتقالية والتعامل القضائي يمثلان قلب مرحلة ما بعد البارود: لا حصانة شاملة تقوّض ثقة الضحايا، ولا ملاحقات انتقامية تُجهض التحوّل السياسي. بناءً عليه، ينبغي أن تحتضن الحزمة القانونية مزيجًا من الإجراءات: آليات «الحقائق والمصالحة» التي توفّر منصة لاعتراف الضحايا وتوثيق الانتهاكات، وبرامج حصانة محدودة ومشروطة (مقيدة بالجرائم الخطيرة كجرائم الحرب أو جرائم أخرى لا يجوز التنازل عنها)، وآليات إعادة محاكمة مُستقلة للحالات التي تندرج تحت الجرائم الأشد. من الناحية العملية، هذا يتطلب صياغة قانون عدالة انتقالية يحدد بوضوح الفئات المشمولة، شروط الحصانة، آليات التعويض، وبرامج إعادة الضحايا إلى الحياة العامة، مع إنشاء مجلسٍ وطني للعدالة الانتقالية يضم ممثّلين للضحايا، قضاة مستقلين، ومنظمات حقوقية محلية ودولية.

إن إِصلاحُ قطاع الأمن شرطٌ لا يقل أهمية: طالما بقيت مؤسسات أمنية تعمل بنماذج قديمة من الاستخدام المفرط للقوة أو دون مساءلة، فإن أي نزع سلاح سيترك فراغًا أمنياً قد تستغله قوى أخرى أو يؤدي لعودة العنف. لذلك تتطلب مرحلة ما بعد البارود حزمة إجراءات إصلاحية: تدريب لقوات الدرك والشرطة على إدارة ما بعد النزاع وحقوق الإنسان، إقامة وحدات مشتركة للشرطة المحلية تضم عناصر من المجتمعات المحلية، وتعزيز آليات مساءلة واضحة (قضاة تحقيق إداريين وبرلمانيين للرقابة على أداء الأجهزة الأمنية). كذلك من الأهمية بمكان إضفاء رقابةٍ مدنية على سلوك الأجهزة الأمنية في مناطق النزاع، عبر مجالس محلية تضم ممثلين منتخبين ومراقبين مستقلين.

إعادة الإدماج الاقتصادي والاجتماعي هي العمود الثالث في بناء «المجتمع الديمقراطي» بعد البارود: العودة إلى الحياة المدنية تتطلب بدائل اقتصادية ومعاشية واقعية للمقاتلين السابقين وللمجتمعات المضارة. برامج التدريب المهني، مشاريع التشغيل العام، منح تأسيسٍ للمشروعات الصغيرة، ودعم سكني مؤقت يجب أن تُقرّ ضمن تشريعات ربطها ببرامج الميزانية الوطنية وبرامج تمويل دولية/منظمات دولية. علاوة على ذلك، لابد من سياسات اجتماعية تستهدف إصلاح بنى الخدمات (صحة نفسية، رعاية ما بعد الصدمة، تعليم للكبار) لأن تحول الفاعلين من ثقافة السلاح إلى أُطر مدنية يتطلب معالجة نفسية واجتماعية لا تقل أهمية عن الإجراءات الاقتصادية. إدارة هذه البرامج عبر صناديق شفافة تُخضع لرقابة برلمانية ومستقلة تزيد من مصداقيتها.

أما بالنسبة، للبعد السياسي والمؤسسي: يظل توسيع قنوات التمثيل السياسي والإدماج المؤسسي شرطًا مجدياً لكي تتحول الدعوة الفكرية لأوجلان إلى واقع سياسي مستدام. هذا العنصر يتضمن تعديلات تشريعية تُسهِم في إزالة الحواجز أمام مشاركة أحزاب وممثلي الأقليات (مثل إلغاء أو تخفيف عوائق الحظر السياسي، تعديل قوانين الانتخابات لمنح تمثيل محلي أوسع)، وإصلاحات في إطار الحكم المحلي تمنح البلديات صلاحيات أوسع في المناطق ذات الأغلبية الكردية. كذلك تُعدّ صياغة ضمانات دستورية/قانونية لحماية الحقوق الثقافية واللغوية جزءًا لا يتجزأ من مفهوم «المجتمع الديمقراطي» الذي طرحه أوجلان؛ إذ إن الاعتراف باللغة والهوية يضع أسسًا دائمة لمنع تجدد الأسباب الجذرية للصراع.

