
بهجة كاسحة وكرنفال ألوان صاخبة وحضور بازخ للتاريخ والتيمات الفلكلورية، في أجواء يخيم عليها روح أسطورية قادمة من أزمنة خلت. هذه هي المشاهد المتكررة لأهم الاحتفالات الكردية، وكذا لعدد من الشعوب والإثنيات والدول في أجزاء مختلفة من القارة الأسيوية. عيد النوروز. أو محاولة تطريز البهجة بالمقاومة في جسد أسطوري يشتعل وهجا كل عام في الحادي والعشرين من مارس. حينما تضرم النار في شعلة “كاوا الحداد” في كل المناطق الكردية إعلاناً عن قدوم عيد رأس السنة الجديدة. فلماذا للنوروز كل هذه الخصوصية، ولأي حد يختزل يوم ٢١ مارس، بكل تيماته التراثية وسماته المثيولوجية، وجود ووجدان وذاكرة الشعب الكردي؟
يشهد المجال الكردي في السنوات الأخيرة، نشاطًا كبيرا على صعيد الكتابة والإعلام والاهتمام بالثقافة وما يرتبط بالهوية. ومن ثم، ولأن العامل الثقافي والرمزي ضروريا لتأسيس الجماعات والعصبيات، وهذا يدركه الكرد جيدا، ويحاولون التعبير عنه من خلال عمل متعدد الأبعاد، مثل تقصي التاريخ والبحث في خزائن الكتب والملاحم والسرديات والشفويات لإكمال الصورة [1]. ولهذا، ثمة محاولات دؤوبة لأن يعيد التاريخ وبقايا الميثولوجيا شظايا الماضي ويلضمها في عقد واحد. لتظهر كسبيكة سردية تفسر الكثير من الراهن الكردي. وتهدف هذه المحاولات بالأساس، للاقتراب من إمكانية ضبط إيقاع الحاضر على أوتار الماضي البعيد. وبالتأكيد، ثمة حدث واحد يمكن له أن يحتمل في طبقاته كل هذا؛ إنه النوروز. حدث التأسيس المركزي في المخيال الكردي. حدث الماضي والحاضر، كما سنرى في هذه الدراسة.
وتعني أسطرة التأسيس التركيز على الأساطير والمدارك عن أحداث في الماضي البعيد، وبما يشير إلى “العراقة” و”الجذور” الضاربة في القدم من جهة، والدور الكبير للتكوينات الاجتماعية المتمايزة في التاريخ من جهة ثانية، وكذلك قابلية الاستمرار في الحاضر والمستقبل، ومن ذلك أسطورة كاوا والأساطير عن العقائد القديمة واللغات والأديان والممالك. بصورة يُفهَمُ منها أن أسطرة التأسيس هي نوع من «إدماج» العناصر والمدارك على اختلافها لتكوين صورة عامة على أنها جزء من معلوم ومتعين الجوامع الكردية. إن أساطير التأسيس تجعل الجماعات قادرة على نسج تاريخ جديد، وذي تأثير مديد في أعضائها، وتمدّهم بالأسباب والذرائع للعمل والتضامن. وقد تساعد الأسطرة الجماعات “المنقسمة” بصورة خاصة لأنها تضعها تحت مظلة شعورية وعناوين مُدركة. وأسطرة التأسيس هي “تعيين” الجماعات الكردية أيضًا بالعودة إلى الماضي [2]. ومحاولة البحث عن مشتركات، تعيد بناء الهوية تصلح للآن.

نيوروز .. قراءة في البدايات
النوروز مهرجان سنوي يمثل بداية العام الجديد للعديد من الشعوب، أبرزها الكرد والفرس. اعترفت اليونسكو به كتراث ثقافي غير مادي للبشرية، ويعتبره الكرد احتفالًا بهويتهم القومية الكردية .هناك وجهات نظر مختلفة حول أصل المهرجان وأساطيره وطريقة الاحتفال به وتأثيره الثقافي والسياسي. ومع ذلك، لا يزال من الممكن تتبع آثار الديانة الزرادشتية، وهي الديانة الأصلية، لدى كل من الشعبين الكردي والفارسي. يؤمن الكرد، كشعب بلا دولة، بأن النوروز يعود إلى نشأة الإمبراطورية الميدية [3] حوالي 700 قبل الميلاد. وفقًا للميثولوجيا الكردية، قام كاوا الحداد – الذي يعتبره الأكراد جدًا لهم – بقتل الضحاك الحاكم الظالم. ولنشر خبر انتصاره، أشعل كاوا النيران على قمم الجبال. منذ ذلك الحين، أصبح إشعال النيران طقسًا أساسيًا في احتفالات النوروز ، وأصبح يمثل انتصار الخير على الشر[4].
وفقًا لعدة باحثين، فإن أقدم السلائف التاريخية لعيد النوروز ترتبط ارتباطًا وثيقًا باحتفالات الاعتدال الربيعي. وجادل الكثيرون بأن النوروز، أو الأشكال التي سبقته، تم الاحتفال به من قبل شعوب الشرق الأوسط بشكل مستمر تقريبًا منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى اليوم، على الرغم من اختلاف تسمية المهرجان وشكله وشعبيته. فعلى سبيل المثال، يُعتبر النوروز يومًا وطنيًا في إيران، وما زال يُحتفل به بحماس على الرغم من مخاوف النظام الإسلامي الحاكم. دافع العديد من العلماء عن وجود صلات احتفالات النوروز مع الزرادشتية، أو عيد “ميثراغان” وغيرها من الطقوس السابقة للإسلام. وقد اعترفت اليونسكو أيضًا بوضعه كواحدٍ من أقدم المهرجانات في العالم. الإجماع العام هو أن التاريخ القديم للنوروز يرتبط باحتفالات الخصوبة وبداية تغير الفصول. وعلى حد تعبير ماري بويس: “بقدر ما تعود السجلات التاريخية، كان النوروز -واقعيًا أو من حيث المبدأ- احتفالًا ببداية الربيع، عندما تبدأ الشمس في استعادة قوتها والتغلب على ظلام الشتاء وبرودته، وعندما يتجدد النمو والنشاط في الطبيعة”. وهكذا يبدو أن النوروز قد ارتبط دائمًا بالتجديد والتناسل، وإن لم يكن بالضرورة مع أسطورة “الضحاك” أو حتى الهوية الكردية في ذلك الوقت [5].
