علاقة الإمارات الكردية بالأتراك السلاجقة

تحليل: أ.د إبراهيم محمد علي مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
يشغل عبد الله أوجلان موقعًا مركزيًا في الفكر السياسي الكردي المعاصر، ليس فقط بوصفه مؤسس حزب العمال الكردستاني (PKK)، بل بوصفه فيلسوفًا سياسيًا أعاد تشكيل مفهوم الهوية الكردية وعلاقتها بالتاريخ الإقليمي. بعد اعتقاله عام 1999، تحوّل أوجلان من قائد ثوري إلى مفكر يعيد قراءة التاريخ الكردي، في ضوء ما يسميه “فلسفة الحرية الديمقراطية”. وتُعَدّ رؤيته للعلاقات التاريخية بين الأكراد والأتراك السلاجقة من أبرز محاولاته لقراءة التاريخ ليس كسجلّ للصراعات فقط، بل كميدان لتفاعل ثقافي وحضاري متبادل. فالماضي عند أوجلان ليس زمنًا منقضيًا، بل بنية رمزية حاضرة في تشكيل الوعي الجمعي الكردي والتركي معًا. ([1])
يرى أوجلان أن العلاقة بين الأكراد والترك السلاجقة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق التاريخي الواسع لتكوّن الشرق الإسلامي في العصور الوسطى. فبين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، كانت الأناضول منطقة تماس بين حضارات الفرس والعرب والأتراك، وكان الأكراد عنصرًا محوريًا فيها، لا تابعًا. من هنا، لا ينظر أوجلان إلى الأكراد كضحايا دائمين، بل كفاعلين تاريخيين ساهموا في تشكيل البنية السياسية التي انبثقت عنها لاحقًا السلطنة العثمانية. ([2])
من الثورة إلى الفلسفة – تحوّل أوجلان الفكري:كان أوجلان في بداياته تلميذًا متحمسًا للفكر الماركسي اللينيني، إذ رأى في الصراع الطبقي طريقًا لتحرير الأكراد من القهر القومي والاجتماعي. غير أن انهيار الكتلة الشرقية وتراجع النماذج الثورية في التسعينيات دفعاه إلى مراجعة رؤيته جذريًا. أدرك أن “الثورة بالسلاح” لم تعد كافية، وأنّ ما يحتاجه الشعب الكردي ليس دولة قومية جديدة، بل فلسفة اجتماعية تُعيد تعريف الحرية. ومن هنا بدأ يقرأ التاريخ بوصفه مرآة للتحولات في الوعي الجمعي، لا مجرد تسلسلٍ للأحداث. يقول في إحدى مقولاته: “إن من لا يفهم التاريخ، يعجز عن تحرير الحاضر”، وهي عبارة تلخص جوهر تحوله من الماركسية الجامدة إلى الفلسفة التاريخية الحيوية. ([3])
يتعامل أوجلان مع التاريخ ككائن حيّ متغير، لا كماضٍ جامد. ففي رأيه، الشعوب لا تُقاس بقوتها العسكرية، بل بقدرتها على بناء المعنى عبر الزمن. ومن ثم، يرى أنّ الأكراد والترك السلاجقة لم يكونوا طرفين متصارعين بقدر ما كانوا شركاء في تجربة تاريخية طويلة اتسمت بالتفاعل والصراع معًا. فالسلاجقة، الذين أسّسوا كيانًا سياسيًا واسعًا، اعتمدوا على القبائل الكردية في حماية الحدود الشرقية للأناضول، بينما استفاد الأكراد من الانخراط في الإدارة السلطانية لاكتساب النفوذ المحلي. تلك العلاقة القائمة على المنفعة والتكامل تُعد في فكر أوجلان نواة لفهم كيف تتكوَّن الهويات السياسية المتشابكة.(أوجلان، كتابات السجن 1، ص. 52).
موراي بوكشين والجذر الفلسفي لفهم أوجلان للتاريخ: تأثر أوجلان بعمق بالفيلسوف الأمريكي موراي بوكشين، صاحب نظرية “الإيكولوجيا الاجتماعية” التي تدعو إلى تجاوز الدولة القومية لصالح مجتمعات محلية حرة ومنظّمة ذاتيًا. قرأ أوجلان أعمال بوكشين في سجنه، ووجد فيها مفتاحًا لإعادة تفسير التاريخ الكردي على أساس التعاون لا الصراع. ووفقًا لأوجلان، فإن فهم العلاقة بين الأكراد والسلاجقة يجب أن يُبنى على إدراك طبيعة السلطة المركزية وكيفية مقاومتها بالمجتمعات المحلية. فالسلاجقة – كما يرى – مثلوا الشكل المبكر للدولة المركزية التي استوعبت الهويات المحلية دون إلغائها بالكامل. ([4])
ينظر أوجلان إلى التاريخ كفضاءٍ رمزي يُعيد المجتمع إنتاج ذاته من خلاله. لذلك، حين يتحدث عن السلاجقة، لا يقصد تحليلًا تاريخيًا دقيقًا فقط، بل توظيفًا رمزيًا لتجربة حكمٍ استطاعت أن تدمج عناصر مختلفة من العرب والفرس والأكراد والترك في إطارٍ واحد. فالسلاجقة بالنسبة له مثال على “السلطة التي احتوت التنوع دون أن تحلّ تناقضاته”. من هنا، يرى أنّ فشل الأكراد لاحقًا في بناء كيان سياسي موحّد لا يعود إلى غياب الوعي القومي، بل إلى غياب نموذجٍ إداري يسمح بتوازن القوى كما كان في عهد السلاجقة([5]).
ويشير أوجلان إلى أنّ مصطلح “كردستان” ورد في عددٍ من الوثائق السلاجقية، وهو ما يراه دليلاً على إدراكٍ مبكر لخصوصية الهوية الكردية. لا يعتبر هذا الوجود اعترافًا سياسيًا بالدولة الكردية، بل دليلًا على الاعتراف بالجغرافيا والثقافة معًا. بهذا المنطق، يحوّل أوجلان التاريخ إلى خطابٍ معاصر يدعم رؤيته في ضرورة الاعتراف بالتعدد القومي داخل أي كيان سياسي. فهو يكتب: “إنّ الاعتراف بالتاريخ هو الاعتراف بالآخرين الذين شاركوا في صناعته”، وهي جملة تختصر فلسفته في تجاوز الصراع القومي نحو “الاعتراف المتبادل”.([6])
فمن منظور فلسفي، العلاقة بين الأكراد والسلاجقة تمثل جدلية “الهيمنة والمقاومة” التي تولّد الهويات الجديدة. إذ إنّ وجود الأكراد ضمن النظام السلجوقي أتاح لهم تطوير شبكات تعليمية ودينية وإدارية خاصة، كما في مدارس الموصل وهمذان ودياربكر، ما أسهم في تكوين نخبة كردية مثقفة لعبت لاحقًا دورًا مهمًا في الدولة الزنكية والأيوبية. هذه الجدلية بين الاندماج والاستقلال الفكري هي التي يرى أوجلان أنّها تمثل “الوعي التاريخي المزدوج” الذي يجب على الأكراد اليوم استعادته: وعي الانتماء والانفصال في آنٍ واحد. (أوجلان، كتابات السجن 2، ص. 112).
