مقالات

بين القضية الفلسطينية والكردية: ازدواجية المعايير في السياسة الدولية

بقلم د. طه علي أحمد

مع وصول النظام العالمي، إلى واحدةٍ من أخطر مراحله التاريخية، تبدو عملية “الفَرز” واحدةً من أهم الاقترابات Approach التي يمكن من خلالها تتبع مسار التحولات التي تطرأ على هذا النظام العالمي. فـ “الفَرْز”، أو “الرَصْد”، أو حتى استكشاف التفاصيل الدقيقة المؤثِّرة في هذه التحولات من شأنها نشر الوعي بشأن هذه التفاصيل وتعميقها بل والبحث في سُبُل التعامل معها واحتواء تداعياتها.

إن واحدةً من السِمات التي تكشف عنها التطورات الأخيرة في العلاقات الدولية، هي ظاهرة “ازداجية المعايير” Double standards التي يكثُر الحديثُ بشأنها حالياً، والواقع أن تنامي الاهتمام بهذه الظاهرة إنما يرجع لارتباطها بالقضية الفلسطينية، وهي قضيةٌ محورية في المشهد السياسي العام بالشرق الأوسط نظرا لتجذر أبعادها القومية، كونها صراعاً حول عروبة فلسطين، أو الدينية، حينما يدور الصراع حول “إسلامية” أو “يهودية” الأرض الفلسطينية محل الصراع، ولهذا تتقدم القضيةُ الفلسطينية على ما سواها من قضايا لا تقل أهمية في الشرق الأوسط مثل الانتهاكات وقوع جزءٍ، ليس صغيراً، من الأراضي السورية تحت الاحتلال (تتجاوز 8 آلاف كيلو متر) عقب عمليات عسكرية تركية مستمرة على مدار السنوات الأخيرة.

غير أنه، وبجانب البُعْدَين القومي والتاريخي، يمكن النظر إلى هذا الخلل في التعامل مع الحالتين الفلسطينية والكردية، من خلال “الواقعية” Realism كمنظورٍ يسعى لتفسير العلاقات الدولية انطلاقاً من اعتبار القوة Power والمصلحة القومية National interest بمثابة المحدد الأساس لتفسير سلوك الفاعلين على المستوى الدولي، سواء كانوا “دول” State actors، أو فاعلين غير دول None-state actors كالمنظمات الدولية أو الحركات ذات الاهداف النضالية من أجل التحرر أو التأكيد على هويات مُعينة مثل “منظمة التحرير الفلسطينية”، ومنظمة “حزب العمال الكردستاني” وغيرها من حركات التحرر فيما سبق، غير أن اعتبار هذه الحركات شرعية أو وصفها بـ “الإرهابية” إنما يخضع لرؤية الفاعل الذي يقوم بذلك. فعلى سبيل المثال، اعتادت السلطات الفرنسية، خلال الفترة من 1954 – 1962م، أن تطلق وصف الـ “إرهابي” على كل من ينتمي إلى حركة التحرير الجزائرية، إلا أنه مع تبدُّل الأحوال على مستوى العلاقات الفرنسية الجزائرية، ونتيجة لاعتبارات المصالح السياسية صرَّح الرئيس الفرنسي “إمانويل ماكرو”، خلال حملته الرئاسية وأثناء زيارته للجزائر في فبراير 2017، “إن الاستعمار جزءٌ من التاريخ الفرنسي. إنه جريمةٌ، جريمةٌ ضد الإنسانية، إنه وحشيةٌ حقيقية”.