هناك العديد من الروايات المختلفة المحيطة بكاوا والضحاك، ولكن هناك بعض العناصر الأساسية المشتركة. كان الضحاك حاكمًا آشوريًا شريرًا، يحكم الشعب الميدي. في كل يوم، كان الضحاك يطالب بإحضار مخ اثنين من الأطفال لإطعام الثعابين التي تنمو على كتفيه. أخيرًا، حشد كاوا الحداد، الذي فقد العديد من أبنائه في خدمة هذا الإمبراطور الشرير، تمردًا وقتل الحاكم الخبيث. وللإشارة إلى انتصاره على الإمبراطور الشرير أمام الشعوب المقهورة، أشعل النار في التلال – التي عُرفت لاحقًا بنيران النوروز – وبذلك أعلن عن حقبة جديدة، حقبة الحرية، وولادة الشعب الكردي. وبشكل مختلف، تروي قصص أخرى أن الكرد ظهروا بالهروب إلى الجبال، ثم نزلوا للإطاحة بالضحاك بعد أن تحولوا إلى أمة قوية ومقتدرة. وبغض النظر عن اختلاف الروايات، فإن كلتا القصتين، تمثلان إلى حد ما، بداية حقبة جديدة. اليوم، يحظى كاوا بشعبية كبيرة، ويعتبر الضحاك رمزًا شائعًا لقمع الشعوب بشكل عام، وأيضًا بشكل ملموس أكثر، لرؤساء الدول الذين يسلبون أرواح الكرد، ويهددون وجودهم المادي وهويتهم الجماعية [6].
وتشير بعض المصادر إلى أن عيد النوروز، طور في منتصف القرن السابع عشر وأواخره، روابط مع الهوية الكردية – أو على الأقل بدأت هذه الروابط في الظهور – لكن ليس مع قصة ضحّاك على وجه التحديد. كتب الشاعر الكردي أحمد خاني، وهو أحد أوائل القوميين الكرد، ملحمة “مَم و زين” عام 1692، والتي كان يأمل أن تُعزز الوعي الذاتي الكردي. كانت هذه واحدة من أوائل الأعمال المكتوبة باللغة الكردية، وكان من المفترض أن تكون الملحمة المحددة للشعب الكردي. في ملحمة “مَم و زين”، يوصف عيد النوروز بشكل مشابه لأصوله، كمهرجان للخصوبة، حيث يسافر الناس إلى الجبال للتنكر وترك انطباع جيد على الجنس الآخر على أمل العثور على شريك حياة. يكتب خاني عن كميات هائلة من الطعام في احتفالات عيد النوروز ويصف أجساد النساء بالتفصيل، إلى جانب أوصاف طويلة لشجاعة وبسالة الطبقة الأرستقراطية الكردية الحاضرة، وكيف كانوا يبحثون عن رفقاء الحياة بمسؤولية. من اللافت للنظر أن خاني كان على دراية بأسطورة الضحّاك لكنه لم يرَ أنها مرتبطة بعيد النوروز، على الرغم من أن كليهما قد يكون لهما جذور مشتركة في التقاليد القديمة للشرق الأوسط. الخلاصة، يُظهر عمل خاني أن عيد النوروز كان بالفعل ممارسة راسخة ومعروفة وغير مثيرة للجدل في المناطق الكردية في القرن السابع عشر. على الرغم من أن قصة ضحّاك لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بعيد النوروز في ذلك الوقت، إلا أن ربط خاني للحدثين في ملحمته “مَم و زين” ساعد على ترسيخ عيد النوروز كرمز للهوية الكردية. تشير الوثائق التاريخية المكتوبة إلى أن كلاً من أسطورة الضحاك واحتفالات النوروز قد حملت دلالات كردية في ذلك الوقت، ولكن دون أن يتم دمجهما في إطار واحد. ومن المثير للاهتمام، أن هذا يعني أن النوروز -كمهرجان للخصوبة والتجديد- ربما كان يُنظر إليه على أنه احتفال كردي قبل بروز ملحقاته السياسية والمثولوجية [7].

بداية الهوية بداية التسيس.. النوروز أداة للمقاومة
لم يكن “نيروز” [8] حدثًا سياسيًا، ولا يشكل رمزًا هائلا للهوية بهذا الشكل الحالي حتى الخمسينيات، حينما تبنت الحركات القومية الكردية في إيران والعراق، السردية المثولوجية الكردية القديمة “كاوا” كأسطورة تأسيس. إذ تحكي الرواية المقبولة الآن بين الأكراد عن أسطورة “كاوا” الحداد الذي قاد ثورة ناجحة ضد الملك الآشوري الظالم ضحاك، وحرر أسلاف الأكراد من طغيانه، وأشعل نارًا على قمة التل لإعلام الجميع أن الملك الضحاك قد مات. أي ببساطة بالإمكان القول، أن هزيمة “كاوا” للضحاك، أعادت الربيع إلى المنطقة بعد قرون. وتتفق اليوم، جميع الحركات الكردية في الشرق الأوسط على هذه السردية باعتبارها أسطورة تأسيسية مشتركة للأكراد، ويحتفلون بـ “نيروز” كيوم وطني لتكريم “كاوا” [9]. ويمكن أن ندرك الإيقاع الثقافي الساعي لتجذير كاوا والنوروز كهوية مقاومة تليدة، حينما نرى أن الإشارة المكتوبة الأولى التي تصور “كاوا” كثائر كردي أطاح بالضحاك خلال النوروز مُبشرًا بزمن جديد، إنما جاءت من الشاعر والسياسي القومي الشهير جكرخوين. كتب جكرخوين قصيدة “كيمه ئيز” [من أنا؟] عام 1973 في سوريا، والتي تقول:
كاوا الحداد هو جدي
قطع رأس الضحاك العدو
يوم النوروز
يتلاشى الشتاء وكذلك تفعل كل أيام المحنة
ويتحرر الأكراد [10]
هنا يتضح، اندماج احتفال النوروز كرأس السنة الكردية، مع ميثولوجيا ولادة الكرد من خلال القضاء على الضحاك. تحول النوروز إذن، من مجرد احتفال بالعام الجديد وتجدد الطبيعة من خلال الأغاني والرقصات وإشعال النيران، إلى أن أصبح صدى لقصة أسطورية تتمحور حول مقاومة الظلم – قصة يمكن بسهولة إسقاطها معاصرًا على سياسات الحكومات المختلفة في تعاملها مع المهرجان. هذا المفهوم الجديد بأن هناك “ضحاكين جدد” يضطهِدون الكرد، تم دمجه مع التصور الأقدم للنوروز كمهرجان يرتدي فيه جميع الكرد أجمل الثياب، يغنون الأغاني الشعبية، ويلعبون الألعاب. من الواضح أن جكرخوين قام بصهر المفاهيم السابقة الخاصة بالتجديد والتناسل التي صاحبت النوروز منذ البدء، مع أفكار المقاومة والتحرر ذات الأصداء المعاصرة. وبالرغم من أن هذا التحول لم يقتصر على جهود جكرخوين وحده، إلا أنه أسهم في جعل النوروز حجر أساس سياسي للحركات الكردية المعاصرة والمستقبلية. ففي ذروة الكفاح الكردي في السبعينيات، يرى المؤرخ حامت بوز أرسلان أنه لم يكن هناك حزب كردي واحد لا ينتمي بطريقة أو بأخرى إلى تراث كاوا. وبنهاية السبعينيات، أصبح النوروز احتفالًا ذات طابع سياسي، أصبح مهرجان لا يرمز فقط التجدد الاجتماعي والتناسل والهوية الكردية، بل وأضحى يضفي على النضالات المعاصرة طابعًا أسطوريًا؛ وأصبح احتفالًا وقصة عن الأكراد المتمردين الذين ولدوا من رحم المقاومة في يوم رأس السنة الميلادية [11].
ومن ثم، وتماشيًا مع ذات الدلالات، ارتبطت احتفالات النوروز بالمقاومة الثقافية والسياسية للأكراد في العديد من الدول القومية. ففي تركيا مثلا، أصبحت احتفالات النوروز عنصرًا أساسيًا في “خطاب التحرر الوطني الكردي”، واعتمد بناء علاقات الاختلاف بين الكرد والأغلبية التركية الأوسع على تفسيرات مختلفة لسردية النوروز.[12]. وظهرت المحاولات الأولى لتحويل “نيروز” إلى حدث وطني بين أكراد تركيا في أواخر السبعينيات. فقد سعى المثقفون والطلاب الأكراد – الذين نظموا أنفسهم حول منظمات ماركسية – إلى تحديد الخصائص المميزة للهوية الكردية، وتحقيقًا لهذه الغاية، وعلى غرار الحركات الكردية في إيران والعراق التي تربط “نيروز” بأسطورة “كاوا”، أعلنوا أن “نيروز” مهرجان وطني كردي لإحياء ذكرى انتصار “كاوا”. .. تم إحياء “نيروز” باعتباره أسطورة الأصل في هذا السياق، وتفسيرها على أنها تشير إلى ظهور الأكراد كأمة، وأصبحت وسيلة قوية للمطالبة بالاختلاف الكردي. وكما يُمثّل “نيروز” اليوم الذي تحرر فيه الأكراد من الاضطهاد وحققوا حريتهم، فهو يقدم أيضًا “أسطورة المقاومة”. إن الإحياء الفعلي لـ “نيروز” باعتباره ظاهرة جماهيرية واسعة الانتشار حدث بعد تبنيه من قبل حزب العمال الكردستاني [13].
بعد انقلاب عام 1980، والذي عمليًا قضى على قوى اليسار الكردي والتركي، كان حزب العمال الكردستاني هو الحزب الوحيد المتبقي صاحب النفوذ والتأثير، خاصة بعد نقل مقره بشكلٍ استباقي إلى سوريا. وقد كان بمثابة فرصة مواتية أمام حزب العمال الكردستاني، ليفرض هيمنته على الاحتفال بنوروز في تركيا، ويخلق أوجه تشابه مع نضاله الخاص، ويحوّل النوروز إلى “أسطورة معاصرة للمقاومة”. وقد تمكن حزب العمال الكردستاني من ربط نفسه بالمحتوى الأسطوري للنوروز من خلال تسمية مظلوم دوغان، وهو سجين سياسي قتل نفسه في سجن ديار بكر سيء السمعة في 21 مارس 1982، “كاوا المعاصر”، إلى جانب ربط عدد من زملائه السجناء مع “روح” و” نار” النوروز. قيل عن مظلوم دوغان أنه يمثل “روح المقاومة” حيث انتحر بدلًا من المثول أمام المحكمة [14].
وكان قد تم الكشف لاحقًا أنه أوقد ثلاث أعواد ثقاب (إشارة إلى نار النوروز) وشنق نفسه، لكن النقطة الأساسية لسردية المقاومة ظلت كما هي؛ لقد تحدى دوغان السلطة التركية – تمامًا كما فعل كاوا مع الضحاك. ويمكن القول، بهذا أصبح النوروز أداة خطابية لحزب العمال الكردستاني، ترمز إلى “بناء علاقات التمايز” الأسطورية عن التركية كهوية ودولة. والأهم من ذلك، أن هذه الرمزية دعمت أيضًا أيديولوجية حزب العمال الكردستاني السياسية وأضفت طابعًا أسطوريًا على كفاحه؛ حيث عرض الحزب مقاومته على أنها ذات غاية تاريخية. أي أن النوروز أصبح “أداة أيديولوجية” “لمناهضة الهيمنة” برعاية “حزب العمال الكردستاني”؛ وتحول إلى وسيلة مكّنت الحزب من توحيد الأكراد تحت راية مشتركة، على الرغم من الانقسامات الطبقية والمكانية والاجتماعية. لقد كان رمزًا “لمشترك تخيلي”، يمكن من خلاله تحقيق درجة مرتفعة من التجانس السياسي للكرد. وبعبارة أخرى، كان ثمة ميثولوجيا حديثة تصاغ على مهل، لتلعب ذات الدور الذي لعبته أسطورة كاوا. فمن خلال انتحار، أو استشهاد مظلوم دوغان، تمكن حزب العمال الكردستاني من خلق روايته الخاصة للنوروز [15].
ويمكن القول أيضًا، أن موضع مظلوم دوغان وعلاقته بالنوروز يتجلى، في العالم السياسي لحزب العمال الكردستاني، في مطبوعات الحزب “Berxwedan” منذ لحظة انتحاره. انتشرت “Berxwedan” على نطاق واسع في المناطق الكردية التركية وفي الشتات في ذلك الوقت. في قضايا Berxwedan التي أعقبت انتحار/ استشهاد دوغان، لُقب النوروز بـ “علامة على انتفاضة شعبنا”. وتم تأطيره بشكل مثير للاهتمام على أنه “نموذج للحياة”. حقيقة، لم يكن مظلوم دوغان مجرد شخصية “نموذجية” تحتذي بها الأجيال الثورية الكردية اللاحقة وفقط، بل إن موته مثّل مبدأً كونيًا محوريًا في أيديولوجية الحزب. حيث يمكن لعصور زمنية جديدة أن تولد من خلال التضحية بالنفس والفداء. وبالتالي يمكن القول، أن مظلوم دوغان والنوروز، يلعبان دورين مركزيين في العالم السياسي لحزب العمال الكردستاني. فأولاً، يمثل النوروز “نموذجًا للحياة”، ويُنظر إليه كشيء يمكن السعي إليه في الحياة الواقعية. وثانيًا، إن أسلوب الحياة هذا – حياة المقاومة وإنكار الذات – كما جسده مظلوم دوغان، يعد بإعادة ولادة جماعية لكردستان حرة وأمة كردية مستقلة. وبهذا، تتشابك أصول النوروز كمهرجان للخصوبة يهتم بالتجديد والتناسل، مع التشكيل الأيديولوجي الحالي للاحتفال ضمن فكر حزب العمال الكردستاني. فمن خلال المحاكاة الجماعية لنموذج الفاعلية وإنكار الذات لدى مظلوم دوغان، يمكن للمرء أن “يُعيد إنتاج” حقبة زمنية جديدة لكردستان [16].
ومن ثم فقد، تبنى حزب العمال الكردستاني احتفالات “نيروز” (بالكردية) في منتصف الثمانينيات، وبدأ يشن هجمات عنيفة في حوالي 21 مارس، خاصة في منطقة جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية. كما دعا الأكراد إلى الاحتجاج ضد الدولة التركية في أيام احتفالات “نيروز”. وردت الدولة في البداية بحظر “نيروز”. وأدت الاشتباكات اللاحقة بين قوات الأمن والمحتفلين خلال أحداث “نيروز” غير القانونية إلى مقتل وإصابة واعتقال الكثيرين. وبعد أن فشلت الدولة التركية في قمع الاحتفال الواسع بـ “نيروز”، غيرت تكتيكاتها في التسعينيات، واتبعت سياسة رسمية لفصل “نيروز” عن الأكراد. وذلك من خلال الترويج لـ “نوروز” (Nevruz) كتراث تركي، حيث بدأت الدولة بتنظيم فعاليات “نوروز” على مستوى البلاد (احتفالات رسمية بمشاركة كبار المسؤولين في الدولة، حفلات موسيقية، مسابقات رسم وكتابة مقالات للأطفال في المدارس، وما إلى ذلك). كما عزز تبني المهرجان كعيد وطني في عدة جمهوريات في آسيا الوسطى، والتي كانت جزءًا من الاتحاد السوفياتي سابقًا، سياسة الدولة التركية الجديدة تجاه “نوروز” [17].
في المقابل، اتبعت الدولة التركية استراتيجية مختلفة في التسعينيات، حيث اعترفت بـ “نوروز” كعيد ربيع تركي، من أجل فصل المهرجان عن الهوية الكردية والحركة القومية. ولهذه الغاية، أصدرت وزارة الثقافة التركية إشعارًا في 21 مارس 1991، أعلنت فيه أن “نوروز” هو تقليد متجذر في الثقافة التركية الآسيوية القديمة، وطلبت من المديريات الإقليمية للثقافة في جميع أنحاء تركيا تنظيم احتفالات “نوروز” الرسمية سنويًا اعتبارًا من ذلك العام. بعد هذا الإعلان، شرعت مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام الرئيسية ومختلف الجماعات القومية التركية في حملة مكثفة لإثبات تركية المهرجان. بذلت الدولة التركية جهودًا كبيرة بعد التسعينيات لتبرير اعتماد “نوروز” كتقليد تركي من خلال ربط أصله بآسيا الوسطى، وكان الهدف العام هو التقليل من شأن الانتماء الكردي إلى “نيروز” وموازنة القومية الكردية. وفي غضون ذلك، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، اعتمدت دول أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان المستقلة حديثًا – والتي تفترض الدولة التركية معها تاريخًا وثقافة مشتركة ويشار إليها باسم “الجمهوريات التركية” – اعتمدت “نوروز” كعطلة وطنية. وتنظر نخب الدولة إلى الاحتفال الواسع بـ “نوروز” في هذه البلدان ليس فقط كدليل إضافي على الجذور التركية / التركية للمهرجان، ولكن أيضًا كوسيلة لإقامة علاقات أوثق معها. لذلك، تم تنظيم العديد من فعاليات “نوروز” مع جمهوريات آسيا الوسطى منذ التسعينيات فصاعدًا. أقيم أول حدث من هذا النوع في 21 مارس 1993، عندما نظمت تركيا مؤتمرا دوليا بعنوان “الصداقة والأخوة والتعاون بين الدول والمجتمعات التركية” بمشاركة كبار المسؤولين في الدولة والحكومة التركية وأكثر من ثمانمائة ممثل من جمهوريات آسيا الوسطى والمجتمعات التركية في آسيا والبلقان [18].
بدأت الدولة التركية أيضًا في تنظيم الاحتفالات الرسمية في الجنوب الشرقي في التسعينيات، في محاولة لنشر تقليد “نوروز” بين الأكراد. يحضر الاحتفال النموذجي لهذا النوع مسؤولين حكوميين كبار من الدولة الذين وجهوا رسائل تضامن وسلام في خطاباتهم وأدوا ما كان يعتبر رسميًا “عادات نوروز التركية القديمة” مثل القفز فوق النار أو صنع الحديد على سندان. واتخذت عدة تدابير لتشجيع مشاركة الأكراد. حظيت هذه الأحداث التي ترعاها الدولة بدعاية واسعة النطاق من خلال التلفزيون الوطني والراديو والملصقات والنشرات، وتم توزيع الهدايا المجانية. كانت تُنظّم العروض الضخمة ذات الميزانية الكبيرة بين الفينة والأخرى. فقد تضمنت الاحتفالات بنوروز عام 1996 التي عقدت في أجدر (بلدة صغيرة على الحدود الشرقية لتركيا) بمشاركة رئيس الوزراء آنذاك مسعود يلماز، حفلات موسيقية لفنانين مشهورين، وعروض الألعاب النارية، وعروض الرقص الشعبي، وتم بث الحدث مباشرةً على العديد من القنوات التليفزيونية. ولكن، ورغم كل هذه الجهود، ظلت المشاركة الكردية في هذه الفعاليات التي ترعاها الدولة منخفضة للغاية. فقد اختار العديد من الكرد بدلاً من ذلك التجمع في احتفالات “نيروز” البديلة التي نظمتها الأحزاب المؤيدة للأكراد. وقد تم التخطيط لهذه الاحتفالات في العديد من المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد من قبل “لجان منظمة نيروز” التي تتكون من أعضاء الأحزاب المؤيدة للكرد والناشطين الكرد. كانت هذه اللجان مسؤولة عن تطوير جدول برنامج “نيروز” وتحديد الأنشطة التي ستقام والأشخاص الذين سيتم دعوتهم، والحصول على التصاريح والموافقات الرسمية اللازمة لتنظيم الاحتفالات العامة في تركيا. ومع ذلك، كانت طلبات “نيروز” تُرفَض أحيانًا من قبل سلطات الدولة لأسباب أمنية أو تخضع لقيود شديدة بشأن كيفية ومكان إقامة الاحتفالات [19].
كما شهد العقدان الماضيان أيضًا نموًا في الأعمال الأكاديمية أحادية الجانب التي تدعم وجهة نظر الدولة الرسمية بشأن “نوروز”. لقد أشار مقال قصير بعنوان “نوروز في الثقافة التركية”، نُشر في وقت مبكر من عام 1992 في مجلة Turkish Review Quarterly Digest، وهي مجلة علمية تصدرها المديرية العامة للصحافة والإعلام التركية، إلى أن: تاريخ “نوروز” قديم قدم التاريخ التركي. إذ يعود تاريخ “نوروز” إلى أسطورة ايرغينيكون. وفي هذه الأعمال ثمة تشديد على تركية كل ما يتعلق بالنوروز. إن الأسماء والممارسات المختلفة المنسوبة إلى احتفالات “نوروز” في مناطق مختلفة من تركيا تُذكر أيضًا بإسهاب وتفصيل دون ذكر للكرد. علاوة على ذلك، يتم غالبًا تسليط الضوء على الممارسات المنسوبة إلى “نيروز” على أنها تركية أصيلة: فالقفز فوق النار، على سبيل المثال، يُزعم أنه تقليد تركي قديم يدل على تنقية الجسد والعقل. ونادرًا ما تُذكر حقيقة حظر الاحتفال بالمهرجان لفترة طويلة في تركيا في هذه الأعمال، وإذا حدث ذلك فيتم ذلك ضمنيًا فقط كما في عبارة “تعرضت الاحتفالات في تركيا لانقطاع من وقت لآخر”. ولا تُذكر النسخة الكردية من المهرجان إلا في بعض الأحيان وعلى أنها تحريف للتقاليد التركية الأصلية [20].
