بعد سقوط نظام الأسد، ومغادرة رأس السلطة “بشار الأسد” إلى موسكو، مما يعني بشكل أو بآخر خروج دمشق من العباءة الإيرانية وسيطرتها الإقليمية وكذلك انحسار الدور الروسي داخل سوريا، مما ترتب عليه سباق محمومًا بين القوى الإقليمية وكذا القوى الدولية لتوسع نفوذها داخل الدولة السورية ومحاولة كل قوى اجتذاب العناصر المهادنة لها داخل البلاد، وكان الحظ الأوفر في التواجد على الساحة السورية لتركيا، لاسيما مع توسع أنقرة على حساب المناطق الكردية السورية في شمال سوريا واحتلالها الصريح لبعض المدن كعفرين ورأس العين وتل أبيض، أو التوافق بينها وبين الحكومة السورية الانتقالية بقيادة “أحمد الشرع”، مما يشكل مصدرًا للقلق لدى أحد المنافسين الإقليميين وهي إسرائيل التي هرعت للتوغل في الأراضي السورية، ولجأت إلى التصعيد ضد النظام السوري، وتركيا لتكون الترتيبات الجديدة غير مهددة لها .
مظاهر التصعيد الإسرائيلي في سوريا:
- احتلال واقتطاع أراضي من سوريا، حيث تمت السيطرة بشكل كامل على الجولان، ومنطقة جبل الشيخ، وبات التواجد الإسرائيلي يبعد عن العاصمة دمشق عشرات الكيلومترات.
- ضرب مجمع البحوث العلمية في دمشق الذي يبعد كيلومترات عن قصر الرئاسة، بحجة التخوف الإسرائيلي من تصنيع أسلحة كيماوية.
- محاولة دعم الدروز والتدخل في شؤونهم، وتذرعها بالتدخل في الأراضي السورية لحمايتهم كأقليات يخشى عليها من بطش النظام الحالي.
- تكثيف إسرائيل غاراتها على مناطق أفيد عن رغبة تركية إقامة قواعد عسكرية فيها على الأراضي السورية، فقد استهدف مؤخرًا سلاح الجو الإسرائيلي ضمن هذه الغارات مطار حماة العسكري حيث نفذت ما يزيد عن 25 غارة جوية، وقاعدتي T4 بمنطقة حمص، وكذلك بعض الأماكن في تدمر وتم تدميرهما بالكامل ، وتتميز هذه القواعد بموقعها الاستراتيجي الهام في وسط سوريا وقربها على البحر المتوسط، ومن العاصمة “دمشق”، ما قد يمنع الجانب التركي من الاستفادة من هذه المواقع بعد تدميرها جرّاء تلك الغارات.
- التوغل البري لقوات للجيش الإسرائيلي، واشتباكه مع الأهالي في درعا، وضرب العاصمة السورية بالطيران الإسرائيلي، مما أدى لمصرع 9 مواطنين وإصابة آخرين.
- إعلان إسرائيل رغبتها تأسيسها لمنطقة أمنية بجنوب سوريا، يمنع تواجد أي قوات للإدارة السورية الانتقالية فيها، والتي تقسم وفقًا لوزير الدفاع الإسرائيلي لجزئين جزء يضم المنطقة العازلة ويعيش فيه 40000 إضافة لتأسيس 9 قواعد عسكرية 7 منهم بالمنطقة العازلة و2 في الأراضي السورية بالجنوب، إلى جانب إعلان القنيطرة، ودرعا، والسويداء مدن ستبقى منزوعة السلاح.
- التهديد الصريح من قبل “يسرائيل كاتس” وزير الدفاع الإسرائيلي للحكومة السورية (بعدم السماح للجولاني بإدخال قوات معادية للأراضي السورية ” في إشارة للجانب التركي”، وإلا ستدفعون الثمن باهظًا)، واتهام مسئولين إسرائيليين لتركيا سعيها لتحويل سوريا لمحمية تركية.
وقد أدى هذا التصعيد إلى جعل المشهد أكثر تشابكًا واحتدامًا ما بين كل من أنقرة وتل أبيب، ودخول العلاقات التركية – الإسرائيلية مستوى جديد من التوتر الغامض، وإن كان مفخخًا بالكثير من الشكوك والهواجس المضمرة، إلى مسار التوتر المعلن، ولكنه لن يرق إلى أن يصل إلى حد الصراع والصدام المباشر.
أسباب تأزم العلاقات بين تركيا وأنقرة في سوريا:
- التنافس والتناحر وصراع المصالح بين أنقرة وتل أبيب على فرض السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، لاسيما بعد انهيار الجيش السوري بسقوط “بشار الأسد” وتدمير قطعه الحربية على يد إسرائيل، بحجة الخوف من وصول الجولاني للسلطة ذو الخلفية الراديكالية، واستخدامه هذه الأسلحة ضد إسرائيل.
- اختلاف الرؤية التركية والإسرائيلية على شكل وهوية الدولة السورية، حيث تريد تركيا أن تكون سوريا دولة مكررة عن نموذجها في النظام السياسي الإسلامي ودولة مركزية وتحت هيمنتها ووصايتها، بينما رؤية إسرائيل مختلفة حتى لا تكون دولة مهددة لها في المستقبل.
- تولي “أحمد الشرع” السلطة، وقيامه بزيارة تركيا و الحديث عن عقد اتفاقية تعاون ذات مراحل متعددة، بحيث تشمل المرحلة الأولى مساعدة الجانب التركي لسوريا في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، للسيطرة على مفاصل الدولة في شؤونها السياسية والإدارية، ومن ثم بدء المرحلة التالية التي تتمثل في إعادة البنية العسكرية للجيش السوري، حيث تدعم أنقرة دمشق عسكريًا بتوفير الأسلحة والعتاد، لكن مع تولي الجيش التركي التدريب العسكري للجيش السوري، ومع التواجد التركي العسكري في القواعد الجوية السورية، حيث ستقوم تركيا بنقل قواتها ومنصات دفاعاتها الجوية، إلى مطار حماة ومطار T4، يؤرق هذا الوضع الجانب الإسرائيلي.
- الحديث عن رغبة إقدام الجانب التركي على تزويد السلطة السورية الجديدة بمنظومة الدفاع التركي المتحركة (حصار) والتي يمكنها أن تتعامل مع سلاح الجو الإسرائيلي، حيث تستطيع هذه المنظومة استهداف أربع أنواع من الأهداف المعادية في نفس الوقت كالصواريخ المجنحة والطائرات المقاتلة والطائرات المسيرة، والصواريخ جو – أرض، وهي منظومة متحركة، ورؤسها الحربية شديدة الانفجار وتعمل بالأشعة تحت الحمراء وأشعة الليزر، وتتميز بتفوق أدائها وقت الاشتباك، وسرعة الاستجابة في وقت يصل لـ4 ثوان فقط، كما أنها تستطيع تأمين القوات التي تستخدمها على بعد 20 كم.
- إسرائيل ترى أن تواجد تركيا في سوريا هو تكتل يهدد المصالح الإسرائيلية التوسعية على حساب الجانب السوري، وأن التحالف بين تركيا و”الشرع” سيشكل قوس سني إسلاموي ضد إسرائيل على غرار التحالف بين “الأسد” وإيران الذي شكل تكتل شيعي مؤرق للكيان، مما يهدد المكاسب الإسرائيلية جراء انهيار نظام “الأسد”.
- رغبة تل أبيب في الحفاظ على الوضع الهش والطائفي الذي يهدد بتقسيم سوريا وضعف الدولة، حيث يتركز الدروز في الجنوب، والشيعة في الساحل، والسنة في الوسط، وقوات سوريا الديمقراطية(العربية-الكردية-السريانية) في الشمال الشرقي.
- محاولة إسرائيل التواجد على الحدود الجنوبية لتركيا في سوريا من خلال محاولة إسرائيل التقرب من الكرد، و الحديث عن إنشاء ما يعرف بـ”ممر داوود” الذي يربط التواجد الإسرائيلي بشرق الفرات، مما يهدد الجانب التركي.
- اتهام تل أبيب لأنقرة بمحاولة السيطرة الاقتصادية التي لا تقتصر على حقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط، بل إنها تتسع أيضًا إلى منع دول البحر الأبيض المتوسط من تجارة ونقل الغاز إلى أوروبا، ومن ذلك منع بناء خط أنابيب غاز تحت الماء من المفترض أن ينقل الغاز من مصر وإسرائيل وقبرص إلى أوروبا، والذي يشكل عاملًا رئيسيًا في الخلاف بين إسرائيل وتركيا.
ولكن مع كم الأسباب التي تحدث توترًا متصاعدًا في العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وتنافساً على تقسيم الكعة السورية، إلا أننا نجزم أنه من الصعوبة بمكان حدوث صدام أو مواجهة مباشرة بين كل من أنقرة وتل أبيب سواءً داخل سوريا أو خارجها، وذلك لكون تركيا عضوًا في حلف شمال الأطلسي، وعلاقة إسرائيل بأمريكا والدعم العسكري لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة، إضافة إلى وجود الكثير من مناحي التعاون الاقتصادي والسياسي ومجال التسليح، وبالتالي لا يمكن أن تضحي تركيا بعلاقاتها مع إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة والغرب، لأجل سوريا، في حين يمكن أن يكتفي بتحديد نقاط النفوذ لكل من البلدين في سوريا، وبالتالي لا يمكن لإسرائيل وتركيا أن تجازفا بالدخول في صدام ساخن رغمًا عن الناتو والولايات المتحدة بوجود إيران وعلاقاتها المتوترة مع الغرب، لكن قد يدخل البلدان في حرب استنزاف عبر حرب بالوكالة.
محادثات لتهدئة التوتر بين الطرفين
عقدت محادثات مؤتمر “باكو” بأذربيجان 9 إبريل 2025 بين إسرائيل وتركيا لتهدئة التوتر بين الدولتين، والتوصل إلى آلية لخفض التصعيد ووضع قواعد للاشتباك، ومنع وقوع حوادث أو صدام على الأراضي السورية، واللافت أن الاجتماع كان على مستوى التقنيين وهو الأول من نوعه، وليس على مستوى الدبلوماسيين، وقد تم التأكيد بأن المحادثات ستتواصل عقب احتفالات عيد الفصح التي تستمر حتى 19 أبريل 2025، ويذكر أن “أردوغان” و “الشرع” ناقشا في منتدى أنطاليا تطورات الأوضاع في سوريا والعلاقات الثنائية في مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية وفي مجال الطاقة، مما يعني استمرار الدعم التركي والتواجد التركي في الأراضي السورية، ولكنه لا يعني بالضرورة المواجهة مع إسرائيل.
وبناء على ما تقدم، نجد أن هناك عدة سيناريوهات مطروحة على أرض الواقع لما سيئول له التنافس التركي الإسرائيلي على الأراضي السورية، وتتمثل في:
- السيناريو الأول: حيث يتم التفاهم بين كل من إسرائيل وتركيا؛ بهدف تقسيم نفوذ كل منهما في سوريا، دونما التعدي على مناطق نفوذه الخاصة بالآخرين، ويستدعي حدوث هذا السيناريو تدخل وسيط ثقيل، كالولايات المتحدة، كونها حليفة لإسرائيل وصديقة لتركيا.. وليس بالضرورة أن يتخذ “سيناريو التقاسم” شكل اتفاقات مبرمة، بل يكفي التوصل إلى “تفاهمات بين الأطراف” برعاية أمريكية حتى يصبح “التقاسم” ممكنًا، فمثل هذه التفاهمات “صمدت” في أزمنة ومناطق متباينة، أكثر مما فعلت الاتفاقات المكتوبة، وهو وضع شبيه بما كانت عليه سوريا قبل سقوط نظام “بشار الأسد”، حيث كان لكل من روسيا، وإيران، وتركيا، والولايات المتحدة مناطق نفوذه المعروفة هناك.
وفي حال حدوث هذا السيناريو، من المتوقع ألا تلتزم إسرائيل بهذا التقسيم ويتم اللجوء للتوسع والتناوش من وقت لآخر بحجة صيانة أمن إسرائيل ومستوطنيها في المناطق المحتلة بسوريا، مما يعني تطويقًا للنفوذ التركي في سوريا.
أما السيناريو الثاني: وهو الذي يفضي إلى صدام مباشر بين الجانبين داخل سوريا، وهذا ما تطرقنا إلى استبعاده وصعوبته، نظرًا لعضوية تركيا في حلف الـ”ناتو” وما يترتب على ذلك من التزامات الدفاع والتدخل في الصراع من قبل الدول الأعضاء في الحلف لصالح تركيا، إضافة للالتزام الأمريكي الدائم بحماية أمن إسرائيل، وهو ما يستحيل أن تقدم عليه تركيا من مواجهة للولايات المتحدة، ومن زاوية أخرى فإن الولايات المتحدة ليست مؤيدة لتصادم بين تل أبيب وأنقرة في سوريا، لاسيما مع تصريحات ” الرئيس الأمريكي ترامب” بأنه في حال وجود خلاف مع “أردوغان” يتوجب حله، وتأكيده لعلاقة الصداقة بينه وبين الرئيس التركي مما يعطي الضوء الأحمر لإثناء “نتنياهو ” عن التهور بأي عمل عدائي ضد تركيا في سوريا، وهذا يعكس التبعية التركية لأمريكا.
- والسيناريو الثالث‘ يتمثل في حرب الوكالة ، حيث تقوم تركيا وعبر أذرع عسكرية لها بتهديد المصالح الإسرائيلية في الجنوب السوري أو ربما تقوم إسرائيل بتوطيد علاقاتها بفصيل أو أكثر في سوريا، لاختراق وحدة المجتمع السوري، ومن خلاله تقوم بتنفيذ مخططاتها في سوريا، بحيث يصبح هذا الفصيل “الطرف الثالث” هي الأداة التي يتم من خلالها مهاجمة المصالح التركية في سوريا، بينما تبقى يد إسرائيل نظيفة، أو من خلال الهجوم على الفصائل والجماعات المهادنة والمتعاونة مع الجانب التركي في سوريا.
وهنا نجد أن السيناريوهان الأول والثاني هم الأكثر ترجيحًا والأقرب للواقع، وهو ما يتفق مع نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، في طبعاتها المُحدّثة، حيث أوكلت المهمة للجيش والاستخبارات الإسرائيليين، على أن يجري إنجازها على “أرض العدو”، بعيدًا عن الحدود والجبهة الداخلية، وقد يتضمن هذين السيناريوهين انسحاب إسرائيل من بعض النقاط ولكنها قادرة على العودة لها في أي وقت حال وقوع أي تهديد أمني لإسرائيل، وقد يتخلل ذلك إنعاش لاتفاقية فك الارتباط 1974 ، مع التحكم في مساقط المياه، وقمم المرتفعات، والحفاظ على حقوق أكبر للجانب الإسرائيلي.