إن تفسير ما سبق يحيلنا إلى الاجتهادات النظرية التي تسعى لتفسير السلوك السياسي، على المستوى الدولي، والذي يتحدد وفقاً لاثنين من المحددات التي حكمت عملية تفسير السياسة الخارجية للفاعلين في النظام الدولي بشكلٍ عام، وهما “المصلحة” و”القوة”. ولهذا فإن السلوك السياسي للفاعلين الدوليين إنما هو محصلة تفاعل القوة والمصالح، وبعبارة أخرى فإن هذا السلوك السياسي ما هو إلا مخرجا للصيغة: القوة × المصلحة = السلوك السياسي. وفي إطار هذه الصيغة تكون المصالح بمثابة المحدد لاتجاهات هذا السلوك السياسي. وفي ضوء ذلك، وبنظرة على سلوك فاعل دولي كبير كالولايات المتحدة نجد أنه رغم الدعم الأمريكي لنظام الشاه رضا بهلوي في إيران لتنتزع شَطِّ العرب من العراقيين، إلا أن الإدارة الأمريكية قد ساندت العراقيين في حربهم ضد إيران (22 سبتمبر 1980 – 20 أغسطس 1988م)، لكنها لم تتخلى عن علاقاتها السرية مع إيران كما كشفت لاحقا واقعة أو “فضيحة” إيران كونترا جيت، بل إن واشنطن هي التي قادت التحالف الدولي لإسقاط صدام حسين في عام 2003، واحتلال العراق من 2003 – 2011م.

وعلى هذا، فإن منطق المصلحة وموازين القوة، تبدو المؤشر الأهم على المعايير المعمول بها على الصعيد السياسي الدولي، الأمر الذي يبرز ما يبدو أمام العالم كـ “إزدواجية معايير”، أو ما يسميه البعض بـ “الكيل بمكيالين” أو حتى بمكاييل عديدة، وبالتالي لا يبدو للقانون الدولي ومعاييره وقيمه قُدرةً على الصمود إلا في إطار مصفوفة المصالح وموازين القوة، وهو ما يُفسر سَيل الانتهاكات التي يتعرض لها القانون الدولي حول العالم، كما أن في ذلك ما يفسر السلوك الإسرائيلي (ضد العرب) والتركي (ضد الكرد والعرب أيضا).

ما سبق يعني أن “إزدواجية المعايير” تُعَدُّ واحدةً من السمات المميزة للسياسة الدولية، بل إنها تضرب بجذورها في تاريخ الحضارات الغربية، والتي بدأت مع تأسيس النموذج الديمقراطي بأثينا في أواخر القرن الـ 16 ق م، والتي استمرت حتى عام 338 ق.م. ورغم الإرهاصات الديمقراطية التي يعتبرها الأوروبيون مرجعية لهم، إلا أن ذلك لا ينفي توسُّعَ الإمبراطورية اليونانية من شبه جزيرة اليونان وجزيرة كريت، من خلال عددٍ من الحروب مثل (الحروب البونية)، واستولت على سوريا عام 68 ق.م، ثم دخلت في صراعات توسعية مع الأسر البطلمية التي كانت تحكم مصر حيث تمكنُّو من هزيمة البطالمة في مصر في “معركة اكتيوم البحرية” عام 31 ق.م وتحويل مصر إلى ولاية رومانية، الأمر الذي يتناقض مع القيم الديمقراطية الأثينية المزعومة.

مثالٌ آخر يمكن الإشارةُ إليه عند النظر لتحول بريطانيا نحو نموذج الملكية الدستورية في عام 1688، في إطار نظام الحكم “البرلماني”، ثم تطور المسيرة الديمقراطية، لكن ذلك – أيضاً – لا ينفي أن الإمبراطورية البريطانية قد توسَّعَت بشكلٍ استعماري Imperial ليشمل غالبيةَ مناطق العالم من الهند إلى مُعظم مناطق القارة الافريقية حتى وُصِفَت بكونها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، وبطبيعة الحال لم يكن في ممارساتها أية أصداء للقيم الديمقراطية التي زعم الانجليز أنهم جاؤا ليرسوها في إطار ما عُرِفَ بـ “عصر السلام البريطاني” Pax-Bretanica، لتعقُّبِها الولايات المتحدة التي سَعَت بنفس النهج الترويج لما عُرِفَ بـ Pax-Americana  أو السلام الأمريكي، أو بعبارةٍ أخرى “العولمة” على النموذج الأمريكي.