ومن الضروري مع هذا كله وجود مراقبين دوليين محدودي الصلاحية—بعثة فنية من الاتحاد الأوروبي أو منظمة دولية أخرى، يمكن أن تمنح العملية شرعية خارجية ويعزّز التزام الجهات المحلية. لكن هذه المهمة يجب أن تُكملها آليات وطنية شفافة: تقارير مرحلية تُنشر علنًا، منصة للإبلاغ عن الانتهاكات، ولجنة برلمانية مُكلفة بمتابعة تنفيذ كل بند في خريطة الطريق، بما يتوافق مع مطالب مانِيفِستو أوجلان التي تُشدّد على أن التحوّل يجب أن يكون مؤسساتيًا وقابلًا للقياس. الشفافية في هذه المرحلة تحد من الشكوك وتمنع استغلال الضعف السياسي. ويجب وضع مؤشرات أداء واضحة لقياس نجاح مرحلة ما بعد البارود: مؤشرات قابلة للقياس مثل (1) عدد / نسبة الأسلحة التي جُمعت وخزّنت تحت رقابة محايدة، (2) عدد المقاتلين الذين دخلوا برامج إعادة الإدماج ونسبة توظيفهم خلال 12 شهرًا، (3) عدد القضايا المُحالَة إلى محاكمات عادلة مقابل عدد الحالات المشمولة بالحصانة، (4) مستوى التمثيل السياسي للأحزاب الكردية في هيئات محلية ووطنية، (5) مؤشرات رأي عام محلي حول الشعور بالأمن والعدالة. اعتماد هذه المؤشرات يمكّن اللجنة والجهات المراقبة من إجراء مراجعات دورية وتعديل السياسات عند الحاجة. وتشكل كل من الثقة المجتمعية الضعيفة، ومواجهة شكاوى الضحايا من عدالة ناقصة، واستمرارية خطاب أمني صارم داخل دوائر الدولة، مصادر أكبر للخطر. لذا ينبغي أن تقترن كل خطوة تشريعية بآلية للحوار العام، جلسات استماع لذوي الضحايا، وبرامج توعية تُوضّح حدود الحصانات وشروطها. كذلك يجب أن تكون استراتيجية الاتصالات الرسمية شفافة: الإعلان عن كل مرحلة بتنقيح واضح لمخرجاتها وتفسيرها للمجتمع لتفادي التفاف الشكوك.

وأخيرًا، من الناحية الزمنية والسياسية، يوصى بتبني منطق «التدرج المشروط» بدلاً من الانتقال المفاجئ: تبدأ العملية بإجراءات سريعة لبناء الثقة (دفعات أولى من التسليم، برامج إعادة إدماج مُحدودة وممولة جيدًا)، تليها حزمة قانونية شاملة (تعديل قوانين الإرهاب، قانون عدالة انتقالية، قوانين إعادة الإدماج)، وتكملها إصلاحات مؤسساتية أوسع (حكم محلي، حقوق لغوية/ثقافية). هذا التدرج يتيح فرصة لكلا الطرفين لاختبار حسن النية، تعديل الصيغ بحسب النتائج الميدانية، وإدارة المخاطر السياسية والانتخابية داخل تركيا. بهذا الأسلوب تُترجم دعوة أوجلان إلى مشروع عملي قابِل للاستدامة: ليس فقط للتخلّص من البارود، بل لإعادة بناء العقد السياسي والاجتماعي بين الدولة والمجتمع الكردي على أسس ديمقراطية مؤسسية.

كيف تتقاطع الكونفيدرالية الديمقراطية مع العدالة الانتقالية؟

رؤية أوجلان لا تبحث فقط عن وقف إطلاق النار، بل عن تحول جذري للمجتمع والدولة. هذا يتقاطع مع “العدالة الانتقالية البنيوية”، ويتجاوز فكرة التسويات السياسية التقليدية. وتقوم فكرة الكونفدرالية الديمقراطية لدى أوجلان على لامركزيّة سياسية قوية، ديمقراطية قاعدية، مشاركة واسعة للنساء، وشبكات حكم محلي / إقليمي تتشارك السلطة خارج إطار الدولة القومي المركزي. هذه الرؤية تُعيد رسم علاقة المجتمع بالدولة وتضع آليات بدل السلطة الرأسية. من جهة أخرى، تهتم العدالة الانتقالية بكل أدوات التعامل مع إرث العنف: كشف الحقيقة، العدالة/المسائلة، التعويضات، والإصلاح المؤسسي لضمان عدم التكرار. الربط المفاهيمي بين الرؤيتين يفتح إمكانيات لإعادة تصور آليات العدالة الانتقالية بحيث تصبح أفقية ومجتمعية أكثر منها قضائية مركزية. ومن زاوية العدالة الانتقالية: فيجب كشف الانتهاكات، وتوثيق الألم الجماعي. ويضيف أوجلان: يجب أيضًا تفكيك رواية الدولة القومية التي شيطنت الكرد، وبناء سردية تشاركية للتاريخ. “لا يمكن لأي سلام أن يدوم ما لم يُعترف بالشعوب المقموعة كفاعلين شرعيين في كتابة تاريخهم”.

أما عن كشف الحقيقة وإعادة السرد التاريخي، فيتم التحرك من لجنة مركزية إلى مجالس محلية تشاركية. ذلك أن العدالة الانتقالية التقليدية تضع لجانًا رسمية للحقيقة (مثل TRC جنوب أفريقيا) لتمكين الضحايا من الإفصاح، توثيق الانتهاكات، ووضع توصيات. بينما يؤكد المنظور الأوجلاني على أهمية السرد المضاد للدولة القومية، ويفضل آليات قاعدية تمنح المجتمعات فضاءات لإعادة كتابة تاريخها وهُويّتها عبر مؤسسات محلية ديمقراطية. إذن، كيف يلتقيا عمليا؟

  1. لجان حقيقة-هجين: تجمع بين هيئة مركزية (توثيق ومرجعية قانونية) وشبكة مجالس محلية/إقليمية تُدير جلسات استماع مجتمعية بلغة الأم وتضم ممثلات نساء ومجالس شبابية — بهذه الطريقة يُدمَج الكشف الرسمي مع التعرّف الشعبي على المظالم. (نموذج عمل مركّب يأخذ عبرة الـTRC لكنه يُعمّق المشاركة القاعدية).
  2. توثيق متعدد القنوات: ملفات رسمية + أرشيفات محلية (سرديات شفهية، فنّ جماهيري، خرائط الذاكرة) لضمان مشروعية معرفية موازية للنص الرسمي.

بينما تعتمد العدالة الانتقالية الكلاسيكية على المحاكم أو العفو، يرى أوجلان أن الأولوية ليست “معاقبة الدولة أو الحزب”، بل إعادة بناء الروابط الاجتماعية عبر: مجالس محلية ديمقراطية،  مشاركة النساء والشباب، استقلالية اقتصادية محلية (الكومونات). وفي بيانه «دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي»، يؤكد أوجلان أن «وقف السلاح وحلّ البُنى العسكرية» يستلزمان أولاً “الاعتراف بالسياسة الديمقراطية والإطار القانوني”. هذا النص يُعبّر بوضوح عن بعد قانوني‐دستوري: ليس الأمر مجرد انسحاب من العنف، بل استبدال منطق القوة بالسّلطة المؤسّسية، ومنطق الدولة القومية الأحادية بمنطق «العقد الاجتماعي الديمقراطي» الذي يعترف بالتعدد والهوية. وفق هذا المنظور، تُعدّ الخطوة الأولى في التحوّل القانوني-الدستوري هي تأسيس قانون متكامل قادر على احتواء تحوّل الحركة الكردية من بنية متمرّدة إلى إطار سياسي مدني، وضمان عدم العودة إلى العنف من جهة، ومن جهة أخرى ضمان مشاركة المكوّن الكردي في النظام القانوني للدولة على قدم المساواة.

ولذلك، يمكن القول إن مَنِيفِستو أوجلان يطرح ما يشبه «دستوراً مؤقتاً» لمرحلة ما بعد البارود: قانوناً يُنظّم العلاقة بين الدولة والمجتمع الكردي، ويُحدّد الحقوق السياسية والثقافية، ويُنشئ الضمانات الدستورية للانتقال من الصراع إلى المشاركة. هذا يتطلّب من الدولة التركية أن تفتح آفاقاً تشريعية وتعديلية دستورية، تشمل مثلاً الاعتراف بالهوية الكردية، تعديل قوانين الإرهاب، وتمكين الحريات الاجتماعية والسياسية. فبدون إعادة تأسيس قانوني ودستوري كهذا، تبقى دعوة السلام عرضة للتراجع أو التحوّل إلى مجرد هدنة هشة.