قامت تركيا في عام 2009، بالاشتراك مع أذربيجان والهند وإيران وقيرغيزستان وباكستان وأوزبكستان، بترشيح مهرجان “نوروز” (Nevruz) بنجاح للقائمة التمثيلية لاتفاقية التراث الثقافي غير المادي لليونسكو، بوصفه تراثًا مشتركًا لهذه البلدان. لكن عند وصف الاحتفال بالمهرجان في تركيا، لم يرد في استمارة الترشيح المقدمة لليونسكو أي ذكر لعادات وتقاليد “نيروز” الكردية. إن استمارة الترشيح تسلط الضوء، بشكل خاص، على الكيفية التي يتم بها تحويل المهرجان إلى تراث داعم لسياسة “نوروز” الرسمية في تركيا. ففي الوقت الذي تُفصّل الأسماء المختلفة المنسوبة للمهرجان في تركيا (أي ، مارت دوقوزو، مارت بوزومو، سلطان “نوروز” ، مريكي، يلسرتي، يني ييل، إرغينيكون بايرامي، يوم الزهورÇiğdem Günü ، و يوم البيض Yumurta Bayramı ). ويرد بالاستمارة أيضًا، الأساطير المختلفة المنسوبة إلى المهرجان، في الأساطير الهندية والإيرانية وآسيا الوسطى، وتذكر “أسطورة Bozkurt الشهيرة” من تركيا. إلا أنه لم يرد ذكر أسطورة كاوا في أي مكان في الوثيقة. علاوة على ذلك، تدعي استمارة الترشيح أيضًا أن القفز فوق النار، وهو تقليد مرتبط بقوة بـ “نيروز”، تراث تركي خاص باحتفالات “نوروز”. وفي الواقع، ترد كلمة “كردي” مرة واحدة فقط في جميع أنحاء الوثيقة بأكملها [21].

نوروز كردي.. احتفالات بكل الألوان
وأمام كل هذا الصخب السلطوي والقومي، الذي حاول جعل النوروز تركيا احتفالا وأصلًا. وفي الجهة المقابلة تمامًا، أصبح “نيروز” يتمتع بشعبية متزايدة بين كرد تركيا كرمز للهوية، وقد اجتذبت احتفالاته على مستوى البلاد حشودًا متزايدة من جميع الأعمار والخلفيات الاجتماعية. يبدأ احتفال “نيروز” النموذجي اليوم بخطابات السياسيين والنشطاء الأكراد البارزين حول أهمية “نيروز” للهوية الكردية والحركة الوطنية، منتقدين سياسة الدولة في التعامل مع الشعب الكردي ومطالبين بالاعتراف الرسمي بالهوية الكردية والحقوق الثقافية. ويستمر الحدث بإحياء ذكرى من فقدوا حياتهم في سبيل النضال الكردي، وإلقاء رسالة أوجلان “نيروز” على الحشود، وحفلات موسيقية كردية. ومما يذكر، أن مهرجان نوروز في العامين الأخرين، يعقد في غالبية المناطق الكردية وفي المهجر تحت شعار “الحرية للقائد أوجلان والحل السياسي للقصة الكردية”. وخاصة مع منع السلطات التركية الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الذي اعتقل عام ١٩٩٩ بتواطؤ دولي أمريكي بالأساس، من لقاء محامييه وأهله، لأكثر من ثلاثة سنوات ونصف.
ويشارك الحشود بإطلاق الشعارات وتلويح الأعلام الكردية والقفز فوق النيران والغناء والرقص على الأغاني الكردية التقليدية. وتكتسي الاحتفالات في مدينة ديار بكر أهمية خاصة ليس فقط لأنها تجتذب أكبر الحشود (التي تصل أعدادها إلى الملايين)، ولكن أيضًا لأنها تشمل فعاليات “نيروز” لمدة أسبوع تتراوح بين معارض للصور الفوتوغرافية والفنون، وحلقات نقاش ومؤتمرات، وحفلات رسمية إلى حفلات موسيقية لكبار الموسيقيين الكرد. كما يشارك على نطاق واسع سياسيون أجانب وممثلو المنظمات غير الحكومية والاتحادات والناشطون السياسيون في هذه الاحتفالات. مع ذلك، لا يزال “نيروز” يشكل مصدرًا رئيسيًا للصراع بين الدولة التركية والسكان الكرد [22].
وفي كردستان العراق، مسقط رأس القومية الكردية الحديثة والتي كانت مركزًا للقومية الكردية لعقود، لطالما حاول الشعب الكردي والجماعات السياسية الكردية جعل النوروز بداية جديدة لمطالبهم السياسية، وأصبح النوروز أداة لهذا المطلب. بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، عاد بيرامرد، الشاعر والسياسي الكردي الشهير، من اسطنبول إلى السليمانية. وبدأ الاحتفال بنظام، ودعا السكان المحليين للاحتفالات من خلال تقديم الطعام والشراب الكردي على تل ماما يارا. بعد عدة سنوات، أصبح هذا النمط الجديد من الاحتفال بالنوروز من التقاليد المتبعة، وهو في الوقت الحاضر مرادف لطريقة الاحتفال بالنوروز الكردي. ويعتبر احتفال نوروز عام 1945 من أكثر الاحتفالات شهرة في التاريخ الكردي. قام سيسيل جيه إدموندز، مستشار وزارة الداخلية العراقية، والذي كان بمثابة الحاكم الفعلي، بزيارة السليمانية للمرة الأخيرة. خلال إقامته في المدينة، حضر احتفال النوروز حيث وقف الشاعر الكردي “بيكاس” أمامه وألقى قصيدة ثورية على الناس الذين تجمعوا هناك للاحتفال بالنوروز. لقد كانت لحظة لا تُنسى للمشاركين لأن الانتداب البريطاني في العراق قد لعب دورًا محوريًا في ضم هذا الجزء من كردستان إلى العراق، مما أدى إلى وأد حلم حركات التحرر الكردية من أجل الاستقلال الكردي. أصبح هذا الحدث رمزًا للمقاومة الكردية ضد القمع. وهكذا، فإن هذا التقليد قد لقي دعمًا من الأكراد، وأصبح من التقاليد الوطنية. إن حظر النوروز من قبل الحكومات العراقية من وقت لآخر قد عزز البعد السياسي للنوروز. خلال الانتفاضة الكردية في عام في 19 مارس 1991، “أعلن الأكراد نجاح تمردهم في العراق وطردوا القوات العراقية من آخر مدينة متنازع عليها، مدينة كركوك”، وتمكنوا من إضاءة شعلة نوروز هناك. بعد الحصول على الحكم الذاتي الكردي في كردستان العراق، تم الاعتراف رسميًا بنوروز باعتباره عطلة وطنية للاحتفاء بالهوية الكردية، والأيام الثلاثة التي تسبقه تعد جزءًا من تلك العطلة الوطنية. كما هو واضح، كان للأحداث التي وقعت في كردستان العراق تأثير مباشر على الأجزاء الأخرى من كردستان [23].