رُغم الإطار القيمي الذي ترفعه الولايات المتحدة حينما تقدم نفسها للعالم كمدافعٍ عن قيم الديمقراطية والضامن الأول للسلام العالمي، إلا أن أهم ما يميز السياسات الأمريكية حول العالم، وفي الشرق الأوسط على وجه التحديد هو “ازدواجية المعايير”، النابع من تغليب المصالح على القيم، والذي تحكمه تحالفات الولايات المتحدة ومصالحها السياسية في المقام الأول. ويتجلَّى ذلك في تناقض المواقف الأمريكية بشأن ما يجري على الأراضي السورية، فرغم انخراط المكون الكردي (وحدات حماية الشعب) مع الولايات المتحدة في إطار التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” وهزيمته في مارس 2019م، إلا أن التواطؤ الأمريكي مع التدخلات التركية المتواصلة في الأراضي السورية، والتي أسفرت عن وقوع جزء من الجغرافيا السورية تحت الاحتلال التركي، يؤكد تناقض الموقف الأمريكي، إذ تمضي السلطات التركية في مساعيها نحو “تتريك” سياسياً وثقافيا، بمعنى إخضاعها للسيطرة والإدارة التركية من جهة، وطَمْس الهُوية الكردية لغالبية سكان هذه المناطق، وفَرْض الهوية التركية من جهة أخرى.

بجانب ذلك، فرغم المزاعم الأمريكية بدعم المكون الكُردي في مساعيه للحصول على كيانٍ يضمن الحفاظ على الحفاظ على الهُوية الكردية تحت مظلة مجتمعية ديمقراطية، إلا أن إدراج “حزب العمال الكردستاني” على قوائم التنظيمات الإرهابية التي يعتمدها الكونجرس الأمريكي يؤكد خلاف ذلك. فحزب العمال، ورغم كونه “حركة مقاومة” تسعى لرد الاعتبار للهوية الكردية في تركيا أمام الطَمْس القَسري الذي مارسته الدولة التركية منذ نشأتها في 1923م، في ظل سيطرة النُخَب القومية التركية. فواشنطن التي تتعاون مع الكُرد في الحرب الإرهاب هي ذاتها التي انخرطت في إطار المؤامرة الدولية  – متعددة الأطراف – لاعتقال القائد عبد الله أوجالان بالعاصمة الكينية نيروبي في 15 فبراير 1999م.
التناقض الأمريكي المذكور يتعزَّز مع غياب موقفٍ فاعلٍ أمام العمليات العسكرية التركية في الأراضي السورية بزعم خلق ما تسميه أنقرة بـ “منطقة آمنة” بدأت بعملية “درع الفرات” (24 أغسطس 2016 – 29 مارس 2017)، وعملية “غُصْن الزيتون” (25 يناير 2018). هنا نشير إلى تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون في يناير 2019 الذي قال فيه ” لا نعتقد أن الأتراك سيشنون حملةً عسكريةً دون التنسيق معنا، على الأقل حتى لا يتعرضوا لقواتنا، وكذلك عملا بالتزام الرئيس بعدم التعرض للمعارضة السورية التي قاتلت معنا”. رغم ذلك، قامت القوات التركية بإطلاق عملية عسكرية عرفت باسم “نَبْع السلام” في أكتوبر ونوفمبر 2019. وفي 1 ديسمبر 2022 أبلغت واشنطن تركيا عن طريق وزير الدفاع لويد أوستين، رفضها لأية عملية عسكرية في سوريا، رغم ذلك أطلقت تركيا عمليةً أخرى حملت اسم “المخلب والسيف” في نوفمبر 2022، بل إن تركيا قامت أخيرا (في  اكتوبر 2023) بتنفيذ بضربات جوية في شمال سوريا.
التناقض الأمريكي تعبر عنه، بشكل أكثر وضوحا، تصريحات الرئيس السابق دونالد ترامب، بتاريخ 9 أكتوبر 2019، حينما أراد تبرير عدم مواجهته للعمليات العسكرية التركية في سوريا، إذ قال ما نصه: “لم يساعدنا الكرد  في الحرب العالمية الثانية، لم يساعدونا في معركة النورماندي مثلا”، وهو ما يعني تجاهل الرئيس الأمريكي للدور المحوري للكرد في التصدي لتنظيم داعش في كل من سوريا والعراق. كما أن الكلمات السابقة لترامب تعيد إلى الأذهان الموقف الأمريكي السلبي تجاه القضية الكردية حينما أسهم الأمريكان في إسقاط محاولتي “جمهورية أرارات” في جنوب شرق تركيا من 1927 – 1930، و”جمهورية مهاباد.