جوهر رؤية أوجلان للمرحلة الجديدة التي دعوته للسلام وتوجيهاته الأساسية، تتمحور حول التحول الجذري من استراتيجية حرب التحرير الوطني القائمة على مفهوم الدولة القومية إلى استراتيجية السياسة الديمقراطية وبناء المجتمع الديمقراطي. وتتمثل الرؤية في تجاوز الفشل الذي أظهرته كل من الحداثة الرأسمالية والاشتراكية في آن، والعمل على بناء الحداثة الديمقراطية. يمكن القول، إن قلب الاستراتيجية الأساسية للمرحلة الجديدة هي السياسة الديمقراطية بدلاً من الحرب المسلحة. ذلك حل القضية الكردية يتمحور بالأساس حول التكامل الديمقراطي، والذي يعني اندماج المجتمع الديمقراطي الكردي مع الجمهورية التركية الديمقراطية من خلال التفاوض الديمقراطي. هذا المفهوم هو عكس الانصهار (الذوبان في الأمة المهيمنة) الذي تفرضه الدول القومية.    

إن المرحلة التي تلي التخلي عن البارود وإلقاء السلاح، تحول تاريخي جذري أُطلق عليها أوجلان اسم المرحلة الجديدة أو الدخول في عتبة السلام والمجتمع الديمقراطي. لا تُعني هذه المرحلة فقط بوقف إطلاق النار، بل هي أجندة سلام شاملة تستهدف بناء مجتمع سلمي وديمقراطي. يُعتبر إلقاء السلاح هنا ضرورة تاريخية وفلسفية، وليس نتيجة ضغط خارجي أو استسلام. ويرتكز هذا التحول على عدة حقائق استراتيجية عميقة: انتهاء صلاحية استراتيجية التحرير الوطني؛ فقد أدت هذه الاستراتيجية غرضها التاريخي في إثبات الوجود الكردي كواقع. ومن ثم، أصبحت منتهية الصلاحية ولا تصلح لتحقيق الأهداف المستقبلية المتمثلة في الحرية والديمقراطية. كما أنه ثمة استحالة للوصول إلى الديمقراطية تحت ظلال السلاح، وقد كان انهيار التجارب الاشتراكية، مثل الاشتراكية السوفيتية، مرتبطاً بكونها قامت على الحرب. بهذا يمثل حل التنظيم المؤسسي للحزب خطوة للتحول والدخول في المرحلة الجديدة. ولا يعد هذا الحل “استسلاماً”، بل هو خطوة ضرورية للانتقال إلى عملية تنظيم ونضال جديدة”. لقد كان الالتجاء إلى السلاح أساساً بحسب أوجلان  لحماية وجودنا  من الإبادة العرقية. وبما أن الوجود الكردي قد تم تثبيته بالفعل، فإن استمرار التنظيم المسلح يصبح حسب التعبير الأوجلاني بلا معنى.

يهدف هذا التوجه إلى تطوير بديل سلمي في مواجهة فوضى الشرق الأوسط التي عمقتها الحداثة الرأسمالية بحسب أوجلان. إن السياسة الديمقراطية هي الاستراتيجية التي ستقوم بـ “تسييس المجتمع، وتحويله إلى الكومونالية” وتنفيذ جميع أنواع التوعية والتنظيم، بدءاً من الصحة وصولاً إلى الانتخابات. أما جوهر هذه الاستراتيجية على الصعيد الإقليمي فهو تحقيق “التكامل الديمقراطي” مع جمهورية تركيا والدول المجاورة الأربع (العراق، إيران، سوريا). ويُشدد أوجلان على أن التكامل الديمقراطي هو “عكس الصهر تماماً”. فبينما تسعى الدول القومية إلى صهر الكرد في هويتها، يهدف التكامل إلى إدماج المجتمع الكردي الديمقراطي مع الدولة القومية من خلال التفاوض الديمقراطي لضمان وجود الهويات والثقافات وحقوقها قانونياً. ويُنظر إلى الحل التركي–الكردي كحل ضروري ومُلِح للشرق الأوسط بأكمله.