من هنا، يمكن القول إن أوجلان يقدّم قراءة فلسفية للعلاقات بين الشعوب، قوامها الحوار التاريخي لا النقاء القومي. فهو يرى أنّ مشروع الدولة القومية، سواء تركية أو كردية، يقود حتمًا إلى القمع؛ بينما مشروع الكونفدرالية الديمقراطية يسمح بتعدد الهويات ضمن إطارٍ من الإدارة الذاتية والمجالس المحلية. بهذا الشكل، يصبح استحضار تجربة السلاجقة أداة رمزية لتوضيح إمكانات “التكامل دون الذوبان”، وهو ما يسميه بـ”الحرية في التعدد“.(أوجلان، كتابات السجن 2، ص. 141).
إنّ استخدام أوجلان لتاريخ السلاجقة كنموذج للتعايش يعكس محاولة عميقة لإيجاد جذور شرقية لفكر الديمقراطية التشاركية. فهو بذلك ينقل النقاش من الإطار الغربي للمفاهيم السياسية إلى فضاءٍ محليٍّ متجذر في التراث الإسلامي–الشرقي. إنّ ربطه بين العدالة الاجتماعية والذاكرة الإسلامية المبكرة (كعدالة عمر بن الخطاب) وبين التنظيم الإداري السلجوقي هو تعبير عن سعيه لبناء فلسفة سياسية هجينة تجمع بين القيم الروحية والحداثة السياسية.(أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، ص. 63).
وقبل أن ننتقل الى ذكر نماذج وشواهد من تاريخ العصر الوسيط (حقبة التاريخ الإسلامي) نعرض تحليلات أوجلان لهذه العلاقة عبد الله أوجلان هو المفكّر الكردي، الذي طوّر نظرية سياسية تُعنى بالهوية القومية، الديمقراطية، التحرر، وتحليل التاريخ من منظور تحرّري شبكي يُركّز على الجماعات، القيم المشتركة، التحالفات، والمقاومة. في تحليلاته يتناول الأطر التاريخية ليس فقط كماضي يُروى، بل كعناصر تُستخدم لبناء فهمٍ لواقع الصراع والهوية والتنظيم الاجتماعي الكردي والعلاقة مع القوى الأخرى كالسلطة التركية والكردية.
في كتاباته ومحاضراته، أوجلان يرى أن اللقاء بين الكرد والأتراك ليس لقاءً حصريًا للصراع، بل فيه الكثير من الشراكة، التحالف، والتفاعل الثقافي والسياسي، لكن ضمن علاقات قوة لا تكون متوازية دائمًا. من هذه الرؤية تأتي إعادة قراءة معارك مثل معلبك (مانزكرت / مانزكرتـ Manzikert)، والسياسات السلاجقة تجاه الإمارات الكردية.
من تحليلات أوجلان يمكن استخلاص النقاط التالية:
1. التحالفات الاستراتيجية :يرى أوجلان أن الأتراك السلاجقة اعتمدوا إلى حد بعيد على التحالف مع الإمارات الكردية، خاصة في مناطق الحدود مع الروم/الرومانيين البيزنطيين، لتحقيق أهداف مشتركة (كالدفاع عن الحدود أو توسعة النفوذ الإسلامي). بمعنى آخر: كانت هناك علاقة تكافلية في بعض الفترات — الكرد يحمون الحدود، الأتراك يوفرون الدعم العسكري والتنظيمي.
2. التنازل أو التعايش مقابل الاعتراف :أوجلان يشير إلى أن الإمارات الكردية في مواجهة السلاجقة غالبًا ما قبلت الاعتراف بالسلطة السلوكية لدى السلاجقة مقابل الاحتفاظ بحكم محلي أو ذاتي. في هذا الإطار، مكانة الإمارات الكردية مثّلت “حاجزاً استراتيجياً” للسلاجقة، لكن مع تنازل في الاستقلال الكامل.
3. الأدوار المتبادلة في الصراع مع البيزنطية وغيرها :من منظور أوجلان، الإمارات الكردية لم تكن فقط قصة خضوع أو التبعية، بل لعبت دوراً فاعلاً في الدعم العسكري / الاستخبارات / المخابرات العملياتية في المعارك الكبرى مثل معركة مانزكرت، حيث جنّد السلاجقة بعض القبائل الكردية.
4. الهوية والتملّك الثقافي:أوجلان يُحلّل كيف أن الهوية الكردية لم تُمحَ تمامًا تحت الحكم السلجوقي؛ تغيير اللغة أو الإدارة أو النفوذ التركي لا يعني محواً كاملاً، بل تداخلًا، تمازجًا، وضغطًا من جهة، مقاومة واستمرارية من جهة أخرى. كما يرى أن السلاجقة رغم كونهم أهل سلطة، فإنهم استفادوا أيضًا من الكيانات الكردية في التنظيم الإداري والعسكري المحلي.
5. فتح الباب أمام التحوّلات اللاحقة: بحسب أوجلان، العلاقات بين الأتراك السلاجقة والإمارات الكردية مثلت مرحلة انتقالية: إذ ساعدت في بلورة فكرة “كردستان” السياسي (أي منطقة كردية لها خصوصية إدارية أو إثنية) حتى إن لم تُشكل دولة مستقلة، لكن الفعل السياسي والمقاومة والتنظيم المحلي الكردي استمر. مثلاً، استخدام مصطلح “كردستان” في بعض المصادر السلجوقية (كما يشير أوجلان) للدلالة على منطقة مركزية إدارياً حول همدان.
الأمثلة التاريخية التي يستند إليها أوجلان :-إمارة مروان (Marwanids): الإمارات الكردية التي حكمت في ديرسمان / مَايْفَارْقِين (الحدود بين ما يُعرف اليوم بجنوب شرق تركيا وشمال العراق). العلاقة بين مرْوانيين والسلاجقة شهدت تعاونًا وتحالفات سياسية عسكرية.
إمارات عنّاز (Annazids): من الأمثلة التي تعكس التفاعل والمواجهة بين القوى الكردية والسلاجقة؛ ومنها حصار السلاجقة لمدينة حُلوان التي كانت تحت سلطة عنّاز.
خلاصة القول من منظور أوجلان: العلاقة بين السلاجقة والإمارات الكردية في العصر العباسي ليست علاقة ضعف مطلق أو توسّع صارم، بل هي مزيج من التحالف، الصراع، التعايش، والتأثير المتبادل،الإمارات الكردية أسهمت في تكوين البيئة الاستراتيجية التي سمحت للسلاجقة بالتوسع، لكنها أيضًا حافظت على قدر من الحكم الذاتي والخصوصية الثقافية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، السلاجقة استخدموا الشرعية الدينية، المؤسسات العباسية، التحالفات مع الأمراء المحليين الكرد كآليات للحكم والسيطرة، مع إعطاء مساحة تكيفية لإدارة محلية لكي لا يشعر السكان بالقهر المستمر، مما يقلل احتمالات التمرد. ومن بين الشواهد والأمثلة التاريخية أيضاً
الاتراك السلاجقة والإمارة الروادية الكردية 446هـ/1045م :
استطاع السلاجقة ([7]) وقادئهم طغرلبك تحقيق عدة انتصارات في أذربيجان سنة 446هـ/ 1045م ([8])وكان حاكمها من قبل الرواديين هو وهسوذان بن مملان بن محمد الروادي الذي لم يجد أمامه إلا الطاعة للسلاجقة([9]) وأن يحكم باسمهم ويخطب باسم الملك طغرلبك وأعطي السلاجقة([10]). الكثير من الأموال والهدايا وأخذ ابن وهسوذان رهينة لضمان الاتفاق ورجع بعد تنفيذ الاتفاق. ([11]).
وقد خضعت الدويلة الروادية وحاكمها وهسوذان بن مملان للسلاجقة منذ عام 446هـ/1045م وحكم الرواديون كنواب للأتراك السلاجقة وتوسع السلاجقة في تبريز وابهر وزنجان وقزوين والمراغة وجنزة حتى استطاعوا أن يفرضوا نفوذهم علي إقليم أذربيجان بأكمله([12]).
وواصل السلاجقة عملية الفتوحات والانتصارات وعينوا علي كل ولاية والياً ومعه قاضي وأوصوا القاضي والشحنة([13]) بالعدل في الولاية ([14]).
وقد سلم الخليفة العباسي القائم بأمر الله بالأمر الواقع وأعطي شرعية لفتوحات السلاجقة وذلك سنة 447هـ/1055م([15]) وظلت عملية الفتوحات السلجوقية منذ سنة 447هـ/1055م وظلت عملية الفتوحات السلجوقية حتى قضت علي جميع ممتلكات الأسرة الروادية الكردية في إقليم آذربيجان أما عن طريق الصلح او طريق الحرب([16]).
وبعد موت وهسوذان بن مملان حكم بعده ابنه مملان الثاني عام 451هـ/1059م وكان تعيينه علي الأسرة الروادية من قبل السلاجقة وحكم هو الآخر كنائب للسلطان السلجوقي طغرلبك وظل الحال كذلك إلي عام 463هـ/1071م (معركة مانزكرت ) وهو العام الذي عاد فيه ألب ارسلان من حملته علي الأناضول بعدها قام بإقصاء مملان بن وهسوذان عن الحكم وعين بدلاً منه والياً سلجوقياً من قبله وبذلك تكون أذربيجان قد أصبحت تحت السيطرة الكاملة للسلاجقة وسقطت الدويلة الروادية علي أيدهم وقد حصل السلاجقة علي الشرعية في حكمهم من تأييد الخليفة العباسي القائم بأمر الله لهم علي الأخص بعدما تزوج طغرلبك ابنته سنة 454هـ/1062م([17]).
صار حكام الإمارة الروادية الكردية بأذربيجان منذ عام 446هـ/1054م نواباً للأتراك السلاجقة حتى عام 463هـ/1071م مع آخر حاكم روادي وهو مملان بن وهسوذان .
من منظور أوجلان، لم يكن التحالف بين الأكراد والسلاجقة مجرد اتفاق عسكري، بل انعكاسًا لميل التاريخ الشرقي نحو التوازن بين المركز والأطراف. فالدولة السلجوقية، على الرغم من طابعها التركي، كانت مفتوحة للبنى الاجتماعية المحلية. ويشير أوجلان إلى أن العديد من أمراء الأكراد شغلوا مناصب رفيعة في الجهاز الإداري السلجوقي، مما يؤكد أنّ العلاقة لم تكن تبعية بل مشاركة مشروطة. هذه الفكرة الفلسفية عن “المشاركة المشروطة” هي ما يبني عليها أوجلان لاحقًا تصوره للكونفدرالية الديمقراطية، التي تقوم على توزيع السلطة أفقيًا لا عموديًا. (أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، ص. 18).
– الاتراك السلاجقة والإمارة الشدادية الكردية عام 446هـ/1054م :كان القائد السلجوقي طغرلبك علي درجة عالية من المهارة العسكرية وكان لدية وزير يدعي قوام الدين ناصر محنك سياسي([18]) فاستطاع طغرلبك أن يقود السلاجقة إلي عدة انتصارات ويتوسع علي حساب الكيانات المستقلة فاستطاع في عام 446هـ/1054م أن يحصل علي يمين الطاعة والولاء من أكراد الدويلة الروادية الكردية في أذربيجان فخطب له أبو منصور وهسوذان بن محمد الروادي الكردي وأطاعه وحمل له الهدايا وأصبح منذ ذلك التاريخ تابع تبعيه كاملة للسلاجقة هو ومن خلفه([19])، بعد ذلك انتقل خطر السلاجقة إلي آران والدويلة الشدادية الكردية التي حاولت أن تتبع سياسة سليمة مع السلاجقة ([20])،وعلي الرغم من محاولة أبي الأساور شاور الكردي أن كسب ود السلاجقة وعطفهم ومحاولته الحفاظ علي استقلال دويلته فإنه فشل أمام قوة السلاجقة الآخذة في الازدياد([21]).
وهنا لم يجد أبو الأساور شاور الكردي أمامه إلا أن يستخدم مهارته وفكره في إمكانية التعايش والتفاوض مع السلاجقة وخطب ودان لهم بالطاعة والولاء وأرسل الكثير من الهدايا إلي طغرلبك السلجوقي([22]) وهنا أصبحت الدويلة الشدادية الكردية تابعة للسلاجقة وفقدت استقلالها وحكمها الذاتي وإن تأخر سقوطها النهائي إلي عام 468هـ/1075م إلا أن السقوط الحقيقي يعد من بداية تبعيتها للسلاجقة([23]).
ووفق الرؤية التاريخية ورؤية عبد الله أوجلان عن علاقة الأتراك السلاجقة بالإمارة الشدادية الكردية تتمحور حول تأويل فلسفي وتاريخي عميق يعيد قراءة التاريخ الكردي ضمن إطار أوسع من الاندماج والتفاعل الثقافي بدلاً من نمط قومي معزول. أوجلان يرى أن الإمارة الشدادية، التي شكّلت نموذجاً من الإمارات الكردية المستقلة أو شبه المستقلة في العصور الإسلامية الوسطى (القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين)، تمثل تجربة مبكرة للحكم الذاتي النسبي للكرد في بيئة جيوسياسية معقدة تضم السلاجقة، العباسيين، والبيزنطيين وغيرهم.وفقاً لفكره، العلاقة بين الإمارة الشدادية ودول الجوار، ومنها السلاجقة، كانت متقلبة بين التحالف والصراع، مما يُبرز براعة سياسية كردية في البقاء ضمن مناطق تماس دائمة الصراع، وهو ما يشبه في بعض جوانبه المأزق السياسي الكردي المعاصر. لكنه لا يعيد تمجيد هذه الإمارات بوصفها نماذج قومية محضة، بل يعتبرها مراحل من الدمج الثقافي والتفاعل ضمن سياق شامل، ويركز على إعادة بناء مشروع تحرري واقعي يراعي البنية الاجتماعية والثقافية لشعوب المنطقة، مع استلهام تجربة الإدارة الذاتية التي ترسخها هذه الإمارات التاريخية كرمز له.