النهج الأمريكي يؤكده موقف واشنطن من القضية الفلسطينية أيضاً، ففي حين يضع الكونجرس الأمريكي “منظمة التحرير الفلسطينية” على قوائم الإرهاب منذ العام 1975، رغم أن الإدارة الأمريكية تقيم علاقات من المنظمة الفلسطينية منذ العام 1993 وذلك بموجب تشريعٍ يوقِّع عليه الرئيس الأمريكي كل ستة أشهر، نجد أن وزارة الخارجية الأمريكية قد أزالت حركتي “كاخ” و”كهانا حي”، اليهوديتين المتطرفتين، في مايو 2022، من القائمة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية سالفة الذكر. بل إنه ما ان انطلق القتال بين حركة حماس والسلطات الاسرائيلية في 7 أكتوبر 2023، إلا وانتقل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لتل الأبيب معلنا الدعم ومساندة ما أسماه “حق اسرائيل في الدفاع عن النفس”، ثم أعقبته زيارة للرئيس الأمريكي جو بايدن للتأكيد على ما قاله بلينكن، ثم انطلق الدعم العسكري المفتوح، والذي تراوح ما بين المساهمة بخبراء عسكرين ونقل أسلحة وذخائر وصولا لنقل اثنين من حاملات الطائرات وغواصة نويية إلى البحر المتوسط بزعم حماية إسرائيل، رغم أن هذه الكثافة في الدعم العسكري الأمريكي التي لم يكن لها مثيل وقت حرب اكتوبر 1973م، تعني أن ثمة خطراً يتجاوز أمن اسرائيل ليصل إلى تهديد للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط لاسيما، مع تنامي الحديث عن تحولات في بعض التفاصيل المكونة للنظام العالمي تقودها روسيا والصين على المستوى العسكري (في أوكرانيا والشرق الأوسط)، أو الاقتصادي (مساعي الصين لخلق تكتلات اقتصادية منافسة للهيمنة الأمريكية)، وعلى هذا تبرز المصلحة الأمريكية ذات الصلة بمكانتها في هيكل النظام العالمي أحد مداخل تفسير السلوك الأمريكي الداعم لاسرائيل بشكل مطلق، والتغاضي عن انتهاك السلطات الإسرائيلية لكافة قرارات الأمم المتحدة  الداعمة لحقوق الفلسطينيين، وهو ما يؤكد على ازدواجية المعايير كنهج استراتيجي للولايات المتحدة.
مثالُ آخر يؤكد على ذلك النهج يبرز مع قيام واشنطن بإزالة اسم السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، بعد أن دفع السودان مبلغ 335 مليون دولار كتعويضٍ عن هجمات تنظيم القاعدة على سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا عام 1998م، وكأن اعتبار السودان “دولةً راعية” للإرهاب من عدمه كان مرهوناً بدفع مبالغ مالية وليس مرهوناً بصدق هذه المزاعم أم لا، بل إن رفع اسم السودان من جانب واشنطن من القائمة المذكورة، إنما جاء في إطار الحديث عن التطبيع كان إسرائيل والتوقيع على اتفاق بهذا الصدد في 23 أكتوبر 2020م، ما يعني أيضا أن إسترضاء واشنطن إنما يمر عبر تل أبيب.

ازدواجية المعايير كعنوانٍ للسياسة الغربية
ازدواجية المعايير تبدو أكثر وضوحاً في السياسة الغربية إذا ما ألقينا نظرةً مُقارنةً بين موقف الغرب من الحرب الإسرائيلية على غزة والحرب الروسية على أوكرانيا. ففي رسالةٍ مُوحدةٍ بعد ساعات من انطلاق الحرب في غزة (7 اكتوبر 2022م) اتفقت غالبية القوى الغربية على منح إسرائيل الحق فيما اعتبرته “دفاعاً عن النفس”، وتبرير  انتهاكات السلطات الاسرائيلية بحق الفلسطينيين، وهو ما عزَّزته ممارسات وسائل الإعلام الغربية المُنحازة بشكل مطلق للرواية الإسرائيلية بفضل تأثير السيطرة اليهودية على المؤسسات الكُبرى في عالم المال والإعلام.