لضمان نجاح المرحلة الجديدة، تم تحديد إطار أيديولوجي ومؤسسي متين يقوم على مبادئ الحداثة الديمقراطية، ينطوي هذا الإطار على تحول جذري عن مفهوم الدولة القومية (الذي ثبت فشله) إلى نموذج الأمة الديمقراطية، ترفض الأمة الديمقراطية العقلية القومية والدينية والوضعية والجنسانية للدولة القومية، وتوفر نموذجاً مرناً ومفتوحاً للاختلافات والتنوع في منطقة الشرق الأوسط متعددة الهويات والثقافات. وبعد التخلي عن استراتيجية الحرب، ستُقام المرحلة الجديدة على أسس نظرية واستراتيجية بديلة: أولا استراتيجية السياسة الديمقراطية: تُعتبر استراتيجية السياسة الديمقراطية هي الاستراتيجية الأساسية للمرحلة القادمة. ويجب تسييس المجتمع وتحويله إلى كومونالية، حيث أن أفضل أنواع السياسة هي السياسة الديمقراطية. ثانيا، الأمة الديمقراطية والمجتمع الكومونالي: الهدف المقابل للسياسة الديمقراطية هو بناء المجتمع الديمقراطي، والذي يشكل بديلاً عن الحداثة الرأسمالية. ويتمثل هذا البديل في الحداثة الديمقراطية التي تقوم على ثلاثة أركان: الأمة الديمقراطية وهو نموذج يقابل الدولة القومية. المجتمع الديمقراطي / الكوميونالي وهو نموذج يقابل الرأسمالية. كما أن الكومونالية الديمقراطية هي أنفع دواء لمرض السلطوية والدولتية. الاقتصاد البيئي / الصناعة البيئية وهونموذج يقابل الصناعوية الرأسمالية.

يتمثل البديل التنظيمي لحزب العمال الكردستاني الذي انتهت صلاحيته في اقتراح تأسيس اتحاد كومونات كردستان الديمقراطية”. هذا الاتحاد سيكون تنظيماً “متمحوراً حول السلام والديمقراطية، ويهدف إلى إعادة هيكلة المجتمع حول الكومونات الديمقراطية في جميع مجالات الحياة. ثم الانتقال إلى التفاوض الديمقراطي، وهو التكتيك الأساسي الذي يُستبدل بالحرب .ومن المفترض أن يتحول هذا التفاوض، ليكون هو المنهج الأساسي للحل، ويهدف إلى تحقيق التوافق الديمقراطي” مع الجمهورية التركية. يجب أن يكون هذا التفاوض قائماً على مبدأ الربح للجميع”، وليس استمراراً للمنطق الصفري القديم. باختصار، تتطلب مرحلة الانتقال إلى السلام مع تركيا حزمة متكاملة تتضمن التخلي التكتيكي عن الأداة العسكرية، واللجوء إلى التفاوض الديمقراطي كمنهج، والعمل على إصدار القانون المتكامل عبر البرلمان التركي لضمان الحقوق الكردية، مع التركيز على نموذج التكامل الديمقراطي كمقابل لسياسة الصهر.

ومن ثم، هناك حاجة ماسة لأن يكون القانون الذي يصنع الانتقال على شكل «حزمة» متكاملة. حزمة في شكل قانون متكامل يجمع ثلاثة أعمدة متكاملة: (1) إصلاحات جنائية وأمنية تُعيد تعريف مفهوم الإرهاب وتُميّز بوضوح بين العنف المسلح والحق في التعبير السياسي والمجتمعي؛ (2) إطار لعدالة انتقالية يوازن بين مساءلة الجناة وحقّ الضحايا في الإنصاف (حصانة مشروطة، آليات حقائق ومصالحة، تعويضات)؛ و(3) تشريعات حكم محلي وحقوق ثقافية تضمن الاعتراف الدستوري باللغة والهوية وتعزز المشاركة السياسية على المستوى المحلي. هذه البنية لا تختزلها صيغة واحدة؛ لكنها تُمثّل خارطة الطريق القانونية التي تُترجم دعوة أوجلان إلى واقع قابل للاستمرار. وفي النصّ الأوجلاني نجده قد حدّد بوضوح أن “إذعان السلاح يستلزم الاعتراف بالسياسة والمشاركة القانونية”. يُترجم هذا إلى تعديل قانون الإرهاب بحيث لا يستهدف النشاط السياسي والمجتمعي السلمي، بل يُركّز على العنف والإرهاب الحقيقي. أيضاً، إعادة دمج المقاتلين السابقين تحتاج إلى تشريع خاص بإعادة الإدماج وإنشاء برامج مهنية، وهو ما يتطلّب قانوناً للأحكام الانتقالية. والتجارب الدولية تؤكد هذا؛ فعلى سبيل المثال، في سياق العدالة الانتقالية، يُشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن الإصلاح المؤسّسي (Institutional Reform) يتضمن «تحويل أو إنشاء أطر قانونية جديدة، مثل تعديل الدساتير أو اعتماد بروتوكولات دولية» باعتبارها ضماناً للحقوق والسيادة القانونية.  إذ لا يكفي سنّ قوانين عابرة؛ ينبغي أن تتكفل الضمانات الدستورية بأن تظلّ الحقوق المكتسبة محمية ضدّ تحوّلات سياسية مستقبلية. ذلك يعني إما إدراج بعض البنود الأساسية في نصّ دستوري (اعتراف بالتعدد الثقافي/اللغوي، ضمان حكمٍ محلي موسّع، مَنْع تطبيق تفسيرات قضائية تعيد وصم النشاط السياسي) أو اعتماد ملحق دستوري مؤقت يقيّد إعادة تفسير القوانين المرتبطة بالسلام. الضمانات الدستورية تَمنح القانون المتكامل صفة «اللاعودة» التي تطلبها العدالة الانتقالية كشرط لضمان عدم تكرار الانتهاكات.