وفي إيران، خضع الكرد للتأثير الفارسي لفترة طويلة. ومع ذلك، فقد حافظوا على ثقافتهم إلى حد كبير. ومن المثير للاهتمام، أن الكرد وعلى غرار الفرس يحتفلون في إيران بالنوروز وفقًا للاعتدال الربيعي. ويقومون بإضاءة شعلة النوروز في الأربعاء الأخير (چوارشهمبه سوری)، ويبدأون بالاحتفال وزيارة بعضهم البعض في الأول من شهر “خاکەلێوە”. في الوقت الحاضر، يخضع نوروز الكردي في كردستان الإيرانية لتأثير جمعية أحزاب المعارضة الكردية في شرق كردستان (Rojhelat – “ناوەندی هاوکاریی حیزبهکانی کوردستانی ئێران”) وحزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK – “پارتی ژیانی ئازادی کوردستان”). يطلقون على نوروز اسمًا يتوافق مع الوضع السياسي الكردي ويطلبون من السكان المحليين الاحتفال على غرار أجزاء أخرى من كردستان. وهذا بالتأكيد يبدو وكأنه عرض سياسي ضد اضطهاد النظام الإيراني [24].
أما في سوريا فلعقود من الزمان، كان الكرد أقل نشاطًا سياسيًا من أولئك الذين يعيشون في أجزاء أخرى من كردستان الكبرى. ومع ذلك، فقد واجهوا أيضًا عقبات عندما حاولوا إقامة احتفالات نوروز. ولكن بما أن العلويين في سوريا يحتفلون بالنوروز أيضًا، فقد سهّل ذلك على الأكراد الاحتفال بالعيد. ومع الثورة السورية، واندلاع الحرب الأهلية، أصبح الأكراد السوريون مجموعة سياسية مهمة. وتمكنوا من السيطرة على منطقتهم الأصلية المعروفة باسم “روج آفا” في شمال سوريا. ومما يجب ذكره هنا، أنه حتى قبيل الحرب السورية عام 2011، لم يُمنح العديد منهم الجنسية، وكانوا يتعرضون للقمع. لكن بعد سيطرتهم على روج آفا، ومثل الكرد في إقليم كردستان العراق، أضحى الاحتفال بالنوروز قانونيا. وحاليًا، يعد النوروز عطلة وطنية لمدة ثلاثة أيام في روج آفا. ومما يذكر هنا أيضًا، أن القوات التركية عندما احتلت مدينة عفرين ذات الأغلبية الكردية، قامت أول ما قامت بتدمير تمثال “كاوا” في وسط المدينة، ليكون ذلك رمزًا لهزيمة القوات الكردية ومحاولة طمس هويتهم العرقية بالأساس. وهذا إن كان له دلالة ما، فإنما يثبت أن النوروز وشخصيته الأسطورية “كاوا” لم يُنظر إليهما كرموز وطنية من قبل الأكراد وفقط، ولكن المجموعات العرقية والبلدان المجاورة الأخرى تعتبرهما أيضًا رموزاً للهوية الوطنية الكردية [25].
إذن يمكن القول، على مدى التاريخ، استخدم الناس من ثقافات مختلفة الاحتفالات والمهرجانات كوسيلة لإظهار بهجتهم وسعادتهم ونجاحاتهم وإنجازاتهم. تبعًا للثقافة، تُطلق مجموعة متنوعة من الأسماء على هذه الأحداث، مثل المهرجانات، والكرنفالات، والمعارض، والاحتفالات، والأعياد، وهي جزء من الأحداث المحلية والإقليمية. الوطنية والدولية. تمكّن المهرجانات الناس من مشاركة ثقافتهم وخبراتهم ومعارفهم. علاوة على ذلك، يمكنها تقديم العادات والتقاليد المحلية للسياح وإظهار كيف تحتفل الدولة بأعيادها. تعتمد معظم الأحداث والمهرجانات الوطنية على البنية التحتية الموجودة بالفعل وتوفر للزوار فرصة للمشاركة في أنشطة ممتعة. يقود السكان المحليون الأحداث عمومًا [26].
ونظرًا لارتباطه بقصة كاوا وانتصار المظلوم على الظالم، اكتسب نوروز أهمية سياسية بين الأكراد. لقد مكنت سردية النوروز وأسطورة كاوا الحركة الوطنية الكردية من تتبع أصول الأكراد إلى الميديين القدماء، فبنوا بذلك أسطورة تأسيس عرقي ومقاومة للكرد. وبطبيعة الحال، تم الاحتفاء بهذه الأسطورة في العروض الشعبية في جميع أنحاء البلدات والقرى الكردية خلال احتفالات نوروز. في العروض الشعبية لهذه الأسطورة، شملت الشخصيات الملك (الضحاك – زهاك) وبعض الحراس والمستشارين وكاوا البطل وأولاده الثلاثة والآخرين الذين لعبوا دور سكان البلدة. لقد استفادت المجموعات المسرحية الحديثة أيضًا من أسطورة “كاوا آهنگر” لأغراض قومية، فقد استخدمها نشطاء أكراد عراقيون بشكل خاص في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي للمطالبة بالثورة ضد دكتاتورية البعث. فعلى سبيل المثال، خلال الحكم الذاتي الذي دام أربع سنوات لمنطقة كردستان في العراق بين عامي 1970 و1974، تم تجسيد قصة انتصار كاوا في نوروز من قبل مجموعات مسرحية مختلفة مثل فرقة مسرح السليمانية وجمعية الفنون والأدب الكردية [27].
تعد كل من احتفالات نوروز الكردية وأسطورة كاوا، أمثلة على سردية الأصل الكردي، التي أصبحت عنصرًا رئيسيًا في الهوية الوطنية الكردية، وعاملاً مهمًا في مشاريع بناء الأمة الكردية. وتم إعادة بناء نوروز، الذي تحتفل به عدة دول في جميع أنحاء الشرق الأوسط من قبل القوميين الأكراد، ليصبح رمزًا لانتصار المظلوم على الظالم، وبالتالي يرمز إلى الحركة القومية المعاصرة. فما كان مجرد مهرجان قديم قد تحول إلى أداة أيديولوجية حديثة ومؤثرة في الساحة السياسية لبناء هوية الأكراد. لقد أسهمت أسطورة نوروز وأسطورة كاوا بشكل كبير في الحركة القومية الكردية في تركيا، حيث يروج مثقفو حزب العمال الكردستاني لأساطير مشتركة عن الأصول والتاريخ والأراضي المشتركة لمواجهة عقود من سياسات الاستيعاب التي انتهجتها أنقرة [28].
وبعد، فهذه كانت محاولة لبناء سردية متماسكة تروي طبقات تاريخ النوروز، وتحوله من حدث ذو تيمة ميثولوجيه، إلى أركيولجيا واقعية في واقع الذهنية الكردية. لم تكن الأسطورة يومًا لدى الكرد حلما بمفارقة اللحظة وهرويا من واجهة سلطة، لكنها كانت ذخيرة للمقاومة ومحاولة للإنبعاث القومي الجماعي من جديد. أسطورة كاوا والنوروز لم تخلق ذاكرة جماعية وفقط، بل مهدت الطريق للاحتفاء والاحتفال الدائم بكل ما يمت للمقاومة بصلة.
المراجع
[1] عقيل سعيد محفوظ: الأكراد واللغة والسياسة – دراسة في البنى اللغوية وسياسات الهوية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ٢٠١٣، ص ٤٧
[2] نفسه: ص ٢١٩ – ٢٢٠
[3] بعدَ مقاومةٍ عتيدةٍ دامت قُرابةَ ثلاثةِ قرونٍ بأكملها في جبالِ زاغروس تجاه آشور، تتحولُ كونفدراليةُ ميديا إلى إمبراطوريةٍ عامَ 612 ق.م وذلك إثرَ تدميرِها نينوى عاصمةَ آشور وتَسويتِها أرضاً. هنا أيضاً، وبعد أَمَدٍ وجيزٍ من عمرِ هذه الإمبراطورية، ظلّت الثقافةُ الميديةُ تُشَكِّلُ أقوى ثقافاتِها، وبالأخصِّ على صعيدِ الفنِّ العسكريّ؛ حتى بعد استيلاءِ الملوكِ ذوي الأصولِ الأخمينيةِ الفارسيةِ عليها خلال أعوامِ 550 ق.م حصيلةَ المؤامراتِ السلالاتية. وللمزيد يمكن الرجوع إلى عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الخامس- القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨، ص ٧٦
[4] hewa salam khalid: Newroz from Kurdish and perian perspectives a comparative study, journal of ehhinic and cultural studies, vol 7, no 1, 116 – 130, 2020, p 117- 118
[5] Axel rudi: The PKK’s Newroz-Death and Moving Towards Freedom for Kurdistan, The Journal of Critical Global South Studies, Vol. 2, No. 1, Kurdish, Culture, Identity and Geopolitics: Toward Decolonization (Summer 2018), p 95
[6] Ibid: p96
[7] Ibid: p 97
[8]خلال التسعينات، أُجبرت البلديات الكردية، في كردستان تركيا على استخدام كلمة “Nevruz” بدلاً من “Newroz” بسبب حظر أحرف مثل Q و X و W بموجب القانون. هذه الحروف موجودة في الأبجدية اللاتينية الكردية، لكنها غير موجودة في الأبجدية التركية. لقد بُنيت تركيا الحديثة على شعار “أمة واحدة ولغة واحدة وبلد واحد” والذي لا يزال ممارسًا من قبل الدولة التركية. لذلك، تم حظر اللغات والعادات العرقية الكردية وغيرها لسنوات. ومن ثم سنلجأ في هذه الدراسة عند الحديث عن الاحتفالات الكردية لاستخدام مفردة “نيروز” في مقابل “نوروز” في الصيغة الرسمية التركية. بينما في بقية الدراسة سنستخدم مفردة “نوروز”، وهي المفردة المتعارف عليها في أغلب السياقات الثقافية والبحثية. وللمزيد يمكن الرجوع إلى hewa salam khalid: op cit, p 120
[9] Bahar Aykan: Whose Tradition, Whose Identity? The politics of constructing “Nevruz” as intangible heritage in Turkey, https://doi.org/10.4000/ejts.5000
[10] Axel rudi: op cit, p 98
[11] Ibid: p 99
[12] Jon bullock: the importance of dance at Kurdish new years celebrations, semstudennews, vol 15, no 11, spring/summer 2019, p 34
[13] Bahar Aykan: op cit
[14] Axel rudi: op cit, p 99
[15] Ibid: p 100
[16] Ibid: pp 101 – 103
[17] Bahar Aykan: op cit
[18] Ibid
[19] Ibid
[20] Bahar Aykan: op cit
[21] Ibid
[22] Ibid
[23] hewa salam khalid: op cit, p 120
[24] Ibid: p 120
[25] Ibid: p 120
[26] Ibid: p 118
[27] Mahroo Rashidirostami: Performance Traditions of Kurdistan: Towards a More Comprehensive Theatre History, Iranian studies 51 (2), p 271
[28] Mahroo Rashidirostami: op cit, p 271