باختصار، أوجلان لا ينظر إلى الإمارة الشدادية والسلاجقة كدول قومية مستقلة بمعزل، بل كجزء من نسيج تاريخي متعدد الأبعاد من التفاعل والتحالفات والصراعات التي تلهم رؤيته المعاصرة حول الحكم الذاتي، وإدارة التنوع الثقافي والسياسي في المنطقة.
علاقة الإمارة العيارية الكردية بالأتراك السلاجقة : بدا تدخل السلاجقة في شئون الدويلة العيارية الكردية عام 437هـ/1045م عندما سار (إبراهيم ينال السلجوقي) إلي الدينور ، وملكها ، وتوجه إلي كرمنشاه([24]) مستغلاً صراع أبي الشوك مع عمه (مهلهل) فترك أبوالشوك الدينور ، وتحصن بحلوان([25]).
وبعد موت أبي الشوك ، وتولي مهلهل استطاع أن يدخل في حرب مع جيش (إبراهيم ينال السلجوقي) وحقق فيها النصر واستعاد الدينور ، وكرمنشاه ، وذلك عام 438هـ/1046م([26]).
وبدأت قوة السلاجقة تزداد بينما أخذت تضعف قوة الدويلة العيارية الكردية ، وحاول (طغرلبك السلجوقي) بواسطة قائده (إبراهيم ينال السلجوقي) أن يتوسع علي حساب الدويلة العيارية الكردية ، وبالفعل تم الاستيلاء علي شهرزور ، ومحاصرة قلعة تيرانشاه ، عام 440هـ/1048م([27]) ثم نجح (مهلهل الكردي) في استعادتها في نفس العام([28]).
وكان إبراهيم ينال السلجوقي ذا مقدرة حربية فائقة مكنته من تحقيق نجاحات مستمرة علي حساب الدويلة العيارية الكردية ، وكان ضمن عناصر جيشه بعض الغز التركمان([29]) ونتيجة لذلك لم يجد مهلهل أمامه إلا ادارة الأزمة وفق المتغيرات السياسية وقوة السلاجقة الغاشمة والبحث عن سبل للتعايش السلمي والمشاركة لا الاقصاء ، فأعلن طاعة السلاجقة ، فسار إلي (طغرلبك السلجوقي) عام 442هـ/1050م فأحسن إليه السلطان (طغرلبك) وأقره علي ما كان يملك من الدينور ، والدقوقا ، والصامغان . ويترك ما كان بيد إبراهيم ينال السلجوقي ، ويكون ولاءه للسلاجقة ([30]).
وفي قراءة تاريخية تحليلة تأتي رؤية عبد الله أوجلان عن علاقة الإمارة العنازية الكردية بالأتراك السلاجقة تتطابق مع تصوراته العامة عن الإمارات الكردية في العصور الإسلامية الوسطى، والتي تشمل الإمارة الشدادية والعنازية وغيرها من الإمارات الكردية التي كانت تتسم بحكم ذاتي نسبي ضمن الخلافة الإسلامية ومتفاعلة مع القوى الإقليمية الكبرى مثل السلاجقة.
حسب فكر أوجلان، وهو يتفق مع قول معظم المصادر التاريخية الإمارة العنازية مثلها مثل بقية الإمارات الكردية، كانت تمارس دوراً سياسياً وعسكرياً بارزاً، معتمدة على مزيج من الإدارة المحلية والأنظمة الشرعية والأعراف القبلية، متعاملة بدبلوماسية ومفاوضات سياسية مع السلاجقة والتركيز على الحفاظ على الاستقلالية الذاتية([31]) ضمن إطار العلاقات الإقليمية المعقدة. ([32])
أوجلان يؤكد أن هذه الإمارات الكردية، بما في ذلك العنازية، لم تكن مجرد كيانات قومية منعزلة بل كانت جزءاً من نسيج ثقافي وسياسي متعدد الأبعاد، حيث تتفاعل مع محيطها من خلال تحالفات وصراعات وتوازنات دقيقة. هذا يتطابق مع مشروعه الفكري الحالي الذي يدعو إلى الإدارة الذاتية الديمقراطية في إطار تعددي يحترم التنوع الإثني والديني، ويرفض فكرة الدولة القومية الأحادية المركزية.بالتالي، العلاقة بين الإمارة العنازية والسلاجقة – بحسب رؤية أوجلان – هي علاقة أوسع من مجرد صراع أو تبعية، هي حالة توازن سياسي وفكري بين قوة محلية كردية ذاتية وقوة إقليمية كبيرة، تعكس تجربة تاريخية للإدارة الذاتية والتعايش ضمن بيئة سياسية متعددة القوى، مستوحاة منهجياً في مشروعه السياسي الحديث عن الأمة الديمقراطية والحكم الذاتي الذي يعزز العدالة والتعايش في الشرق الأوسط
الخلاصة أن نهاية الدويلة العيارية الكردية كانت عام 446هـ/1054م ([33])، وإن كان هناك بعض أعضاء اسرة الإمارة العنازية قد حكموا بعد هذا التاريخ،([34]) ولكنهم حكموا باسم السلاجقة([35]) ، وكانوا ولاة للدولة السلجوقية([36]).
علاقة الأتراك السلاجقة بالدولة المروانية الكردية:
رؤية عبد الله أوجلان حول العلاقة بين الإمارة المراونية الكردية (المعروفة أيضاً بالدوستكية) وبين الأتراك السلاجقة تعكس فهمه التاريخي والسياسي لدور الإمارات الكردية ضمن السياقات الإقليمية المعقدة في العصور الإسلامية الوسطى.بداية، الإمارة المراونية الكردية تأسست في منطقة ديار بكر وامتدت مراكزها إلى مدن مهمة مثل ميافارقين وآمد. هذه الإمارة كانت تتمتع بحكم ذاتي وتفاعلت مع الموقع الجيوسياسي الذي كانت فيه بين قوتين كبيرتين: الدولة البيزنطية من جهة، ودولة السلاجقة التركية التي كانت تتوسع من جهة أخرى.وفقاً للرؤية المستقاة من المصادر، كان لحكام الإمارة المراونية الكردية علاقات متواصلة ومتغيرة مع السلاجقة حيث تميزت العلاقة بمحاولات تحالف وتحفظ على الاستقلالية من جهة، في ظل تهديد وتوسع السلاجقة من جهة أخرى. فالأمير أبو نصر أحمد بن مروان الكردي (حاكم المراونية) حاول بطريقة دبلوماسية أن يوازن بين خطر السيطرة والغزو السلجوقي([37]). وبين الحفاظ على استقلال الإمارة من خلال المصاهرة والتحالف وتقديم الهدايا للسلاجقة. ومع ذلك، فإن السلاجقة تدخلوا تدريجياً في شؤون الإمارة، وقيدوا أماكن ممتلكاتها، وجندوا بعض الأكراد في جيشهم، وأخيراً استحوذوا على أجزاء كبيرة من الإمارة حتى سقوطها في أيدي السلاجقة في أواخر القرن الحادي عشر.بالنسبة لدور الكرد في الجهاد، تعكس الإمارة المراونية -مثلها مثل الإمارات الكردية الأخرى- دوراً في الدفاع عن حدود الدولة الإسلامية في مواجهة الدولة البيزنطية، حيث كانت تعمل على حفظ أمن الحدود الشرقية لعباسيد والسلاجقة، وكانت تشارك في المعارك التي كانت ترى أنها دفاع عن الدين والأرض، وهذا الدور يجعل الإمارة جزءاً من الجهاد الإسلامي في تلك الحقبة في إطار حماية الأراضي الإسلامية من الغزوات البيزنطية وغيرهم.
خلفاء الأمير أبي النصر أحمد بن مروان الكردي وتبعيتهم للأتراك السلاجقة :خلف الأمير (أبو نصر أحمد بن مروان الكردي) ابنه (نظام الدين أبي القاسم) ، وتلاه الأمير ناصر الدولة منصور وكان الأمير أبو النصر أحمد بن مروان قد عهد بولاية الدويلة من بعده لابنه نظام الدين قاسم فأحضر الوزير ابن جهير الأمير نظام الدين قاسم وعزاه في أبيه ثم بايعه بالحكم وكذلك فعل القضاة والشهود والعلماء([38]).
وقد كانت أملاك الأمير أبو نصر أحمد بن مروان موزعة بين ولدية نظام الدين قاسم وسعيد ومنذ هذه اللحظة فصاعداً أخذ الوهن يدب في أوصال الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية([1]) والسبب في ذلك صراع الأمير نظام الدين قاسم مع أخيه سعيد فضلاً عن التبعية للسلاجقة وتدخل السلاجقة في أغلب شئون الحكم وأن كان الأمير نظام الدين حاول أن يسير علي سياسة أبيه ليحد ويقلل من تدخلهم([39]) ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن حيث واكب ضعف الأكراد المروانيين ازدياد نفوذ السلاجقة الأتراك.
وقد كان استقرار الدويلة الدوستيكية – المروانية الكردية مهدداً دائماً بسبب السلاجقة رغم إعلان الدويلة تبعيتها لهم ، وكانوا يدفعون خطرهم في كل مرة بمبالغ مالية وهدايا ثمينة ولكن بعد وفاة طغرلبك عام 455هـ/1063م ومجيء ابن أخيه (ألب أرسلان) إلي الحكم ازدادت استفزازات السلاجقة([40]) ومع ذلك استطاع الأكراد في الإمارة المراونية ان يديروا هذا الملف السياسي باقتدار تحت شعار مشاركة لا اقصاء توازن لا هيمنة.
تعرضت ديار بكر إبان حكم الأمير أبي نصر الدولة أحمد لغارات سلب ونهب وقتل من قبل الغز الأتراك وكان أول هجوم لهم عام 433هـ/1041م فعاثوا فساداً في نصيبين وميافارقين واستطاع الأمير أبو نصر أحمد صدهم بصعوبة([41]) وكان هناك مجموعة من الغز موجودة في منطقة الجزيرة وكان عليهم قائد يدعي (ناصفلي) فراسله (سليمان بن الأمير نصر الدولة المرواني) وعرض عليه الصلح([42]) وطلب منه البقاء لإنتهاء موسم الشتاء ليهاجموا الشام سوياً فوافق (ناصفلي) وكان (سليمان) يكسب وقتاً حتى جاءت له القوات المساندة من قرواش حاكم الموصل ، وأعد سليمان وليمة دعا إليها القائد (ناصفلي) فلما وصل إليه قبض عليه وأودعه السجن ،فلما علم قرواش بذلك أعد جيشاً كثيفاً واشترك معه أكراد البشنويه ودارت حرب حامية الوطيس حاول الغز خلالها أن يتركوا ما غنموا مقابل أن يأمنوهم ويتركوهم يرحلون ولكن الأكراد رفضوا وظلوا يقتلون في الغز حتى رحلوا بعد تكبدهم خسائر فادحة([43]).
وقد عاود الغز الهجوم علي ديار بكر وجزيرة ابن عمر وسلبوا ونهبوا الكثير وكان ذلك عام 343هـ/1042م([44]) وتصدي لهم الأكراد وزعيمهم الأمير أبو نصر أحمد فرحلوا إلي الموصل ، وعمل الغز بأهل الموصل أعمالاً شنيعة من نهب المال هتك الأعراض وقتل الرجال. واستطاع قرواش في نهاية الأمر التصدي لهم وهزمهم بصعوبة شديدة فمدحه الشعراء بهذا المفتح وممن مدحه ابن شبل قائلاً :
| يأبي الذي أرست نزار بيتها | في شامخٍ من عزة المتخير([45]) |
وحاول الأمير أبو نصر أحمد أن ينهي صراعه معهم عن طريق طلبه منهم مغادرة البلاد وعدم العودة إليها في مقابل أن يطلق سراح قائدهم (ناصفلي) ويعطيهم مبلغاً من المال قدره خمسون ألف دينار وبالفعل تم ذلك([46]).
وبذلك انتهي خطر الغز علي ديار بكر بعدما عانت كثيراً من عنفهم وهمجيتهم فتشتت شمل جيش الغز وتمزقت صفوفهم وعاد الأمن والاستقرار إلي الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية في ظل أميرهم أبي نصر أحمد بن مروان الكردي([47]) ، الذي حكم لمدة ثلاثة وخمسين عاماً لم يروعة فيها مروع ولا عدوٌ إلا من قائدين من الغز هما ( ناصفلي وبوقا)([48]).
علي ضوء ذلك : يكون الأمير أبو نصر أحمد قد استطاع أن يقضي علي خطر الغز باتباعه طريقتين الأولي هي الحرب والخدعة والثانية هي الدبلوماسية والحنكة فبعد حربهم تصالح معهم ودعاهم إلي ترك البلاد حتى يعود الأمن والآمان إليها.
جهاد الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية ضد الروم : كان أكراد الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية يمتلكون نية صادقة للجهاد في سبيل الله ضد الروم والدولة البيزنطية فقد تصدي الأكراد لهجمات الروم علي البلاد التي وجدوا فيها حتى قبل قيام دويلتهم الكردية المستقلة.
فقد هاجم الروم مدينة أرزن وميافارقين عام 331هـ/942م وسبوا وأحرقوا الكثير فحاول أهلها ومن بينهم الأكراد التصدي لهم وبالفعل عاد الروم عن هاتين المدينتين ولكن بعد أن عانتا منهم الكثير من السلب والنهب([49]).
وتعدد هجمات الروم علي المشرق الإسلامي ومن بينهما هجومهم علي آمد عام 355هـ/965م وحاصروها([50]) وقتلوا وأسروا الكثير من سكانها ثم انصرفوا عنها وساروا إلي نصيبين([51]) فهرب أهلها إلي الجزيرة والشام وظل الرومان مدة طويلة يقاتلون في هذه المناطق ولما استعصت عليهم عادوا إلي بلادهم بعد ما غنموا غنائم كثيرة([52]).
وظلت الأمور تسير علي هذا الشكل حتى قامت الدويلة الدوستكية – المروانية الكردية علي يد باد بن دوستك الكردي الذي حسن علاقته مع الروم وارتبط معهم بمعاهدة حتى يضمن عدم مهاجمهتم لبلاده ويأمن شرهم([53]) وبهذه المعاهدة قويت العلاقات بين الطرفين وأصبحوا شبه أصدقاء. ([54])
وساءت الأوضاع في ديار بكر ومات الأمير نظام الدين قاسم عام 472هـ/1079م وخلفه ناصر الدولة منصور وحاول أن يستغل بعض الشيء من تبعيته للسلاجقة ، ويخطب باسمه بجوار اسم الخليفة([55]) فزاد هذا الأمر الأحوال سوءاً ودفع بالسلاجقة نحو الاستيلاء الكامل علي جميع ديار بكر.
وتجمعت الجيوش تحت قيادة فخر الدولة ابن جهير وزير السلاجقة الذي عمل من قبل وزيراً للدويلة الدوستكية – المروانية الكردية وبدأت المدن تسقط علي يديه المدينة تلو الأخرى بداية من عام 476هـ/1083م ولم يأت عام 479هـ/1086م حتى سقطت جميع ديار بكر وسلمت آمد وميافارقين إلي السلطان السلجوقي ملكشاه([56]) وبذلك خضعت هذه المناطق للسلاجقة وعن طريق وزيرهم شرف الدولة بن جهير([57]).
غاية القول:فإنرؤية أوجلان تجمع هذه التجارب التاريخية ضمن إطار الحوكمة الذاتية والكفاح السياسي والثقافي الكردي، مع التركيز على دبلوماسية التكيف والبقاء في مواجهة القوى الكبرى، واستلهام ذلك في مشروعه لتحرير واستقلال الأكراد بطرق سلمية وديمقراطية في العصر الحديث .
وبالوقوف بنظرة تأملية تحليلة نجد أن تنوع العلاقات بين الاتراك السلاجقة والإمارات الكردية ما بين السلم وفترات الحروب والدبلوماسية والتعاون المشترك والاتحاد ضد العدو الخارجي وفق ما ورد في معظم المصادر نجدها تتفق مع تنبع فلسفة العلاقات لدى أوجلان من قناعته بأنّ الصراع ليس نقيض التفاعل، بل شكله الأولي. فهو يرى أن كل علاقة بين الشعوب تبدأ بالتنافس وتنتهي بالتكامل. من هذا المنطلق، لم ينظر إلى الأتراك السلاجقة كغزاة، بل كقوة تاريخية اندمجت تدريجيًا مع النسيج المحلي للأكراد. هذا الاندماج لم يكن خاليًا من العنف، لكنه أفرز ما يسميه أوجلان “الذاكرة المشتركة”، أي البنية الرمزية التي تجعل الشعوب المختلفة قادرة على التعايش رغم تناقضاتها. ([58]).
لم يكن التحالف بين الأكراد والسلاجقة مجرد اتفاق عسكري، بل انعكاسًا لميل التاريخ الشرقي نحو التوازن بين المركز والأطراف. فالدولة السلجوقية، على الرغم من طابعها التركي، كانت مفتوحة للبنى الاجتماعية المحلية. ويشير أوجلان إلى أن العديد من أمراء الأكراد شغلوا مناصب رفيعة في الجهاز الإداري السلجوقي، مما يؤكد أنّ العلاقة لم تكن تبعية بل مشاركة مشروطة. هذه الفكرة الفلسفية عن “المشاركة المشروطة” هي ما يبني عليها أوجلان لاحقًا تصوره للكونفدرالية الديمقراطية، التي تقوم على توزيع السلطة أفقيًا لا عموديًا. ([59]).وفي تطور بارز في 2025، دعا أوجلان إلى “تحول كبير” في العلاقة بين الأكراد والأتراك، مؤكدًا أن هذه العلاقة ليست مجرد صراع دائم بل علاقة أخوة تحتاج إلى إصلاح جذري. أكد في رسالته من سجن إمرالي: «العلاقة بين الأكراد والأتراك ليست نزاعًا أبديًا، بل هي علاقة أخوة مختلة تحتاج إلى إصلاح جذري وشجاع».
في رسائله التي أطلقها في 2025، دعا أوجلان إلى دولة ديمقراطية تعددية تضمن حقوقًا سياسية وثقافية متساوية للأكراد. قال: «الحداثة الرأسمالية سعت إلى تفكيك الوحدة بين الأكراد والترك، والآن يجب أن نؤسس على الأخوة والعدالة لإصلاح ما انكسر». هذه الرؤية تمثل تطورًا هامًا في فكر أوجلان، إذ تحول من نضال مسلح خلال عقود إلى فلسفة تؤكد على الحوار وحقوق الإنسان والتعددية.كما يُنظر إلى حزب العمال الكردستاني وفق هذه الرؤية كقوة سياسية هدفها بناء دولة تضمن الكرامة والحقوق عبر الحوار، وتفكيك أنماط الصراع المستمرة التي استمرت عقودًا في حوض المتوسط والشرق الأوسط.الاعتراف والتحديات السياسية المعاصرةتُظهر السياسات التركية الرسمية تجاه القضية الكردية في العقدين الأخيرين ترسخًا لفكرة التصنيف الأمني للأكراد باعتبارهم تهديدًا، ما أدى إلى تعميق الصراعات. يعارض أوجلان هذا التصنيف وينتقده بقوله: «السياسة التركية تجاه الأكراد كانت دائمًا تصنفهم كأعداء، وهذا خطأ كبير يؤدي إلى مزيد من الانفصال والصراعات».
يؤكد في خطابه: «التحول هو أن نرسم مستقبلًا يقوم على التعددية الديمقراطية، لا على الإقصاء والتفكيك». هذا التوجه يمثل محاولة فلسفية وسياسية لإعادة صياغة العلاقة بين الأكراد والترك على أسس جديدة.يشدد أوجلان على أن بناء السلام يستوجب شجاعة سياسية ومصالحة حقيقية تشمل التنازل والتعاون وتقاسم السلطة بشكل عادل، وهو ما شكل توصيفًا جديدًا للعمل السياسي داخل الحركة الكردية.الخاتمةيقدم التاريخ المشترك بين الأكراد والأتراك، لا سيما من خلال علاقة الأكراد بالسلاجقة، نموذجًا غنيًا يمكن الاعتماد عليه في فهم التعقيدات الحالية للنزاع التركي-الكردي. عبد الله أوجلان بتصوراته السياسية يرى أن تجاوز النزاعات القائمة بحاجة إلى بناء علاقة جديدة قائمة على الاعتراف والشراكة والعدالة. تحقيق هذا الهدف يتطلب فهمًا دقيقًا للماضي، والاستعداد للمصالحة السياسية الشاملة، مع الاهتمام بالحقوق الإنسانية والثقافية.هذه النظرة تفتح أفقًا للإمكانات المتجددة في المنطقة نحو مستقبل متعدد القوميات قائم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ينتقد أوجلان التصور القومي الحديث الذي يربط الهوية بالدولة. فبالنسبة له، الأكراد لم يكونوا يومًا بلا هوية لأنهم لم يمتلكوا دولة، بل كانت هويتهم نتاج تفاعلٍ اجتماعي وثقافي مستمر مع جيرانهم، وعلى رأسهم الأتراك. وهو يربط هذا الفهم بفلسفة الحضور التاريخي، إذ يرى أنّ الهوية ليست معطًى ثابتًا، بل سيرورة تتكوَّن من العلاقات. يقول في نصٍ آخر: “لا توجد هوية في العزلة، فكل هوية تنشأ من العلاقة بالآخر”. لذلك، فإنّ العلاقة بالأتراك السلاجقة تمثّل بالنسبة له مرآة لتطوّر الذات الكردية في التاريخ، أكثر من كونها علاقة استعمار أو تبعية. ([60])
يمثل فكر عبد الله أوجلان محاولة لإعادة صياغة الوعي الكردي عبر قراءة جديدة للتاريخ. فهو يرى أنّ العلاقة بين الأكراد والأتراك السلاجقة لم تكن صدامًا مطلقًا، بل تجربة تاريخية معقّدة أنتجت أشكالًا من التعايش والتكامل. ومن خلال استدعاء هذه العلاقة، يسعى أوجلان إلى بناء فلسفة سياسية معاصرة تقوم على تجاوز الدولة القومية نحو نموذجٍ من الحكم الذاتي الديمقراطي المتعدد. إنّ فلسفته في العلاقات تستند إلى مبدأ “الحرية في الارتباط”، أي أنّ الكيان الاجتماعي لا يكون حرًّا إلا بقدر ما يعترف بالآخر ويتفاعل معه.
وبهذا، يمكن القول إنّ أوجلان قد حوّل التاريخ إلى مختبرٍ للفكر السياسي؛ فالسلاجقة بالنسبة له ليسوا ماضيًا بل رمزًا لإمكانية التوازن بين السلطة والمجتمع. ومع أنّ قراءته لا تخلو من مثالية، فإنها تفتح بابًا لفهمٍ جديد للتاريخ بوصفه مجالاً للحوار بين الشعوب، لا سجلاً للهيمنة. وهنا تتجلّى أهميته الفكرية: تحويل الألم التاريخي الكردي إلى فلسفة للتعايش الإنساني.
الهوامش
[1]([1]) عبد الله أوجلان، كتابات السجن 1: جذور الحضارة، لندن: بلوتو برس، 2007، ص. 5).
[2]([2]) (عبد الله أوجلان، كتابات السجن 2: حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية في القرن الحادي والعشرين، لندن: بلوتو برس، 2011، ص. 27).
[3]([3]) (أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، القامشلي: حركة المجتمع الديمقراطي، 2015، ص. 9).
[4]([4]) (موراي بوكشين، The Ecology of Freedom: The Emergence and Dissolution of Hierarchy، تشيكو: AK Press، 1991، ص. 214).
[5]([5]) (أوجلان، كتابات السجن 2، ص. 89).
[6]([6]) (أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، ص. 44). وكذلك راجع: أوجلان، عبد الله. كتابات السجن 1: جذور الحضارة. لندن: بلوتو برس، 2007.أوجلان، عبد الله. كتابات السجن 2: حزب العمال الكردستاني والمسألة الكردية في القرن الحادي والعشرين. لندن: بلوتو برس، 2011.أوجلان، عبد الله. الكونفدرالية الديمقراطية. القامشلي: حركة المجتمع الديمقراطي، 2015.
Bookchin, Murray. The Ecology of Freedom: The Emergence and Dissolution of Hierarchy. Chico, CA: AK Press, 1991.
[7]([7]) السلاجقة : فرعاً من الغز الأتراك وهم من أهل السنة وزعيمهم يدعي دقماق شارك هو واتباعه في قيام الدولة السلجوقية التي ظهرت في القرن الخامس الهجري ، الحادي عشر الميلادي لتشمل خراسان وما وراء النهر وإيران والعراق وبلاد الشام وآسيا الصغري وكانت الري في إيران ثم بغداد في العراق مقر السلطنة السلجوقية وساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السني بعد أن أوشكت علي الإنهيار ، وعن ذلك أنظر:
– كليفورد .أ.بوزورث : الأسرات الحاكمة ، ص 136.
([8] ) ابن الأثير : الكامل ، جـ6 ، ص 172.
وكذلك : ابن خلدون : تاريخ ابن خلدون ، المصدر السابق ، المجلد الرابع ، ص 606.
([9] ) محمد عبد العظيم أبو النصر : السلاجقة تاريخهم السياسي والعسكري ، الطبعة الأولي ، عين للدراسات والبحوث ، القاهرة ، 2001م ، ص 55.
([10] ) الشيزري : المصدر السابق ، ص 17.
([11] ) كليفورد.أ. بوزورت : المرجع السابق ، ص 136.
([12] ) Lieut – Col- P.M.Sykes ; History of perisia, London , 1915, P.99.
وكذلك : محمد محمود أدريس : تاريخ العراق والمشرق الإسلامي خلال العصر السلجوقي الأول ، مكتبة نهضة الشرق ، جامعة القاهرة ، 1985 م ، ص 137.
وكذلك : سامية مهدي عفيفي : الوزراء الفرس من الدولة الطاهرية حتى نهاية دولة السلاجقة ، رسالة ماجستير غير منشورة ، 1405هـ/1985م ، ص 104.
([13] ) الشحنة : أحد المناصب الإدارية التي استحدثها السلاجقة ويعين صاحبها من قبل السلطان السلجوقي ويكلف بمهام بوليسية وإدارية وحربية وصاحبها يقوم بإدارة المدينة والمحافظة علي أمنها واستقرارها وملاحقة الخارجين علي النظام ومعاقبة المسيئين وهي تشبه وظيفة حكمدار المدينة عن ذلك انظر :
– محمد عبد العظيم : نظم الحكم وأهم مظاهر الحضارة في دولة الاتراك السلاجقة ، ص 135.
([14] ) الكرماني (افضل الدين الكرماني) : بدائع الأزمان في وقائع كرمان ، دراسة وترجمة وتعليق ثريا محمد علي ، راجع الترجمة بديع محمد جمعة ، الطبعة الأولي ، عين للدراسات الإنسانية ، القاهرة ، 2000، ص 55.
([15] ) بدر عبد الرحمن محمد : الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في العراق والمشرق الإسلامي ،الطبعة الأولي ، مكتبة الانجلو المصرية ، القاهرة 1989م ، ص 109.
وكذلك : محمد فخر الدين : الدولة العباسية وأخبار الدول الإسلامية التي عاصرتها ، دار الكتب القاهرة ، 1351هـ ، ص 279.
وكذلك : صالح عبد الرحمن عثمان الجميل : سلاجقة الشام في النصف الثاني من القرن الـ5 الهجري ، الرياض ، 1403هـ- 1983م ، رسالة ماجستير غير منشورة ، ص 16.
([16] ) الذهبي (مؤرخ الإسلام الحافظ) ت 748هـ/134م : العبر في خبر من غبر ، تحقيق فؤاد سيد ، جـ3، التراث العربي ، الكويت ، 1961م ، ص 210.
وكذلك : عصام شباور : تاريخ المشرق العربي الإسلامي ، الطبعة الأولي ، دار الفكر اللبناني ، بيروت ، 1999م ، ص 18.
وكذلك : أحمد كمال الدين حلمي : السلاجقة في التاريخ والحضارة ، الطبعة الثانية ، دار ذات السلاسل ، الكويت 1406هـ/1986م ، ص 28.
([17] ) الدواداري (أبو بكر عبد الله بن ابيك) ت 736هـ: كنز الدرر وجامع الغرر ،الدر المطلوب في أخبار بن ايوب ، جـ7 ، تحقيق سعيد عبد الفتاح عاشور ، القاهرة ، 1392هـ/ 1972 ، ص 21.
وكذلك : ابن الوردي (زين الدين عمر ) ت750هـ: تتمة المختصر في أخبار البشر ، جـ1 ، جميعة المعارف ، القاهرة ، 1285هـ ، ص 367.
وكذلك : كليفورد .أ.بوزورث : المرجع السابق ، ص 136.
([18] ) الأصفهاني : خريدة القصر، ص 42.
( [19] ) ابن الأثير : الكامل ، جـ6، ص 172.
([20] ) كليفورد .أ.بوزورث : المرجع السابق ، ص 138.
([21] ) Hugh Kennedy; Op.Cit . ,P. 260
وكذلك : محمد أمين زكي : دول وإمارات ، المرجع السابق ، ص 92.
([22] ) ابن الأثير :الكامل ، جـ6، ص 172.
([23] ) كليفورد .أ.بوزورث : المرجع السابق ، ص 138-139.
([24]) ابن الأثير : الكامل ، جـ6 ، ص 127.
([25]) محمد أمين زكي : مشاهير الكرد ، المرجع السابق ، جـ2، ص 102.
([26]) ابن الأثير : الكامل ، جـ6 ، ص 130.
وكذلك : أبو الفدا : المصدر السابق ، جـ2 ، ص 168.
([27]) الأصفهاني : (الفتح بن علي بن محمد البنداري) : كتاب دولة آل سلحوق ، مطبعة الموسوعات ، مصر ، 1318هـ/1900، ص 8.
([28]) ابن الأثير : الكامل، جـ6 ، 138.
([29]) ابن شداد (عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم )ت 589هـ/1193م : الإعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة ، حققه يحيي زكريا عبادة ، جـ1، القسم الأول ، وزارة الثقافة ، دار إحياء التراث العربي ، دمشق ، سورياً ، 1991 م ، ص 326.
([30]) ابن الأثير : الكامل، جـ6 ، ص 155.
([31]) ابن خلدون : تاريخ ابن خلدونم4، ص 624.
وكذلك : محمد محمود ادريس : المرجع السابق ، ص 135.
([32]) البدليسي : المصدر السابق ، ص 41.
([33]) أبو الفدا : المصدر السابق ، جـ2 ، ص 173.
([34]) محمد محمود ادريس : المرجع السابق ، ص 95.
([35]) ابن خلدون : تاريخ ابن خلدون، م4، ص 624.
[36]([36]) أبو الفدا : المصدر السابق ، م4، ص 426.
وكذلك : محمد أمين زكي : دول وإمارات ، المرجع السابق ، ص 130.
38 الفارقي : المصدر السابق ، ص 178.
40. ابن العبري : تاريخ الزمان ، ص 93.
41. عماد الدين خليل : المرجع السابق ، ص 114.
وكذلك : محمد الخضري بك : المرجع السابق ، ص 565.
42. ابن الأثير : الكامل ، جـ 6 ، ص 43.
43. ابن العبري : الزمان ، ص 93.
44.ابن الأثير : الكامل ، جـ6 ، ص 45-46.
وكذلك : ابن خلدون : تاريخ ابن خلدون ، م4، ص 312.
(45). عبد الرقيب يوسف : المرجع السابق ، ص 215.
(46). محمد أمين زكي : دول وإمارات ، المرجع السابق ، ص 115.
47. الفارقي : المصدر السابق ، ص 176.
وكذلك : عبد الرقيب يوسف : المرجع السابق ، ص215.
48. ابن الجوزي : المصدر السابق ، جـ7 ، ص 330
49. الأنطاكي : المصدر السابق ، ص 115.
وكذلك : محمد حسين الزبيدي : العراق في العصر البويهي ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، 1969، ص 77.
(50). أبو الفدا : المصدر السابق ، جـ2 ، ص 106.
(51). ابن الأثير : الكامل ، جـ5 ، ص 345.
(52). الأنطاكي : المصدر السابق ، ص 207-208.
53. الفارقي : المصدر السابق ، ص 206-207.
55. البدليسي : المصدر السابق ، ص 33.
([56]). الأصفهاني : آل سلجوق ، ص 70
([57]). ابن الأثير : الباهر ، ص 12.
([58]).(أوجلان، كتابات السجن 1، ص. 103).
([59]).(أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، ص. 18).
([60])أوجلان، الكونفدرالية الديمقراطية، ص. 57).وكذلك راجع أوجلان، عبد الله. “أوجلان يدعو إلى تحول كبير في علاقة الأتراك والأكراد.” الشرق الأوسط، 18 مايو 2025.”تسعة قرون من العلاقات الكردية التركية قبل معاهدة لوزان.” موقع نلكا، 29 ديسمبر 2024.”قراءة في رسائل القائد عبد الله أوجلان حول المبادرة السلمية.” المبادرة للدراسات، 12 يوليو 2025.”عبد الله أوجلان.. تركيا ديمقراطية لكل مواطنيها.” المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية، 13 مارس 2025.”ثقافة كردية.” ويكيبيديا العربية، 5 فبراير 2015.