ومن التجارب الدولية، يمكن استحضار تجربة كولومبيا، حيث عملت النصوص القانونية المصاحبة لاتفاقات السلام على تعديل الدستور، وضبط قانون العدالة الانتقالية بما يسمح بملاحقة الجرائم الجسيمة ضمن سياق حصانة أو برامج إعادة تأهيل. إن ضمان التحوّل القانوني والسياسي الذي يرسمه أوجلان لا يمكن أن ينجح إن لم تتوفّر ضمانات دستورية مؤسساتية تحمي الحقوق المكتسبة وتمنع الانكفاء. في متن مَاِيفِستو «دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي» يقول أوجلان إن التمديد لمفهوم «الديمقراطية» يتطلّب «إطاراً قانونياً»؛ وبعبارة أخرى: “لا يكفي أن تُلقى الأسلحة، بل يجب أن يُنتقل الكفاح إلى السياسة ضمن قوانين واضحة وعادلة”.

تقدم التجارب الدولية عبرة واضحة: النجاح مرتبط بمدى تزامن التسليم الميداني مع آليات قانونية مؤسسية ومراقبة موضوعية. تجربة كولومبيا تُظهر كيف أن إنشاء محكمة انتقالية (JEP) كأداة قضائية متخصّصة يمكن أن يوفّر بدائل قانونية للمقاتلين ويمنح الدولة والفاعلين ثقة قانونية للتقدّم، شريطة أن تتسم العملية بالشرعية والفعالية. بالمقابل، تجارب مثل لومي في سيراليون تُبيّن مخاطر الحصانات الواسعة غير المشروطة التي تغذي إحساسَ إفلاتٍ من العقاب وتثير استياء الضحايا، بينما اتفاقات مثل مابوتو في موزمبيق تبين أهمية إدخال حزم لامركزية وإصلاحات مؤسسية مصاحبة لتفكيك الحركات المسلحة. استخلاص الدروس يعني أن اللجنة التشريعية الوطنية يجب أن تدرس هذه النماذج وتستغل العناصر الناجحة (محاكم متخصّصة، حصانات مشروطة، إصلاح مؤسسي) وتتفادى الأخطاء (حصانات كلية/غياب رقابة فعالة).

من ثمّ، ما المقصود بضمانات دستورية؟ أولاً، إدراج الحقوق الكردية-الثقافية والسياسية في الدستور أو عبر تعديلات دستورية تُلقي عبء الدولة نحو الاعتراف والمساواة. ثانياً، إرساء مبدأ عدم التكرار (guarantee of non-recurrence)، وهو أحد مبادئ العدالة الانتقالية التي أقرتها الأمم المتحدة، وتنصّ على ضرورة تضمين التشريع والضمانات الدستورية لآليات تمنع عودة العنف أو الإقصاء. ثالثاً، آليات المساءلة والمحاسبة: الدستور أو القوانين يجب أن تضمّ حقوق الضحايا في العدالة، والتعويض، وإمكانية الطعن في حالات الانتهاكات— وهذا ما تؤكده مبادئ «الحق في الإنصاف والتعويض» للأمم المتحدة. ويتطلب ثبات التحوّل آليات تحقق شفافة قابلة للتدقيق، من قبيل لجان وطنية مختلطة (برلمانيون، ممثلون مدنيون، ضحايا، قضاة) تُرفقها آلية فنية دولية محدودة الصلاحيات (مراقب من الاتحاد الأوروبي أو بعثة فنية) لتقديم مصداقية خارجية ورفع قدرة التحقق. التحليل في مشهد الدعوة الأوجلانية يبرز أن غياب ضمانات دولية وسياسات تحقق موضوعية يعرض العملية للفشل، لذلك تفعيل دور مراقب خارجي لا يعني فقدان السيادة، بل هو أداة شرعية تعمل على تدعيم التزام كل الأطراف. وعليه أن يُرفق بآليات التنفيذ برامج تمويلية وبرامج إعادة إدماج عملية (تدريب مهني، دعم سكني، صحة نفسية، مشاريع تشغيل) تُشغّل مجتمعات ما بعد الصراع وتمنع الفراغ الاجتماعي–الاقتصادي الذي يمكن أن يسهِم في تجدد العنف. هذا ربطٌ عملي مباشر بين «القانون المتكامل» ونتائج ميدانية يلمسها الناس؛ من دون ذلك تتحول التشريعات إلى أوراق بلا تأثير.

وفي الختام، إن عملية الانتقال من «بارود» إلى «قانون» تحمل في طياتها تحديًا مزدوجًا: أولاً، إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة عبر قانون متكامل يُنظم الحقوق والواجبات – وهذا ما طرحه أوجلان في مانِيفِستو – وثانيًا، ضمان استدامة هذا التحوّل عبر تكريس الضمانات الدستورية التي تجعل التحوّل لا عرضيًّا بل مؤسسياً. بدون هذا المسار التشريعي-الضماني، تظل دعوة السلام عرضة للارتداد، بينما مع هذا المسار يمكن أن يُفتح فصلٌ جديدٌ في العلاقة بين الدولة والمكوّن الكردي – فصلٌ يُحسِن السياسة ويحوّلها من منطق القوة إلى منطق القانون، من المُعاقبة إلى الشراكة، من النزاع إلى المشاركة. وربما يتحقق ما كان أوجلان يكتب فيه: أن «لا بديل للديمقراطية» وأن السلام لن يُؤمَن ما لم يُبنى على بنية قانونية ودستورية حقيقية. والخلاصة العملية تذهب إلى أن الطريق من «البارود» إلى «القانون» يتطلب تزامن عناصر ثلاثة: قرارا ميدانياً حقيقيّاً (تسليم أسلحة مُراقَب)، قانوناً متكاملاً يضمّ تشريعات جنائية، تشريعات انتقالية وتشريعات تُعزّز الحكم المحلي وحقوق الهوية، وضمانات دستورية تُثبّت المكتسبات. إخفاق أي عنصرٍ من هذه العناصر يزيد احتمال الانتكاس. ولهذا لم تكن دعوة أوجلان مجرد نداء لوقف العنف، بل تصريح استراتيجي يضع شرطَ البناء القانوني والدستوري كمكوّن لا غنى عنه للسلام الدائم؛ إذ أن السلام الذي لا يُرافقه قانون وحصانة دستورية فعّالة يظلّ هشاً، أما القانون المتكامل والضمانة الدستورية فهما ما يحوّلان الزخم الرمزي إلى مؤسّسة دائمة.

لقد أسست دعوة أوجلان في فبراير ٢٠٢٥، طريقاً لإمكانية الخروج من الأطر الصلبة للعلاقة الكردية التركية المتوترة، طريقا لا يقوم على هدنة مؤقته، بل العمل على بناء عقد اجتماعي جديد يُقرّ بالهوية الكردية ويحوّل الحركة المسلحة إلى فاعل سياسي مدني، ويُمكّن الدولة التركية من الانتقال من منطق الأمن إلى منطق المشاركة. هذه الأفكار بلورها كتابه «مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي»، حيث ركّز على الانتقال من الدولة–القومية إلى مجتمع متعدد ومشاركة سياسية فعالة، وحثّ على تحويل بنى الـPKK  إلى أُطر مدنية والمضي نحو ديمقراطية تشاركية. وثمة محاولات لترجمة رؤية أوجلان  لجهد حكوميّ برلماني بدأ بتشكيل لجنة برلمانية مختصة لمتابعة نزع السلاح وإرساء التشريعات اللازمة (تعديل قوانين الإرهاب، قانون إعادة الإدماج، حكم محلي موسّع)، مما يعكس أن السلطة التركية قد تبنّت، ولو جزئيّاً، إطاراً تشريعياً وتنفيذياً لتحويل الدعوة الفكرية إلى مسار عملي. وفي المجمل، قد تمثل دعوة أوجلان لحلّ حزب العمال الكردستاني لحظة مفصلية في الصراع الكردي التركي المستمر منذ عقود. لكن الحقيقة، أن نجاحها يعتمد على ما إذا كانت العملية ستفضي إلى مصالحة سياسية حقيقية أم ستتحول إلى مناورة واستجابة قصيرة الأجل في إطار استراتيجية أردوغان لإطالة أمد حكمه. إن تداعيات هذه الخطوة تتجاوز تركيا، إذ تمتد لتؤثر في ديناميات المشهد الكردي الإقليمي وتعيد تشكيل علاقات أنقرة بكل من العراق وسوريا ما بعد الأسد. وإذا أُديرت العملية بطريقة بنّاءة، فقد تمهّد الطريق لمشهد سياسي جديد للكرد في تركيا. أما إذا استُخدمت كورقة سياسية ظرفية، فقد يعاود الصراع الاشتعال، ليُعيد كلًّا من الدولة التركية والحركة الكردية إلى دوامة العنف المألوفة.

للمزيد يمكن الرجوع إلى :

عبد الله أوجلان: مانيفستو السلام والمجتمع الديمقراطي

Agit Karatas: A Voice From Imrali After 26 Years: Öcalan Dissolves the Kurdistan Workers’ Party (PKK)

Alpaslan Ozerdem: Turkey and the PKK have made historic moves toward peace – now begins the hard diplomatic work

https://theconversation.com/turkey-and-the-pkk-have-made-historic-moves-toward-peace-now-begins-the-hard-diplomatic-work-263949

A.Kadir Yildirim: Turkey’s Strategy in the Kurdish Peace Process

https://www.bakerinstitute.org/research/turkeys-strategy-kurdish-peace-process?utm_source=chatgpt.com

Call for Peace and a Democratic Society – Öcalan’s statement from İmralı

https://ocalanvigil.net/2025/05/call-for-peace-and-a-democratic-society-ocalans-statement-from-imrali/?utm_source=chatgpt.com

Burcu Ozcelik: After the PKK: Peacebuilding Challenges in Turkey, Syria

https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/commentary/after-pkk-peacebuilding-challenges-turkey-syria?utm_source=chatgpt.com

Huseyin Hayatsever: Turkey sets up parliamentary commission to oversee PKK disarmament

https://www.reuters.com/business/media-telecom/turkey-sets-up-parliamentary-commission-oversee-pkk-disarmament-2025-08-05/?utm_source=chatgpt.com

Guney Yildiz: The Kurdish Movement’s Disparate Goals and the Collapse of the Peace Process with Turkey

https://merip.org/2020/08/the-kurdish-movements-disparate-goals-and-the-collapse-of-the-peace-process-with-turkey/?utm_source=chatgpt.com

Salim Çevik: A New Phase in Turkey’s Kurdish Conflict: Ocalan’s Call and Its Implications

https://arabcenterdc.org/resource/a-new-phase-in-turkeys-kurdish-conflict-ocalans-call-and-its-implications/?utm_source=chatgpt.com

Turkey and the PKK Saving the Peace Process, Europe Report N°234 | 6 November 2014

https://www.crisisgroup.org/sites/default/files/turkey-and-the-pkk-saving-the-peace-process.pdf?utm_source=chatgpt.com

Institutional Reform 

https://www.ictj.org/institutional-reform?utm_source=chatgpt.com

Niklas Eckhardt: The legal framework for the peace process in Colombia and the precarious role of transitional justice, Verfassung und Recht in Übersee / Law and Politics in Africa, Asia and Latin America, 2016, Vol. 49, No. 4 (2016), pp. 368-392

Winthrop M. Rodgers: PKK leader Ocalan’s historic call to disarm could go to waste without external guarantors

https://www.chathamhouse.org/2025/03/pkk-leader-ocalans-historic-call-disarm-could-go-waste-without-external-guarantors?utm_source=chatgpt.com

A path forward for Colombia’s 2016 peace accord and lasting security 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى