
على مر التاريخ، كانت القضية الكردية مثل جبل يطل على أفق التوترات والصراعات، حيث تتشابك خيوط السياسة والهوية والثقافة في نسيج معقد. على الرغم من أن الكرد، كأمة عريقة ذات تراث ثرى، قد عبروا العصور بثبات وشجاعة، إلا أن مصيرهم ظل مُعلقًا بين أمواج التقسيم والحرمان. واليوم، بينما تظل القضية الكردية فى معظم الأنحاء بدون حل، فى ذات الوقت الذى يقف العالم أمام معضلة حل هذه القضية التي تنزف منذ قرون.
ففي قلب جبال كردستان، وبين تضاريس التاريخ القاسي، ينبعث صدى الكفاح المستمر لشعب يسعى للحرية والكرامة. إن القضية الكردية ليست مجرد صراع على الأرض أو السيادة، بل هي قصة حلم جماعي بالعدالة والاعتراف عبر العصور، ,وقد تجسدت معاناة الكرد في مقاومة الاستبداد والقمع، وها هي اليوم تفتح آفاقًا جديدة من الأمل لحلول تسعى إلى تحقيق توازن بين الحقوق الوطنية والاستقرار الإقليمي والتعايش السلمى. ولكن قبل الخوض فى غمار تلك الحلول لابد أن نعرف كيف نشأت القضية الكردية ومتى ؟ ثم نرى ماهى الحلول المطروحة لحلها.
تعود جذور المشكلة الكردية إلى القرن السادس عشر الميلادى حين تصاعدت وتيرة الصراع بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية، وقد انتصرت الدولة العثمانية علي الصفوية فى معركة جالديران 1514م، ثم عقد معاهدة ” قصر شرين ” 1639م وبموجبها أخذ العثمانيون معظم الأراضى الكردية ولم يتبقى للصفويين سوى القليل منهم. منذ هذا الصراع ومنطقة كردستان مسرحًا للتنافس بين الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية، بيد أن هذا الصراع التاريخي أسس لنمط من التجزئة والتقسيم الذي استمر في التأثير على الكرد لقرون لاحقة. وبعد الحرب العالمية الأولى 1914 -1918م وسقوط الإمبراطورية العثمانية، لعبت الاتفاقيات الدولية دوراً حاسماً في رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. بمعاهدة سيفر 1920م التى أظهرت لأول مرة إمكانية إقامة دولة كردية، لكن هذا الأمل تبدد سريعًا مع عقد معاهدة لوزان 1923م التي أكدت على تقسيم الأراضي الكردية بين تركيا، العراق، إيران، وسوريا دون الاعتراف بالحقوق القومية للكرد. وقد أوضحت هذه الاتفاقيات أن مصالح القوى الكبرى والسياسات الدولية تجاهلت حقوق الكرد وطموحاتهم. هذا التجاهل لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان له تأثيرات طويلة الأمد على الهوية الكردية والنضال المستمر من أجل حقوقهم القومية والسياسية. ونجم عن ذلك قمع أى تعبير من جانب الكرد عن الهوية القومية .
بيد أن الحلول المطروحة للقضية الكردية ليست مجرد مسارات سياسية جافة، بل هي شعلة من الأمل الذي يُضيء طريق الحلم الكردي. إنها دعوة إلى الاعتراف بالهوية والكرامة، وإلى بناء جسور جديدة تعبُر إلى مستقبل يعمه السلام والاحترام المتبادل. فلا يمكن تحقيق الاستقرار في المنطقة دون أن تجد هذه الأمة طريقها إلى حقوقها المسلوبة، عبر الحلول السياسية، والدبلوماسية، والثقافية التي تحمل في طياتها وعداً بمستقبل أفضل. فعقب انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على قضايا النظام العالمي الجديد، وتزايد مد الأحزاب اليمينية في فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، والنمسا، وبلجيكا، وهولندا، والمطالبة بعمليات تطهير عرقي وديني للأجانب المقيمين فيها، اتجهت العديد من الشعوب والجماعات الإثنية عموماً، ومنها الكرد – الذين يتوزعون بين عدة دول هي: العراق، وسوريا، وإيران، وتركيا – للمطالبة بهوية مستقلة عن الدول الخاضعين لها. فالبنسبة للعراق وسوريا اختلف الوضع بهما عن تركيا وايران ؛ إذ تبقى المعضلة بكلتا الدولتان حتى الآن .
ففى تركيا وإيران لايزال هناك معضلة حقيقية فى وضع الكرد، فإن ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مُورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ممارسة أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. وفى إيران شارك الكرد في “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979م. ثم تم تهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول “لن نكون بندقية على كتف أحد” أو ” ثوّاراً تحت الطلب”. فعندما اندلعت الثورة السورية أنعشت آمال الكرد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم ذاتيّ موسّع، دون المطالبة بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق بتضمين الحقوق القومية الكردية، وهو ما حدث بحصول كرد سوريا على الإدارة الذاتية الديمقراطية الآن.
بيد أن القضية الكردية في تركيا تُعد من أهم القضايا التي واجهتها الحكومات التركية المتتالية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، إلى درجة أنها باتت مشكلة مزمنة خلال العقود الماضية ولاسيما في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ومن ثم فإن حل القضية الكردية يتطلب إحياءً ثقافيًا، اقتصاديًا واجتماعيًا يُعيد للكرد مكانتهم الطبيعية بين الأمم. إن هذه الحلول، وإن كانت معقدة ومتداخلة، تظل مفتاحًا لإطفاء نيران الصراع وبناء جسور التعايش السلمي وعلى مدار التاريخ الحديث ثمة محاولات لحل القضية الكردية إلا أنها بأت بالفشل من قبيل ذلك نجد محاولة الرئيس التركى توغورت أوزال (1927 – 1993م) فى بداية التسعينيات الذى أدرك أن الحل العسكرى لن يُقدم مخرجاً حقيقياً؛ لذا طرح خيارات سلام جذرية تضمنت إعادة النظر فى الوضع الإقليمى للمناطق الكردية بما فى ذلك (كردستان العراق ) إلا أن الولايات المتحدة الإمريكية وبريطانيا وكذلك إسرائيل لم يُرحبا بهذا الخيار.
ربما يعود السبب فى أن القضية الكردية لم تجد حلاً نهائياً من قبل الحكومات المتعاقبة إلى غياب الثقة بين الحكومة من جهة والقادة الكرد من جه أخرى، فضلاً عن ما رافقها من تعقيدات كان من إبرزها سياسة الانكار والإقصاء والعنف المتبادل وإنكارها لثقافة التعدد القومى ، فقد قمعت الحكومات التركية المتتالية العديد من الانتفاضات الكردية المسلحة، وأنكرت وجود مشكلة كردية، ومارست سياسة الإنكار والتهميش والإقصاء ضد الكرد، لكن مع القضاء على كل انتفاضة كان الكرد يتمسكون بقضيتهم أكثر فأكثر، ويثبتون قدرتهم على تنظيم أنفسهم من جديد، وعلى استئناف دورة العنف بحثا عن حقوق حرموا منها، حقوق دونها لا يبدو لدى الكرد استعداد للتنازل، خاصة بعد أن اكتسبت القضية الكردية بعداً إقليمياً ودولياً في السنوات الأخيرة.
ففى عام 2002م، اتبع حزب الحرية والعدالة الحزب الحاكم فى تركيا سياسة بدلية منذ أن تسلم الحكم، فكانت سياسته متقلبة قتارة يُقدم المبادرات والحلول السلمية للمسألة الكردية وتارة أخرى يقوم بشن حملات عسكرية ضد مناطق الكرد وحزب العمال الكردستانى PKK وذلك لتحقيق مكاسب انتخابية أو للحصول على عضوية فى الاتحاد الأوربى. ومن ثم فقد اتسمت تحركات الحزب الحاكم فى تركيا بزعامة رجب طيب أردوغان ( 1954م- ….) بخطوات ربما تُسهم فى حل القضية الكردية فأعلن فى أغسطس/ آب 2009 م أنه مستعد لحل جذرى للمشكلة وطالب ممثلى حزب السلام الديمقراطى المؤيد لحزب العمال الكردستانى بالامتناع عن إصدار أية تصريحات فى أثناء حل المشكلة ‘ كما أعلن أنه يُريد حل القضية حلاً ديقراطياً من الجذور، وأنه سيعقد لقاءات مع الاحزاب لإيجاد حل للمشكلة الكردية وعلى رأسهم حزب السلام .
وليس هذا وحسب بل عقد لقاء مع رئيس الوزراء الروسي آنذاك فلاديمر بوتن (1952م-…) ورئيس الوزراء الإيطالى بيرلسكونى ( 1936- 2023م) فى ذات الشهر لمناقشة مبادرة تركيا بحل القضية، وفى ذات الوقت عقدت السفارة الأمريكية فى أنقرة لقاء مع نواب حزب السلام الديمقراطى لمناقشة المبادرة التركية، وعقد أردوغان اجتماعاً مع الوزراء وأعضاء من مجلس الأمن القومى التركى لمناقشة مبادرتة للحل. وتم عقد المجلس الوطنى الكبير لمناقشة إعلان الحكومة عن خطة شاملة لتنهى الصراع المسلح بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستانى فى 12 نوفمبر/ تشرين الثانى 2009 م، فضلاً عن إجراء تغييرات جوهرية فى التعامل مع الحقوق الثقافية للكرد .
وقد أبدى حزب العمال الكردستانى بموافقة السيد عبدالله أوجلان على مبادرة الحكومة التركية لحل المسألة حلاً سلمياً، وأعلن وقف إطلاق النار بانتظار انتخابات عام 2011م ، إلا أنه بعد إجراء الانتخابات، لم تُنفذ الحكومة التركية ما أعلنته لحل القضية وتنكرت لوجود مشكلة كردية ، فتم استئناف إطلاق النيران. واستمرت الحكومة التركية بملاحقة نشطاء الكرد المعارضين لسياستها، حتى أنها أصدرت فى عام 2020م مذكرات اعتقال بحق البعض منهم بتهمة الإرهاب، والتى تزامنت مع مداهمات لديار بكر واسطنبول وأزمير وأدميان فى إطار تحقيق يستهدف عقد مؤتمر لحزب التجمع الديمقراطى – ثانى أكبر حزب معارض فى البرلمان التركى – المتهم بصلاته بحرب العمال الكردستانى المحظور فى تركيا ، كما راقبت أحزاب اخري لنفس السبب وأقالت رؤساء بعض البلديات لصلاتهم بالكرد ، كما صرحت وزارة الداخلية فى 15 مارس/ آذار 2021م أنها اعتقلت أكثر من 700 شخص بينهم أعضاء الأحزاب السياسية المؤيدة للكرد ، كما سعىت حكومة حزب الحرية والعدالة بإحداث انشقاق فى حزب الشعوب الديمقراطى وأحزاب المعارضة الأخرى.
ولا غرو أن رؤية الحكومة التركية تقوم على وقف إطلاق النار، وانسحاب المقاتلين الكرد من الداخل التركي إلى معاقل PKK في جبال قنديل، والبدء في نزع سلاح المقاتلين، وإصدار عفو عام عن بعض عناصر من الحزب، مع بحث مصير قياداته وتأمين ملجأ لهم، وإطلاق سراح المئات من السجناء الكرد، على أن تكون هذه الخطوات متسلسلة وتسمح بالانتقال إلى المرحلة الثانية، أي مرحلة المعالجة السياسية التي من أهم معالمها إقرار قانون للإدارة المحلية يشمل كل تركيا وليس المناطق الكردية فقط. إلا أن هذه الرؤية ذهبت أدراج الرياح كما سبق وأشارنا وذلك لرفض المعارضة التركية المتطرفة ولا سيما حزب الحركة القومية للحل السلمى لعدم اعترافة بالقضية الكردية وغياب الثقة بين الطرفين التركى والكردى .. ألخ.
وفي ظل ثورات الربيع العربي التي أوحت للكرد بوجود فرصة تاريخية لنيل حقوقهم وتحقيق تطلعاتهم القومية. فكانت الرؤية الكردية تقوم على خطوات محددة منها: النظر في وضع أوجلان في السجن، عفو عام وشامل عن جميع عناصر وقيادات الحزب في الداخل والخارج، الاعتراف بالهوية الكردية دستوريا، ومنح الكرد حكماً ذاتياً في مناطق جنوب شرقي البلاد. ولا تزال القضية قائمة حتى الآن.
ويوجد عديد من الحلول التى طُرحت من أجل تلك المعضلة والتى سوف نغوص فى غمارها لنُبينها؛ إذ يتطلب حل القضية الكردية النظر إلى عدة مستويات ومعالجات شاملة تشمل الأبعاد السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية. من قبيل:
أولاً: الحل السياسى
يشمل هذا الحل، الاعتراف بحقوق الكرد أولاً، كذلك الحكم الذاتى ، الإدارة الذاتية الديمقراطية .
الاعتراف بحقوق الكرد:
لاشك أن بداية الحل هو الاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم ضمن حدود الدول التي يعيشون فيها، ويتم تحقيق ذلك عبر إجراءات قانونية ودستورية تضمن المساواة وحماية الحقوق السياسية والثقافية. ولذا يتضمن هذا الحل المقترح للاعتراف بحقوق الكرد عدة خطوات أساسية منها:
- يجب أن تبدأ الحكومات المعنية بالاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم وضمان مساواتهم مع باقي المواطنين. هذا الاعتراف يكون عبر تعديلات دستورية أو قوانين تضمن لهم حقوقهم الثقافية، اللغوية، والسياسية.
- تحتاج هذه الدول إلى سن قوانين جديدة أو تعديل قوانينها الحالية لتشمل حقوق الكرد بشكل واضح. قد تتضمن هذه الإجراءات تنظيم انتخابات تمثيلية تعكس التوزيع العرقي، أو تخصيص حصص سياسية للكرد في الهيئات التشريعية.
- يجب أن تضمن الدساتير والقوانين حماية حقوق الكرد في الحفاظ على لغتهم وثقافتهم وممارستها بشكل حر. هذا يشمل إنشاء مؤسسات تعليمية وإعلامية ناطقة بالكردية ودعم الفعاليات الثقافية.
- لضمان فعالية الحل السياسي، يجب أن يُشرك الكرد بشكل فعال في العملية السياسية وصنع القرار، بما في ذلك تولي مناصب قيادية في الحكومات المحلية والوطنية.
- يكون الحوار بين الكرد والحكومات المحلية جزءًا أساسيًا من الحل السياسي، جنبًا إلى جنب مع دعم إقليمي ودولي لضمان استدامة الحلول وتحقيق السلام.
الحكم الذاتي
منح الكرد حكمًا ذاتيًا داخل الدولة قد يكون حلاً فعالًا لتحقيق تطلعاتهم دون الانفصال الكامل، وهو ما تحقق بشكل محدود في العراق (إقليم كردستان) عام 2005م بصدور الدستور العراقى الجديد، ويمكن أن يُدرس في دول أخرى؛ إذ أن الحل السياسي المقترح بمنح الحكم الذاتي للكرد ربما يكون خطوة فعّالة لتحقيق تطلعاتهم ضمن الدولة الواحدة دون الانفصال الكامل. هذا النوع من الحلول يعتمد على موازنة بين الحفاظ على وحدة الدولة وضمان حقوق الكرد. بعض النقاط التي يمكن مناقشتها حول هذا الحل:
إن يُطبق الحكم الذاتي على منطقة أو إقليم ذي أغلبية كردية، بحيث يتمتع الكرد بسلطات إدارية وتشريعية محلية، مثل إدارة مواردهم الطبيعية، الاقتصاد، التعليم، والثقافة. وقد تتضمن هذه المناطق الكردية سلطة أكبر في القرارات المحلية، بما في ذلك سن قوانين محلية تتماشى مع تقاليد وثقافة الكرد، مما يُعزز شعورهم بالانتماء والمشاركة في الشؤون المحلية. وهذا الحل مطبق بالفعل مناطق الكرد بالعراق .
إذ تُعد تجربة إقليم كردستان العراق نموذجًا عمليًا حيث يتمتع الكرد بحكم ذاتي واسع النطاق مع حكومة وبرلمان محليين، رغم أن العلاقة مع الحكومة المركزية تواجه بعض التحديات فيما يتعلق بتوزيع الموارد النفطية والسلطة. ولكن هذا الحل يحب أن يشمل :
- ينبغي أن يكون الحكم الذاتي مدعومًا بإطار قانوني ودستوري واضح يحدد صلاحيات الإقليم ويضمن عدم تدخل الحكومة المركزية في شؤون الكرد المحلية إلا في القضايا المتعلقة بالأمن القومي أو السياسة الخارجية. وقد يتطلب ذلك تعديل الدساتير الوطنية لضمان حق الكرد في إدارة شؤونهم بأنفسهم.
- يجب أن يكون هناك تعاون بين الحكومة المركزية والإقليم الكردي في القضايا الكبرى مثل الأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية، مع احترام استقلالية الكرد في إدارة شؤونهم الداخلية.
- من المهم أن يكون هناك حوار وطني مستمر بين الكرد والحكومات المركزية لضمان استمرار الثقة والتفاهم بين الجانبين، ومنع أي توترات قد تنشأ نتيجة سوء فهم أو سوء تطبيق لهذا الحل. ربما يوفر هذا النموذج بديلاً عن الانفصال الكامل ويحقق للكرد تطلعاتهم في إدارة شؤونهم مع الحفاظ على سيادة الدول.
الإدارة الذاتية الديمقراطية
هو نظام حكم محلي تم إعلانه في 2014، عقب انسحاب القوات الحكومية السورية من مناطق شمال شرق البلاد نتيجة للصراع المستمر. تمثل الإدارة الذاتية مشروعًا يعتمد على مبادئ الديمقراطية المباشرة، والمساواة بين الجنسين، والاستدامة البيئية، والعيش المشترك بين مختلف المكونات الإثنية والدينية مثل الكرد، العرب، السريان، والآشوريين.
الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا تُمثل نموذجاً للحكم الذاتي، والذي يُعتبر أحد الحلول السياسية المطروحة لحل القضية الكردية. تعتمد هذه الإدارة على تنظيم المجتمعات المحلية عبر مجالس منتخبة، وتضمن مشاركة متعددة الأطياف من الكرد والعرب وغيرهم. تركز الإدارة الذاتية على الديمقراطية التشاركية، وحقوق القوميات، وتكريس المساواة بين الجنسين. رغم ذلك، تبقى سوريا موحدة ضمن هذا النموذج، حيث لا يسعى الكرد إلى الانفصال بل إلى تعزيز الحكم اللامركزي ضمن إطار الدولة السورية.
نجحت الإدارة الذاتية منذ تأسيسها في تعزيز التعايش السلمي بين مكونات المجتمع، بما في ذلك العرب، الكرد، والسريان، مما جعلها نموذجاً عملياً لحل النزاعات السياسية. كما يستند هذا النظام إلى مفاهيم الديمقراطية المباشرة، مع دعم كبير للحقوق الثقافية واللغوية والدينية، مثلما يحدث في تدريس اللغة الكردية وحقوق النساء.
إلا أن هذه التجربة واجهت تحديات كبيرة، لا سيما الاعتداءات التركية المستمرة، التي تستهدف البنية التحتية المدنية والمناطق ذات الأغلبية الكردية. بالإضافة إلى ذلك، وجود مشكلات تتعلق بالاعتراف الدولي بهذه الإدارة، حيث أن الحكومة السورية وبعض القوى الدولية ما زالت تنظر إليها بحذر.
تسعى الإدارة الذاتية للمشاركة في الحلول السياسية عبر القنوات الأممية مثل قرار مجلس الأمن 2254، مشددة على أهمية إشراك كافة الأطراف السورية في العملية السياسية لضمان استقرار البلاد على المدى الطويل.
هذه المبادرات تقدم نموذجاً فاعلاً لتسوية القضية الكردية عبر الحلول السياسية التي تشمل الحكم الذاتي وتعزيز الديمقراطية التشاركية بدلاً من الانفصال أو العنف.
ثانياً: الحوار والتفاوض
إن حدوث حوارات شاملة بين الحكومات والجماعات الكردية المختلفة يؤدي إلى تسوية سلمية. من أمثلة ذلك، محادثات السلام التي جرت بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في الماضي. إذ أن حل القضية الكردية عبر الحوار والتفاوض يعتمد على مجموعة من الخطوات والإجراءات التي تهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار في المناطق التي تُعاني من النزاعات وكى يحدث هذا يجب أن يتم الآتى.
- الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية والسياسية للكرد قد يُسهم في حل النزاعات. ضمان المشاركة السياسية وتقديم ضمانات دستورية لحماية حقوق الكرد.
- معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تُعاني منها المناطق الكردية من خلال تعزيز التنمية الاقتصادية وتقديم فرص عمل وتعليم متساوية.
- إشراك المجتمع الدولي من خلال المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يُساعد في توفير إطار لضمان حقوق الجميع وضمان استدامة الحلول السلمية.
- وقف العمليات العسكرية بين الأطراف المتنازعة كخطوة أولية نحو بناء الثقة وتحقيق تقدم في مفاوضات السلام.
- إجراء استفتاءات محلية: حول القضايا المتعلقة بالحكم الذاتي أو الانفصال لتحديد رغبات السكان المحليين. وهذا ماحدث فى تجربة إقليم كردستان العراق التى تُعد نموذجًا عمليًا حيث يتمتع الكرد بحكم ذاتي واسع النطاق مع حكومة وبرلمان محليين، رغم أن العلاقة مع الحكومة المركزية تواجه بعض التحديات فيما يتعلق بتوزيع الموارد النفطية والسلطة.
فقد قام إقليم كردستان العراق بإجراء استفتاء على الاستقلال في 25 سبتمبر/أيلول 2017م، مع إظهار النتائج التمهيدية بإدلاء الغالبية العظمى من الأصوات بنسبة 92%، لصالح الاستقلال ونسبة مشاركة بلغت 72%. وصرحت حكومة إقليم كردستان بأن الاستفتاء سيكون ملزم، لأنه سيؤدي إلى بدء بناء الدولة وبداية للمفاوضات مع العراق بدلاً من إعلان الاستقلال الفوري- الاستفتاء لم يكن محل إجماع داخلي حتى بين الكرد أنفسهم. بعض الأحزاب الكردية، خاصة “الاتحاد الوطني الكردستاني”، عارضو توقيت الاستفتاء وشعرو بأن الخطوة كانت متسرعة. هذا الخلاف أدى إلى حدوث انقسام داخلي في الصف الكردي فالخلافات السياسية زادت بعد الاستفتاء، مما أضعف جبهة الكرد السياسية أمام بغداد ودول الجوار. وكذلك فقدان المكاسب السابقة فقد فقدوا الكرد مكاسب سياسية وعسكرية حققوها خلال السنوات السابقة، مثل السيطرة على كركوك مما أدى إلى فقدان إقليم كردستان مصدرًا رئيسيًا لعائدات النفط، وهذا أثر على الاقتصاد المحلي والخدمات العامة.. وأيضا أدى الاستفتاء أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي في إقليم كردستان نتيجة العقوبات،ونتج عن الاستفتاء أيضاً أن أغلقت تركيا وإيران حدودها لفترة قصيرة، وقللت بغداد من حصتها من الميزانية العراقية، مما تسبب في أزمة اقتصادية. زادت الحكومات في هذه الدول من إجراءاتها ضد النشاطات السياسية الكردية، خوفًا من أن يُشجع الاستفتاء النزعات الانفصالية. شهدت تركيا وإيران حملات قمع ضد الحركات الكردية ونشطائها. وقد فشل الاستفتاء فى تحقيق الاستقلال أو حتى أي تقدم سياسي بعد الاستفتاء أدى إلى شعور بالإحباط بين الكثير من الكرد، مما أثر على الروح المعنوية والطموح القومي في تحقيق الاستقلال أو الحكم الذاتي في المستقبل القريب.
كان استفتاء 2017 بمثابة نقطة تحول في مسار القضية الكردية في العراق والمنطقة. على الرغم من الحلم الجمعى الكردى في تحقيق دولة مستقلة، إلا أن النتائج العكسية للاستفتاء أضرت بالوضع السياسي والاقتصادي لهم وعرقلت تقدمهم على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
يتطلب تحقيق هذه الخطوات إرادة سياسية من جميع الأطراف، مع دعم من المجتمع الدولي لضمان التنفيذ الفعّال للتسويات المتفق عليها؛ لذا فإن إشراك المجتمع الدولي والأمم المتحدة يضمن بيئة تفاوضية عادلة وشفافة؛ إذ يُسهم المجتمع الدولي في تسهيل الحوار وتحقيق ضمانات للحقوق الكردية. بيد أن حل القضية الكردية بهذه الطريقة يتطلب نهجاً شاملاً ومتعدد الجوانب. من بين هذه الجوانب: الدبلوماسية الدولية، يُعد إشراك المجتمع الدولي والأمم المتحدة خطوة محورية لضمان بيئة تفاوضية عادلة وشفافة. إذ أن المجتمع الدولي يجب أن يُسهم في تسهيل الحوار من خلال الوساطة وتوفير المنصات التي تجمع الأطراف المختلفة. ولن يتم تحقيق حماية الحقوق الكردية وتنفيذ أي اتفاقيات يتم التوصل إليها إلا من خلال المراقبة الدولية. هذا مع تقديم دعم سياسي ومالي لعمليات إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية في المناطق الكردية بعد التوصل إلى اتفاق.
ومن ثم ، يجب أن يكون هناك بناء للثقة بين الأطراف المعنية، وذلك من خلال اتخاذ بعض الخطوات الملموسة كوقف إطلاق النار، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإشراك المجتمع المدني. مع احترام التنوع الثقافي والسياسي فالاعتراف بالهوية الكردية، اللغة، والثقافة في إطار السياسات الوطنية يُسهم في تخفيف التوترات وفتح المجال أمام التعايش السلمي. كذلك تقاسم السلطة بمنح الحكم الذاتي أو أشكال أخرى من تقاسم السلطة قد يكون جزءاً من الحل، مما يسمح للكرد بإدارة شؤونهم الداخلية مع الحفاظ على سيادة الدولة. بالإضافة إلى تسوية القضايا الاقتصادية والتنموية بمعالجة التفاوت الاقتصادي وضمان التنمية العادلة في المناطق الكردية مما يُسهم في تحقيق استقرار طويل الأمد. وإشراك كافة الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة في المفاوضات بما في ذلك القوى الكردية والمكونات الأخرى في المناطق ذات الأغلبية الكردية لضمان حل شامل ومتوازن.
ثالثاً: الاعتراف الثقافي
يتم الحل عن طريق الاعتراف الثقافى من خلال السماح باستخدام اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات الرسمية، وتعزيز الثقافة الكردية في الإعلام والفنون. وهذا يلعب دورأ كبيراً في دمج الكرد بشكل أكبر ضمن النسيج الاجتماعي العام مع الحفاظ على هويتهم. يتطلب حل القضية بهذه الطريقة اتخاذ إجراءات قد تُشارك في تحقيق العدالة الثقافية والحفاظ على الهوية الكردية، ومنها
- تعزيز التعليم والثقافة الكردية وذلك باستخدمها في المدارس والمؤسسات الرسمية، مع تطوير المناهج التعليمية التى تعكس التراث الثقافي الكردي. مما يدعم المؤسسات التعليمية لتقديم برامج باللغة الكردية تشمل التاريخ، الأدب، والفنون، بما يُعزز الفخر بالهوية الكردية.
- تشجيع الإعلام والفنون الكردية بتمكين الكرد من إنشاء وسائل إعلام ناطقة بالكردية تُسهم في تعزيز الثقافة والفنون الكردية، مع دعم الإنتاج الفني، السينمائي والمسرحي الكردي، مما يُؤدى إلى إبراز الموروث الثقافي الغني للكرد.
- المشاركة الثقافية بتنظيم مهرجانات وفعاليات ثقافية كردية تتيح الفرصة للكرد للاحتفاء بثقافتهم والتفاعل مع المكونات الأخرى في المجتمع. هذه الفعاليات تسهم في تعزيز التفاهم المتبادل بين المجتمعات المختلفة.
- حماية التراث الكردي بالعمل على حماية التراث المادي واللامادي للكرد، مثل المواقع الأثرية، الأغاني، والرقصات التقليدية، لضمان بقاء هذه العناصر للأجيال القادمة.
- دعم الأدب والبحث الكردي وتوفير الدعم للمؤلفين والباحثين الكرد لإنتاج الكتب والأبحاث بلغتهم الخاصة، والمساهمة في نشرها على نطاق أوسع لضمان استدامة المعرفة الكردية.
تهدف هذه الإجراءات إلى تعزيز الاحترام المتبادل والاعتراف بالهوية الكردية، مما يُسهم في تعزيز الوحدة الوطنية والتناغم الاجتماعي.
رابعاً: التنمية الاقتصادية
للمساهمة في حل القضية الكردية من منظور التنمية الاقتصادية، إن الاستثمارات تلعب دورًا حاسمًا فى حل تلك القضية؛ حيث أن تحسين الأوضاع الاقتصادية في المناطق الكردية يُساعد في تخفيف التوترات. وإنشاء مشاريع تنموية تركز على خلق فرص عمل وتحسين البنية التحتية، ويتم تحقيق ذلك من خلال:
- الاستثمار في المناطق الكردية، يتم هذا من خلال تحسين البنية التحتية ببناء الطرق، المدارس، المستشفيات، ومحطات توليد الطاقة مما يؤدي إلى تحسين نوعية الحياة وزيادة فرص التنمية. وكذلك بخلق فرص عمل على أن يُنشأ بالمناطق الكردية مركزًا للصناعات الصغيرة والمتوسطة، والزراعة الحديثة، والسياحة البيئية، مما يساهم في تقليل البطالة.
- تطوير الزراعة والصناعات المحلية، بدعم المشاريع الزراعية من خلال توفير التكنولوجيا الحديثة مما يُزيد من إنتاجية الأراضي. وأيضاً الاستثمار في مصانع محلية تعتمد على الموارد الطبيعية الموجودة في المناطق الكردية مثل المعادن والزراعة.
- تعزيز التعليم والتدريب المهني، بإنشاء مراكز تدريب تقني ومهني مما يُساعد السكان المحليين على اكتساب المهارات التي يحتاجها سوق العمل. ودعم الجامعات والمراكز البحثية في المناطق الكردية لتحسين نوعية التعليم وزيادة فرص الشباب.
- جعل المناطق الكردية وجهة سياحية جذابة نظرًا لجمالها الطبيعي وتنوعها الثقافي. تطوير البنية التحتية السياحية مما يوفر فرص عمل ويُسهم في النمو الاقتصادي.
- التنمية المستدامة، يجب أن تكون هذه المشاريع جزءًا من استراتيجية تنموية مستدامة، توازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.
تشجيع الشراكات بين القطاع العام والخاص يُؤدى إلي جذب استثمارات إضافية، ويُساعد على تعزيز النمو الاقتصادي في المناطق الكردية بشكل أسرع.
ومن ثم فإن الاستثمار الاقتصادي المتوازن والشامل يلعب دورًا مهمًا في تقليل التوترات الاجتماعية والسياسية، وبالتالي المساهمة في تحقيق السلام والاستقرار.
خامسأ: العدالة الاجتماعية
لحل القضية الكردية يجبأن يتم تحقيق عدالة الاجتماعية ، باتخاذ مجموعة من التدابير التي تُعالج قضايا التمييز والعنصرية وضمان حقوق الكرد. ومن ثم يجب اتخاذ خطوات لإنهاء كافة أشكال التمييز المُمارس ضد الكرد في دولهم، وضمان حصولهم على حقوق متساوية في العمل والتعليم والمشاركة السياسية. مع وجود قوانين تحمي حقوقهم وتعزز العدالة والمساواة. فمن المهم أن يحصل الكرد على فرص متساوية في التعليم، بما في ذلك تعليم اللغة والثقافة الكردية. ويتم تعزيز التعددية الثقافية في المناهج التعليمية وتشجيع التفاهم بين الأعراق. وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة الكاملة في الحياة السياسية دون عوائق. ويتم ذلك من خلال ضمان وجود تمثيل عادل للكرد في البرلمان والمجالس المحلية، وكذلك من خلال دعم حقهم في المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم. ولتحقيق العدالة الاجتماعية فى المجتمعات، لابد من العمل على تحسين الظروف الاقتصادية للمجتمعات الكردية. هذا يشمل توفير فرص عمل متساوية وتطوير البنية التحتية في المناطق التي يقطنها الكرد. يجب السماح للكرد بممارسة حقوقهم الثقافية بحرية، بما في ذلك التعبير عن هويتهم القومية ولغتهم وفنونهم. إذ يُساعد جل هذا في بناء مجتمع أكثر عدلاً وشمولاً للجميع، بما في ذلك الكرد، من خلال القضاء على التمييز وتعزيز العدالة الاجتماعية. فتلك الخطوات يمكن أن تساعد في بناء مجتمع أكثر عدلاً وشمولاً للجميع، بما في ذلك الكرد، من خلال القضاء على التمييز وتعزيز العدالة الاجتماعية.
سادسأ: التحرك الدولي
لابد أن يقوم التعاون الإقليمي والدولي بدورًا مهمًا في تحقيق الاستقرار والسلام لحل القضية الكردية، يشمل التحرك الدولي عدة محاور من قبيل: التعاون الإقليمي والدولي، فالدول التي يعيش فيها الكرد يجب أن تتحد مع المجتمع الدولي لإيجاد حلول جماعية قائمة على التفاهم المتبادل والاحترام. وعن التعاون الإقليمي يجب على الدول التي يعيش فيها الكرد (مثل تركيا، العراق، إيران، وسوريا) أن تعمل معًا لتطوير السياسات التنموية والحقوقية للإعتراف بحقوق الكرد واحترم هويتهم الثقافية والسياسية. وبناء جسور الحوار بين هذه الدول عبر المؤسسات الإقليمية مما يُسهم في تخفيف التوترات وتحقيق التفاهم المتبادل. أما الدور الدولى، فالمجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، يمكن أن يُسهم في دعم جهود الوساطة وحل النزاعات. من خلال مراقبة حقوق الإنسان ودعم التنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية لتعزيز الاستقرار. ثم المبادرات الجماعية بتشجيع الحوارات المفتوحة بين الكرد والحكومات المحلية، وتقديم دعم دولي للمنظمات الإنسانية والتنموية التي تعمل على تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للكرد. وأخيراً تُساعد مبادرات الحوار الوطني والمفاوضات السياسية في وضع حلول مستدامة تحترم تطلعات الكرد وتحقق التوازن مع السيادة الوطنية للدول. بناء على هذه الحلول، يمكن التوصل إلى تسوية شاملة للقضية الكردية تضمن للكرد حقوقهم مع الحفاظ على استقرار الدول المعنية.
بالإضافة إلى جل ما طُرح من حلول نجد حلولاً أخرى قد أشار إليها المفكر عبدالله أوجلان فى كتابه المعنون “بالمنافيستو، المجلد الخامس الذى يحمل عنوان “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية “.
الاقصاء والتهميش وإبادة الهوية الكردية
إن الجمهورية التركية تبنت سياسة معادية للكرد، حيث تم إقصاؤهم من النظام القائم. وقد واجهت النخبة الكردية خيارًا صعبًا: إما الحفاظ على وجودها كمواطنين أتراك بالتخلي عن هويتهم الكردية، أو الإقصاء والتهميش. حيث فرض النظام “قانونًا فولاذيًا” غير مكتوب، يُلزم النخبة بالخضوع عبر التخلي عن الكردايتية وتبني “التركياتية البيضاء”وهي نسخة متطرفة من القومية التركية مدعومة بأساليب الهيمنة الغربية. وهنا يُشير السيد أوجلان إلى تحول العلاقة بين الجمهورية والدور الذي يلعبه الكرد فيها، خصوصًا فيما يتعلق بالهوية والاندماج السياسي والاجتماعي. فقد أعاد النظام الجمهوري صياغة تحالفاته على نحو جعل الكرد على الهامش، مقدمًا للنخبة الكردية خيارًا مشروطًا بالاندماج كمواطنين أتراك، فى المقابل يجب عليهم أن يتخلوا عن هويتهم الكردية. ويُوصف هذا التوجه بأنه “قانون فولاذي”، حيث لا يمكن للكرد أن يرتقوا إلا إذا قبلوا بإنكار هويتهم الكردية والانخراط في تعزيز “التركياتية البيضاء” التي يتم وصفها بأنها شكل متطرف من القومية التركية، متأثرة بأساليب الهيمنة الغربية. فهذا المشروع المفروض على النخبة الكردية أدى إلى تقسيم داخل المجتمع الكردي بين الطاعة والتمرد، حيث تعرضت تلك النخبة لعملية “تأديب وتنكيل” قاسية ألزمتها بالتخلي عن هويتها الكردية من أجل الحفاظ على وجودها.
أما الطبقات الشعبية الكردية، فتُركت بلا قيادة وتعرضت للإنكار والإبادة الثقافية والإبادة والتذويب. وأن أى محاولة من الكرد للحفاظ على الهوية الكردية تؤدي إلى الموت، بينما التخلي عنها هو السبيل الوحيد للبقاء. يسعى النظام إلى القضاء على الكردايتية بكل رموزها عبر مشروع تطهير ثقافي مخفي، بدأ منذ تأسيس الجمهورية ويتقدم تدريجيًا هذه السياسة طالت كل جوانب الحياة، بما في ذلك الأحزاب والمجتمع المدني، وتم تنفيذها بطرق خفية ودعم دولي غير مباشر، مع استخدام العنف والقمع كأدوات أساسية لفرض هذا النظام. بيد أن جميع السياسات الداخلية والخارجية كانت تخدم “القانون الفولاذي”، وهو نظام خفي ينظم هذه العملية، بحيث تكون الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني غير مدركة لدورها في تنفيذه. حتى الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي تُقيّم بناءً على مدى خدمتها لهذا القانون، الذي يلعب دورًا في الانقلابات والمؤامرات والاغتيالات والتعذيب والاعتقال.
سابعاً: حل الأمة الديمقراطية (الرؤية الأوجلانية لحل القضية الكردية)
الأمة الديمقراطية هي مفهوم سياسي قدمه المفكر عبد الله أوجلان كحل للأزمة الكردية والصراعات الإثنية في الشرق الأوسط. ويُعد هذا الحل هو مفهوم مركزي في الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر، ومن ثم يعكس رؤى جديدة حول كيفية تنظيم المجتمعات بشكل يُعزز التعايش السلمي والمشاركة الفعّالة. يتضمن هذا الحل عدة عناصر رئيسية: تستند الأمة الديمقراطية إلى مبادئ مثل الديمقراطية المباشرة، الإدارة الذاتية، والعيش المشترك بين مختلف الأعراق والقوميات دون الاعتماد على الدولة القومية التقليدية. ونظرًا لمحورية القضية الكردية في مشروع السلام الأوجلاني، فإنني أركز عليها بمزيد من إلقاء الضوءعلى بعض النقاط الأساسية لهذا الحل:
أولاً: الفرد–المواطن الحر وحياة الكومونة الديمقراطية في الأمة الديمقراطية
شدد العم آبو على أن الأمة الديمقراطية ليست مجرد مفهوم فردي، بل هي بنية متكاملة تُشبه كائنًا حيًا حيث تتكامل أبعادها المختلفة (السياسية، الاجتماعية، الثقافية) مع بعضها البعض مثل أعضاء الكائن الحي. كما أكد على أن الحرية الفردية في الأمة الديمقراطية، ليست مطلقة كما يُروج لها النظام الرأسمالي الليبرالي. فالحرية الحقيقية تتحقق فقط عندما يكون الفرد جزءًا من مجموعة تعاونية (كومونة)، إذ أن الفرد الذي يعيش بعيدًا عن الحياة الجماعية يُشكل جزءًا من النظام الرأسمالي الذي يُنتج عبودية خفية باسم الحرية. أما الفرد الذي يُشارك في المجتمع من خلال الكومونات يحصل على حريته الحقيقية من خلال تعاونه مع الآخرين في مجتمع ديمقراطي.
تُعد الكومونات فى النظام الديمقراطي مؤسسات رئيسية تضمن الحرية الجماعية والديمقراطية. ولا يمكن للفرد أن يكون حراً حقاً أو متحرراً إلا من خلال دمج حياته مع هذه الكومونات والمجموعات. الكومون هنا تتنوع وتتمدد لتشمل مختلف مجالات الحياة (التعليم، الفن، الثقافة، الاقتصاد، وغيرها)، وهي ليست مقتصرة على المؤسسات التقليدية مثل الدولة أو المجتمع المحلي فقط، بل تتخذ شكل تعاونية، مصنع، رابطة، أو منظمة مدنية.
وتتمثل مواطنة الفرد في الأمة الديمقراطية في العيش ضمن هذه الكومونات، التى تُعد أساسًا لبناء المجتمع السياسي. الديمقراطية هنا ليست مجرد آلية سياسية بل طريقة للحياة تجمع بين الأخلاق والسياسة. ويؤكد أن الفرد الحر هو الذي يُشارك في المجتمع ويخدمه، معتبراً أن المسؤولية تجاه الكومون والمجتمع أمراً أساسياً لتحقيق الأخلاق.
ثانياً: الحياة السياسية وشبه الاستقلال الديمقراطي في الأمة الديمقراطية ( الإدارة الذاتية)
لا شك أن الأمم عموماً والأمة الديمقراطية خصوصاً هى كيانات مجتمعية لها إداراتها الذاتية، ولئن حُرم مجتمع ما من إدارته الذاتية فهو يخرج وقتذاك من كونه أمة. ويتحول المجتمع السياسي في العصر الراهن إلى التحول الديمقراطي عبر مسارين.
الأول : المسار الرأسمالي التقليدي هو الطريق المؤدي إلى الدولة القومية؛ فإذا كان المجتمع في ظل الحداثة الرأسمالية من دون دولة، أو أن دولته مدمرة، أو على وشك الانهيار، فإن السياسات القوموية والدينوية تؤول بذلك المجتمع إلى بناء دولة جديدة ( الدولة القومية) .
الثاني: مسار الوطنية الديمقراطية من خلال دعم سياسات اتحاد المجتمعات الكردستانية KCKالتى تُعزز قدرة الأمة الديمقراطية من خلال مؤتمر الشعب KONGRA GEL وهو يعنى مجلس الشعب بصفته التشريعية فى KCK ويستمد قوته من جعله الشعب صاحب قرار ذاتي ، كما أن هناك ضرورة قصوي فى تمكن KCK من ممارسة دور جهاز السياسة الديمقراطية لمواصلة درب التحول الوطنى الديمقراطي. إلا أن KCK يُعاني من مشكلة الفاعلية العلنية والرسمية على صعيد الدول القومية، لذا لابد تفعيل إدارة KCK جنباً إلى جنب مع حكم الدولة فى نفس الأراضي ونفس المجتمعات . إلا الدول المعنية ستكون غير راضية عن النموذج مما يفتح المجال إلى توترات ومشاحنات قد تصل إلى الاستهداف المباشر، وعليه يكون التجسيد العلني لــ KCK بشكل أحادي الجانب ضمن كافة أبعاد الأمة الديمقراطية .
ثالثاً: الأمة الديمقراطية والحياة الاجتماعية
أوضح المفكر أوجلان أن الرأسمالية تحوّل الإنسان والمجتمع إلى أدوات للاستهلاك والقمع، وتخلق بيئة يسود فيها الاستعباد العام، وخاصةً استغلال المرأة، حيث تُعد المرأة فى هذا النظام (ملكة السلع)، ولم يقتصر الأمر عليها كــ “ربة منزل ” فحسب ، بل أكثر من هذا، هى أرخص عاملة – من حيث الأجور- وأداة رئيسة تضخ الأجيال للنظام القائم . وهى درة تاج صناعة الدعاية، ووسيلة تطبيق السلطة الجنسوية وإشارة إلى كيفية استغلالها اقتصادياً واجتماعياً. كما انتقد النظام التعليمي الليبرالي الذي سعى إلى تشكيل أفراد منفصلين عن روح المجتمع وقيمه الأخلاقية والسياسية.
وقد طرح مفهوم “الأمة الديمقراطية” كمشروع بديل عن النظام الرأسمالي الاستبدادي، ووصفها كطريقة لإعادة إحياء المجتمعات الطبيعية التى يسودها الحرية الفردية؛ إذ يرى في الأمة الديمقراطية حلاً لإنقاذ المجتمعات التي استنزفتها الدولة القومية والحداثة الرأسمالية، مشيرًا إلى أن هذه الأمة هي الطريق لبناء مجتمع صحي قادر على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية. وعُدا دور KCKضمان لتحقيق الأمة الديمقراطية وحماية المجتمع الكردي من الإبادة الثقافية التي فرضتها الدولة القومية واعتبر هذا الدور.
رابعاً: الحياة الندية فى الأمة الديمقراطية
وقد عالج مفهوم الأمة الديمقراطية من خلال معالجة العلاقة بين الإنسان، الحياة، والمجتمع. يبدأ بتوضيح أن كل الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان، لها ثلاث وظائف أساسية: تأمين الطعام، الحماية، والتكاثر. لكن الإنسان وصل إلى مرحلة من التطور الاجتماعي قد تُهدد وجوده والبيئة من حوله. وتظهر هنا مفارقة كبرى: بينما الإنسان يزيد من عدد سكانه بشكل غير موجه، فإن استمراره في هذا المسار قد يؤدي إلى تجاوز العتبات الحيوية، مما يُهدد استمرار حياته على هذا الكوكب. ويُشير إلى أن الطبيعة تسعى دائمًا لتحقيق توازن بين النشوء والتكاثر، ولكن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي كسر هذا التوازن. وُلد من هذه الظاهرة مفهوم “التأله“، حيث يعتبر الإنسان نفسه بلا حدود. وبالتالي، يُسرد أن تكاثر الإنسان لا يمنحه معنى للحياة، وأن الاستمرار في التناسل بدون وعي من شأنه أن يؤدي إلى مخاطر كبيرة على الوعي الإنساني.
ومن أحد النقاط الجوهرية التي يُناقشها المفكر أوجلان هي مكانة المرأة في المجتمع الكردي، حيث يرى أن مفهوم الشرف المرتبط بالمرأة يُعبر عن ضعف الرجل الكردي سياسيًا وأخلاقيًا. هذا المفهوم التقليدي للشرف، الذي يضع عبئًا كبيرًا على المرأة، هو مؤشر على انهيار المجتمع وفقدان قيمه. ويدعو إلى التخلص من مفهوم المتملك والبحث عن الحرية الحقيقية للمرأة، مما يعزز الأمة الديمقراطية. تتعرض النساء للظلم والاضطهاد والعبودية على أياد الدول الرأسمالية والعقلية السلطوية والإرهابية، فيما يعملون على كبت حرية المرأة الحرة وتجريدها من حقوقها واستخدامها كأداة لتلبية احتياجتهم الشخصية.
وجاء فكر السيد عبدلله أوجلان لإحياء المرأة –التى جعلها بكتباته مفتاحاً للحياة – ، وإخراجها من الظلام إلى النور، لترى نفسها قيادية فى جميع مجالات الحياة ضمن مجتمع ديمقراطى يسوده العدل والمساواة، ويُؤكد على أهمية تحرر المرأة، ويرى أن المجتمع لا يمكنه أن يحقق الحرية الكاملة دون تحقيق حرية المرأة وكما ذكر ” المرة الحرة تعنى كردستان حرة “. ويُشير إلى أن العلاقة بين الرجل والمرأة يجب أن تتجاوز العلاقات التقليدية المبنية على التملك والتابعية، وتتجه نحو علاقات ندية مبنية على احترام الحرية والاستقلال.
خامسأ : الأمة الديمقراطية وشبه الاستقلال الاقتصاديّ
يتناول عدة جوانب مهمة تتعلق بمفهوم الأمة الديمقراطية وشبه الاستقلال الاقتصادي، مسلطاً الضوء على دور الدولة القومية في تحقيق الربح الأعظم وتكديس رأس المال، وكيف يؤثر ذلك على المجتمعات، وخاصة المجتمع الكردي. ويُعبر عن معاناة الشعب الكردي بسبب الاحتلال الاقتصادي والسيطرة على مواردهم، وكيف أن هذه السيطرة أدت إلى إفقار المجتمع وتفكيكه.
وأكد على أهمية تحقيق شبه الاستقلال الاقتصادي كوسيلة لاستعادة السيطرة على الاقتصاد وتحقيق حرية الأفراد. كما شدد على ضرورة وضع إطار قانوني يدعٌم هذا النوع من الاقتصاد ويُعزز من وجود المجتمع الكردي وهويته.
ومن ثم أشار إلى التوجه نحو الاقتصاد الكومونالي والمستدام الذى يُعد محوراً أساسياً، مع التأكيد على أن العمل يجب أن يكون مصدراً للحرية وليس عبئاً. كما دعى إلى العودة إلى الطبيعة والزراعة الأيكولوجية كحلول لمشاكل البطالة والفقر، مع التأكيد على أن هذه التوجهات تعكس الديمقراطية الحقيقية وتخدم مصلحة المجتمع.
سادسأ: الحياة (الإيكولوجية) في الأمة الديمقراطية
إن النظام الرأسمالي يسعى جاهداً للسيطرةِ على الموادِ الخامِ الأولية ليتخلص من الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها، وعلى هذا الأساس وُضِعتْ الخططُ للسطو على الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط كالنفط و الماء و مصادر الطاقة الأخرى، وتكونُ هذه السيطرة عن طريق اتفاقيّات أو تحالفات مع القوى المتواجدة في المنطقة أو حتى في خلق حروب بين قواها, هدفُها الأساسي كسب المواردِ الطبيعية.
علما أن أزمات النظامِ الرأسمالي ليست اقتصادية بل تنظيميةً لأنها تتبع نظام المركزية. بالإضافة إلى وجودِ أزمات طبيعية إيكولوجية, إنْ لم تتمّ معالجتها, فسوف تتوسع وتتضخم وتؤثّر على البنية التحتيّة لتصل إلى مرحلةِ عدم التوازن البيئيِ. وبهذا لن تكون هناك حياةٌ أيكولوجية، فما نعيشه الآن من تقلباتٍ طبيعيةٍ غيرُ متوازنةٍ بين الفصول منها: ازديادُ درجات الحرارة والفيضانات، بالإضافة إلى ذوبان الجليد في القطب الشمالي واقتراب الشمس من الأرض، فهذه القضايا ستجلب معها الكوارثَ الطبيعيةَ والبشريةَ، بالإضافة إلى ذلك (قضيةُ المرأةِ) والتي تُعتبَر القضيةَ الأهمَّ للمجتمع, فإنْ لم يتمَّ حلّها ومعالجتُها فستكون هناك أزمةٌ من الناحية الأخلاقية, وأزمةٌ من جهة التزايد السكاني وهذا سيؤثّر على العالم أجمع. إن الحداثة الرأسمالية وعبر الدولةِ القوميةِ التي تتخذها أداةً لتحقيقِ حاكميتها على الاقتصاد المرتكز على الربح الأعم وتكديس رأس المال.
سابعاً: البنية القانونية للأمة الديمقراطية
بيد أن هناك اختلافات بين القانون الديمقراطي وقوانين الدولة القومية. فالقانون الديمقراطي يعتمد على التنوع ويبتعد عن التعقيدات القانونية التي تميز الدولة القومية، التي تتدخل في جميع جوانب المجتمع وتلجأ للقانون كوسيلة للسيطرة. كما ناقش وضع الكرد في سياق النقاش القانوني؛ إذ أنهم لم يحصلوا على قانون خاص بهم نتيجة للتمييز والإبادة. وأشار إلى الجهود المبذولة من قبل KCK لتحقيق الاعتراف القانوني بالوجود الكردي، كما أكد على أهمية تحقيق الحل السلمي والديمقراطي للقضية الكردية من خلال وضع شبه الاستقلال الديمقراطي في الدساتير الوطنية. أما الأمة الديمقراطية فإنها يقظة حيال القانون وخاصةً الدستوري منه، لأنها أمةٌ أخلاقيةٌ أكثر منها قانونية. ولهذا تعتمد الأمة الديمقراطية على القانون الاجتماعي الأخلاقي بالدرجة الأول.
ثامناً: ثقافة الأمة الديمقراطية
يُبرز البُعدُ الثقافي في بناء الأمم كيف تعكس الثقافة الذهنية التقليدية والعاطفية للمجتمعات. ويُشير إلى أن الدين والفلسفة والميثولوجيا والعلم والفنون تُشكل ثقافة المجتمع وتُعبر عن حالته الروحية. ومع ذلك، يتعرض العالم الثقافي للتحريف أثناء تشكيل الدول القومية، حيث ترفض الحداثة الرأسمالية التقاليد كما هي، وتقوم بانتقاء ما يُناسب مصالحها من الثقافة والتاريخ. هذه العملية تؤدي إلى إنتاج سردية جديدة تدعي أنها تُمثل الثقافة الحقيقية، بينما هي في الواقع تعتيم على التاريخ والثقافة الأصلية. بيد أن الحداثة والدولة القومية تعيد تشكيل الثقافة والتاريخ وفقًا لمصالحها، مما ينتج عنه واقع مختلف تمامًا عن الحقيقة الثقافية والتاريخية، وهو ما يسبب تشويهًا عميقًا للتراث الثقافي.
تسعي الأمة الديمقراطية لإعادة المعنى الحقيقي للتاريخ والثقافة، حيث تُعتبر هذه العملية تجسيدًا للنهضة الوطنية الديمقراطية. يُشير إلى أن النهضة في أوروبا بعد العصور الوسطى كانت تعني استعادة التاريخ والثقافة الإغريقية-الرومانية، مما أدى إلى تحولات وطنية ناجحة في العديد من الدول الأوروبية.
وقد أكد على أهمية التاريخ والثقافة في تشكيل هوية الأمم، ويشير إلى أن الميول الديمقراطية كانت تسود خلال هذه الفترات. ومع ذلك، يشير إلى أن تصاعد الهيمنة البورجوازية، خاصة بعد الثورة الفرنسية، أدى إلى تحويل طابع الأمة الديمقراطية إلى أمة دولة، مما خلق تضادًا بين الدولة القومية والأمة الديمقراطية. أن الدولة القومية هي ثورة مضادة ضد الثورات الديمقراطية، حيث تحاول الرأسمالية والبورجوازية إخماد حركات الكادحين والشعوب الأوروبية، مما يشير إلى أن كل دولة قومية تُعتبر ثورة مضادة تتعارض مع الاشتراكية والتعاون بين الأمم الثورية. ومن ثم، فإن الأمة الديمقراطية هي الأمّةُ التي تعيشُ وتتمتّعُ بالاستقرار أكثر من غيرها، وكلما اقتربتْ من تطبيقِ مشروعِ الأمةِ الديمقراطية فإنّها ستعيشُ مستقرّةً أكثر, فلا حدودَ بين إسبانيا وفرنسا مثلاً.
خلاصة القول ، إن بتحليل مفهوم “الأمة الديمقراطية” تحليلأ عميقأ سنجد الدور الذى يلعبه كلاً من الثقافة والتاريخ في تشكيل الهوية الوطنية والتى يمكن تلخيصها فيما يلى:
الثقافة والديمقراطية: أشار إلى أن الثقافة تعكس الذهنية والتاريخ الروحي للأمم، وأن الحداثة الرأسمالية تُحرف هذه الثقافة لتناسب مصالحها.
- التاريخ والثورة: أعتبر أن النهضة الثقافية والديمقراطية تتطلب إعادة تأكيد العلاقة بين الشعوب وتاريخها، مستشهداً بأمثلة من الثورات الأوروبية.
- البورجوازية والدولة القومية: أظهر كيف أن صعود البورجوازية والدولة القومية كان له تأثير سلبي على الحركات الديمقراطية، معتبرًا إياها ثورات مضادة.
- التجربة الكردية: أبرز أهمية الوعي التاريخي والثقافي في القضية الكردية، ويعتبر أن إنكار وجود الشعب الكردي ثقافياً وتاريخياً هو جزء من الإبادة الثقافية.
- التعاون بين الشعوب: دعى إلى تعزيز التحالفات الوطنية والديمقراطية بين الكرد والشعوب الأخرى، مشيراً إلى أهمية التاريخ المشترك والتعاون في بناء مستقبل أفضل.
تاسعأ: الدفاع الذاتي
طرح المفكر الكبير أوجلان مفهوم “الدفاع الذاتي” في سياق الأمة الديمقراطية، موضحًا أنه ليس فقط سمة طبيعية في الكائنات الحية، بل أكد على كونه ضرورة لصيرورة الحياة؛ أى لاستمرار وجود الإنسان والمجتمع. كما أشار إلى أن غياب آليات الدفاع الذاتي قد يؤدي إلى الفناء أو الاستسلام للتهديدات الخارجية.
تاريخيًا، تعرض الكرد للهجمات المستمرة بسبب موقعهم الجغرافي ومواردهم، مما أدى إلى أهمية الدفاع الذاتي في ثقافتهم. وقد تطورت أنظمة الدفاع الخاصة بهم على مر العصور، لكن مع ظهور الأنظمة الرأسمالية والدول القومية، أصبح خطر فقدان الهوية والوجود أكثر وضوحًا.
فقد تأسس حزب العمال الكردستانى PKK كرد فعل على هذه الظروف، حيث تحول من الدفاع الأيديولوجي والسياسي إلى كفاح مسلح لحماية الشعب الكردي. رغم الهجمات المتعددة من القوى المهيمنة، استطاع أن يُحقق مستوى من الاعتراف بهوية الكرد.
كما أكد على ضرورة بناء نظام دفاع ذاتي مستدام كجزء من برنامج بناء الأمة الديمقراطية، ودعى الدول القومية إلى إصلاح سياساتها الأمنية الداخلية. إذا لم يتم التوصل إلى توافق مع الدول القومية، ستعمل KCK على تعزيز قوات الدفاع الذاتي. من حيث العدد والنوعية، بما يتناسب مع الاحتياجات الجديدة، وذلك للدفاع عن مشروع الأمة الديمقراطية بشكل أحادي. ستكلف قوات HPG، التي سيُعاد هيكلتها بحماية التحول الوطني الديمقراطي في كل المجالات والقطاعات. ستعمل هذه القوات على ترسيخ سيادة الأمة الديمقراطية وستكون مسؤولة عن حماية أمن وممتلكات المواطنين الأفراد.إضافة إلى ذلك، ستظل هذه القوات في حالة صراع دائم ضد ممارسات الدول القومية، والتي تشمل الحروب العسكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية، وحتى الإبادة الثقافية. ويؤكد أن وجود وحرية كردستان والكرد لا يمكن أن يتحققان دون نظام دفاع ذاتي قوي ومستمر.
عاشرأ: دبلوماسية الأمة الديمقراطية
يأتى موضوع الدبلوماسية في سياق القومية الكردية، مشيراً إلى التحديات التي يواجهها الكرد تاريخياً في سياق العلاقات الدولية. يتحدث عن كيف تم استخدام الكرد كأداة في صراعات القوى العظمى، مما أثر سلباً على وجودهم وهويتهم. كما يُبرز أهمية تشكيل “المؤتمر القومي الديمقراطي” كوسيلة لتوحيد جهود الكرد وتحقيق مصالحهم في إطار دبلوماسية جديدة تقوم على مبادئ الديمقراطية والتعاون. وأكد على ضرورة وجود هيئة تنفيذية موحدة وعلاقات دبلوماسية منظمة تُمثل جميع مكونات الشعب الكردي، وتُعزز من وجودهم في الساحة الدولية وذلك من خلال .
- تطوير دبلوماسية مشتركة: لإنهاء الانقسامات وتعزيز العلاقات بين الكرد.
- تشكيل “المؤتمر القومي الديمقراطي”: كمنصة موحدة لكافة القوى الكردية.
- إقامة علاقات دولية: قائمة على تحقيق المصالح المشتركة وتعزيز الوجود الكردي في العالم.
هذا التركيز على الدبلوماسية كأداة للحفاظ على الهوية والوجود يُظهر الوعي بأهمية التعاون والشراكة في مواجهة التحديات التاريخية والسياسية.
مكونات الأمة الديمقراطية
تنوعت الركائز التي اعتمد عليها غالبية من تحدث في شأن هوية الأمة، ما بين اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والثقافة، وقد ذكر الباحث على ثابت أن الأمة الديمقراطية تقوم على ثلاث ركائز وهي “الكومنات والمجالس، الاقتصاد الكومونالي، الأكاديميات ” ، لكن أوجلان اقتصر على شرطين لِتَشَكُّلِ الأمة هما:
- وجود الأمة المُتشاركة ذهنياً أو المشتقة من أُمَّة الثقافة أو اللغة.
- وجود طراز الإدارة الديمقراطية شبه المستقلة، وهو الركن الأساس فيها.
فى حين أن السيد عبد الله اوجلان أكد أن الأمة الديمقراطية تستمد قوتها للنهوض بمشروعها من مصدرين أثنين لا غنى عنهما وهما “الشبيبة والمرأة”.
ومن ثم فيُعد مشروع الأمة الديمقراطية العمود الفقرى في إقرار التعايش السلمي بين شعوب الشرق الأوسط ، بل يتعدى تأثيره إلى كل المجتمعات التى تُعاني من ظلم وقهر نموذج الدولة القومية .ولذا يمكن
خلاصة الأمر، يُعد مشروع الأمة الديمقراطية منارةً للحل الأمثل، ليس فقط لشعوب المنطقة، بل لكل القضايا المشابهة في أنحاء المعمورة. فالمفكر الكبير أوجلان، حين قدم نموذج الأمة الديمقراطية، لم يكن يسعى لحل معضلات مجتمعه فحسب، هذا النموذج يرتكز على ذهنية تجمع بين الديمقراطية الحقيقية وتعدد الهويات في إطار من الوفاق والسلام والسماحة، ما يُضفي على العلاقات الاجتماعية بعدًا جديدًا من دمقرطة العلاقات الاجتماعية. ومن خلال هذه الذهنية، يُعاد تشكيل المجتمع وتسليحه بوعي عميق، لتعود المنطقة إلى عصور التعايش السلمي والبناء الحضاري إذا فإن مشروع الأمة الديمقراطية هو العمود الفقرى في إقرار التعايش السلمي بين شعوب الشرق الأوسط ، بل يتعدى تأثيره إلى كل المجتمعات التى تُعاني من ظلم وقهر نموذج الدولة القومية . فهذا الحل لا يستهدف حل القضية الكردية فقط ، بل يعرض حلاً شاملاً للتنوع الثقافي والإثني في الشرق الأوسط، إنه نموذج يحاكي العدالة والديمقراطية، ويسعى إلى بناء مجتمعات يستطيع فيها الأفراد والمجموعات التعبير عن هوياتهم بحرية، والمشاركة في صياغة مصيرهم المشترك. بهذا، يصبح مشروع الأمة الديمقراطية تجسيدًا لرؤية إنسانية تتطلع إلى عالم أكثر عدلاً وسلاماً.
مراجع يمكن الرجوع إليها
- أحمد عبد الحافظ فواز ، الفائز الأكبر التحدى الكردى للهياكل الإقليمية بعد الربيع العربى ملحق تحولات إستراتيجية على خريطة السياسة الدولية ، مجلة السياسة الدولية ، ع (90) ، القاهرة ، مؤسسة الأهرام للدراستات السياسية والاستراتيجية ، 2013م.
- بنكى جاجو، مقترحات لحل القضية الكردية في تركيا ديمقراطياً، 26 يوليه 2009م.
- حسين مصطفى أحمد ، المسألة الكردية فى تركيا وتأثيرات المتغيرات الداخلية والخارجية ( دراسة تحليلية مستقبلية ) ، كلية العلوم السياسية جامعة النهرين .
- خورشيد دالى ، القضية الكردية فى تركيا والحل السلمى ، 14يناير 3013م.
- طه على أحمد : عبد الله أوجلان وَحَلُّ الأمة الديمقراطية: قراءة أولية
- كلستان كربى، بين الدولة واللا دولة السياسة والمجتمع فى كردستان والعراق، ترجمة على الحارس، دار الرافدين للحوار، بيروت ، 2022م.
- كفاح محمود ، القضية الكردية والخيار السلمى .
- https://aawsat.com/home/article/4276011/%D9%83%D9%81%D8%A7%D8%AD%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A
- فؤاد حمه خورشيد مصطفى ، القضية الكوردية فى المؤتمرات الدولية ، ط 1 ، مؤسسة موكريانى للطباعة والنشر ، كوردستان/ أربيل، 2001م.
- عبدالله أوجلان ، مانيفستو الجزء الجامس القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافية ، مطبعة: داتا سكرين، لبنان ، 2018م.
- على ثابت صبرى ، مشروع الأمة الديمقراطية وتحقيق التعايش السلمى، مركز آتون للدراسات .
- عماد نعمة العبادى، رؤية حكومة حزب العدالة والتنمية فى حل القضية الكردية فى تركيا ، مجلة كلية التربية الأساسية، الجامعة المستنصرية، عدد (29) رقم 119.
- محمد ديبو ، الانتخابات الحرة ليست شيئاً عظيما بعد خراب البلد.
- منال محمد صالح ، مشكلة الهوية والحدود 1923- 1999م ، جامعة الموصل، مجلة أبحاث كلية التربية للعلوم الإنسانية، المجلد (16) ، 2019م.
- حل القضية الكردية هو الحل الأساسي لكل الأزمات، 11نوفمبر 2023م.
- North and East Syria’s Roadmap for Stability, Elham Ahmed on January 11, 2024 .