الموقف الأوروبي من القضية الكردية يعكسه الموقف المتناقض بشأن الكرد الذين ساهموا في بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يتجلَّى في مواقف الدول الأوروبية من “حزب العمال الكردستاني”؛ ففي  28 فبراير 1986، اُغتيل رئيس الوزراء السويدي “أولوف بالما”، وقد اتهمت السلطات السويدية “حزب العمال الكردستاني” باغتيال بالمه، وفي أعقاب ذلك فُتِحَت في ألمانيا ما يُسمَّى بـ “قضية دوسلدورف” حيث تمَّت مقاضاة قادة حزب العمال بمن فيهم قائد الحزب عبد الله أوجالان، وفي 1985م فرضت ألمانيا حظرا على نشاط الحزب، ثم تبعتها كل من فرنسا وأمريكا واسرائيل وانجلترا لينتهي الأمر بوضع حزب العمال الكردستاني في قائمة الإرهاب التابعة للاتحاد الأوروبي بعد عام 1990م. غير أنه بعد ذلك بـ 34 عاما قَضَت محكمةٌ سويديةٌ بعدم مسؤولية الحزب في اغتيال أولوف بالمه، كما قضت محكمة بلجيكية بأن حزب العمال الكردستاني ليس منظمة إرهابية. رغم ذلك، إلا أن الموقف الأوروبي الذي تسيطر عليه الضغوط التركية (كما برز أخيراً عند مساومة السويد لتسليم أنقرة أشخاص أكراد على أراضيها مقابل الموافقة على انضمامها للناتو)، والصورة الذهنية بشأن حزب العمال التي يُشكِّلُها الإعلام الذي تدعمه تركيا، لا تزال تتجاهل الأحكام التي تنفي صفة “الإرهابي” حزب العمال الكردستاني التي أقرَّتها الأحكام سالفة الذكر.

لكن ذلك لا ينفي تأييد بعض القوى الأوروبية لبراءة حزب العمال الكردستاني، ففي السويد – مثلا – وضع “حزب اليسار” قضية حزب العمال على رأس أولوياته، حيث دعا لرفع لشطب اسم “حزب العمال الكردستاني” من قائمة “المنظمات الإرهابية في مؤتمره العام لعام 2016م. وبالفعل في في 16 يوليو 2020م قال المتحدث باسم السياسة الخارجية السويدية إن قضية شطب حزب العمال الكردستاني من قائمة المنظمات الإرهابية ستكون على جدول أعمال السويد والاتحاد الأوروبي بعد إغلاق مقتل رئيس الوزراء أولوف بالما.  في 23 أبريل 2011م، ألغت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي حُكْماً سابقاً لها بإدراج حزب العمال الكردستاني على لائحة الإرهاب.

ازدواجية المعايير كحجر الزاوية في السياسة التركية
ما سبق، من صِبغةٍ انتقائية، تؤكدُها الازدواجيةُ الصارِخةُ في السياسة الإقليمية للدولة التركية التي تُنَصِّب نفسها قائداً للعالم الإسلامي، بحكم تاريخها الاستعماري العثماني، في حين أنها تُعَدُّ أولى الدول ذات الأغلبية المسلمة التي اعترفت بإسرائيل في مارس 1949م، بل إن مسار العلاقات الإسرائيلية التركية منذ ذلك التاريخ على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، إنما يتناقض الخطاب “الشعبوي” الراديكالي الذي يتبنَّاه الرئيس التركي وغيره من قادة حزب العدالة والتنمية الحكام بشأن نصرة الحق الفلسطيني. ولعل أخر الأمثلة الدالة على ذلك، هو الموقف الناقد للرئيس التركي ووزير خارجيته، والذي وصل إلى حد الهجوم على اسرائيل ووصفها بالدولة الإرهابية والعنصرية، في الوقت نفسه الذي تمضي العلاقات بين الطرفين عند مستوياتها المتقدمة التي بلغت ذروتها مع تعزيز التقارب بينهما حيث عاد السفير التركي لإسرائيل في مطلع العام الجاري (11 يناير 2023م) ليعلن نية أنقرة رفع قيمة التبادل التجاري مع تل أبيب إلى 15 مليار دولار (بزيادة 52%)، وذلك رُغم العبارات الحادة التي اعتاد الرئيس التركي على توجييها للاسرائيليين، وهو ما دفع رئيس الحكومة التركي الأسبق، أحمد داوود أوغلو، لانتقاد سياسات أردوجان في منشور على موقعه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” بتاريخ 23 نوفمبر 2023م، قال فيه: “لماذا تستمر شحنات النفط من (ميناء) جيهان (جنوبي تركيا) إلى إسرائيل؟.. لماذا تستمرّون في إرسال المواد الغذائية، والأسمنت، والحديد والصُّلب إلى إسرائيل؟.. إذا ذهب من طرفنا (إلى إسرائيل) الوقود الذي تستخدمه الطائرات الإسرائيلية، وإذا ذهب من طرفنا (إلى إسرائيل) طعام جنود إسرائيل، فعار عليكم، عار عليكم”. الكلمات السابقة، وهي صادرة عن أحد أبرز المفكرين الاستراتيجيين في تركيا، والذي يوصف بكونه منظر ومهندس السياسة الخارجية التركية التي تولى إدارتها لسنوات عديدة، هذه الكلمات تكشف حدود السياسة التركية تجاه الحرب الدائرة على الأراضي الفلسطينية، فرغم الشعارات التي أطلقها الرئيس التركي ووزير خارجيته، “هاكان فيدان” في العديد من المناسبات والتي هاجم فيها إسرائيل واصفاً إياها بـ “البربرية” و”العنصرية”، لكن كما سبقت الإشارة فإن الدولة التركية لم تحرك ساكنا على الأرض بشأن ترجمة هذه الشعارات بشكلٍ عقابي للحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي يؤكد ما جاء في كلمات داوود أوغلو بشأن ازدواجية المعايير في سياسات رجب طيب أردوغان.

شكلٌ صارخٌ آخر لازدواجية المعايير يتمثل في حالة حزب العمال الكردستاني، الذي اقتصرت مطالباته على الإدراة الذاتية في المناطق ذات الغالبية الكردية، ورغم انخراطه في أعمال قتالية منذ نشأته إلا أن الحزب قد أعلن من جانبه عن وقف إطلال النار عدة مرات لكن غلبة التيار القومي، وتمكُّن ما يُعرَف بـ “الدولة العميقة” من مفاصل صنع القرار في الدولة القومية قد أجهض كافة المساعي التي كانت تهدف لتسوية القضية الكردية ووقف الهجمات التي يشنها الجيش التركي على معاقل الحزب داخل تركيا وفي شمال العراق بما أسفر عن مقتل نحو 50 ألف شخص تابعين للحزب.

فالرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، ذات الأصول الكردية، الذي كانت لديه ميول لإحداث حراك لحل القضية الكردية، يعتقد بشكلٍ شائع أنه تم اغتياله بالسُم على يد قوى متطرفة ترفض حل القضية الكردية، لاسيما وأن رُفات أوزال استخرجت من مقبرته، بناء على أوامر من النيابة، وتم تشريحها ليخلص تقرير النيابة التركية أن أسباب وفاته “مُريبة”. والحال نفسه بالنسبة لرئيس الوزراء السويدي “بالمه”، والذي أحاط عملية اغتياله الغموض، لاسيما وأن أولوف بالمه كان معروفا بمواقفه الصارمة ضد الفصل العنصري والطاقة النووية، وضد حرب فيتنام، وكان يدعم الحكومات الشيوعية في كوبا ونيكاراغوا، ولم يكن في حالة عدائية مع حزب العمال الكردستاني بل صديقاً الأمر الذي يستبعد تورط الحزب في عملية اغتياله ويعزز احتمالات تورط قوى غربية رأسمالية في هذه العملية، لكن رغم ذلك إلا أن مؤسسات الدولة في السويد لم تتخذ موقفاً إيجابياً وتصحح سياساتها تجاه حزب العمال الكردستاني الأمر الذي يؤكد على تجذر منطق “ازدواجية المعايير” في بنية صنع القرار الأوروبية، وذلك على خلفية شكل هيكل القوى المؤثرة في دوائر صنع القرار، واتجاهات المصالح كما تم التأكيد على ذلك مسبقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى