ثقافة

الثقافة كمقاومة.. غوص في التجربة الكردية

تحليل: د. هدير مسعد عطية

ارتبط جين الكرد التاريخي تقليديا بفعل المقاومة، وهو الفعل الذي غذاه على مر القرون وجود خزان ثقافي وطبقات من موروث مكافحة الظلم السلطوي. ومن ثم، وفي ظل السياقات الكردية الموسومة بالاقتلاع الجبري والحرب والإبادة الجماعية والمحو العرقي والعديد من أشكال القمع، فإن وجود الثقافة بجميع أشكالها وتجلياتها استمرارها وقوتها هو في حد ذاته عمل مقاومة، عمل للبقاء، وفعل استعادة الحقوق. هذه هي حرفيًا الثقافة المنتجة في أوقات الموت، وهي بذاتها دليل على الحياة عندما يتم قمعها من قبل الدول القومية الحديثة التي تتحمل المسؤولية عن حياة الكرد المتواجدين داخل حدودها. الدول عينها التي تشرعن عدم وجودهم، ويفضل أن تسميهم أشياء أخرى مثل “كرد الجبل”، مع جعل اللغة الكردية، وأسامي الأطفال، بل والألوان الوطنية الكردية غير قانونية. كان العيش في هذه السياقات، والتجرؤ على الإبداع، ومقاومة محاولات الإبادة الجماعية، شجاعة باهرة، أسست على بُنى وإرث ثقافي ومخزون هوياتي وتشكيل قيمي ثري للغاية. ذلك أن الثقافة والبقاء ليسا اختيارين، لكنهما استثنائيان، لذلك فهما وقبل أي شيء آخر، أعمال مقاومة، بمجرد وجودها.

ولذلك، كان هم “المجتمعات الصاهرة” بتعبير أوجلان كما سنرى بعد برهة؛ وأد المحاولة وقتل إمكانية التفكير الحر خارج التشكيل القومي العام. ودوما كانت “الآليةُ الأساسيةُ التي تُطَوِّرُها النخبةُ الحاكمةُ في سبيلِ ذلك، هي سدُّ جميعِ طرقِ التطورِ البنيويِّ والعقليِّ والثقافيّ، كي لا يتمكنَ المهتمون بكلِّ ما هو معنيٌّ بالثقافةِ المصهورةِ –أياً كانوا– من إيجادِ أيةِ فرصةٍ للعيشِ في المجتمعِ الرسميّ. ومهما كانت درجةُ المهارةِ لدى الشخصيةِ أو المجموعةِ أو المؤسسةِ التي تَعقِدُ العلاقةَ مع الثقافةِ المصهورةِ وتَرمي إلى إحيائِها، فإنّ جميعَ أبوابِ الدولةِ تُوصَدُ في وجهِها. كما تُتَّخَذُ مختلفُ التدابيرِ لطردِها من ميادينِ المجتمعِ الخارجِ عن إطارِ الدولة، سواء بالأساليبِ السريةِ أم العلنية، المرنةِ أم القاسية. أما الشخصياتُ والمؤسساتُ المهتمةُ بالثقافةِ المصهورةِ بمنوالٍ غِرٍّ في البداية، ولدى إدراكِها مع الوقتِ أنّ الأمرَ لا يقتصرُ على إغلاقِ كافةِ الأبوابِ في وجهِها، بل وقد يتعرضُ وجودُهم الجسديُّ أيضاً للخطرِ في حالِ إصرارِهم على خُطاهم؛ فإما أنْ تنخرطَ بين صفوفِ مجتمعِ الدولةِ القوميةِ المهيمنةِ والصاهرة، أو أنْ تُغَيِّرَ أساليبَها بحثاً عن الخلاصِ في الشخصيةِ المتصديةِ والتنظيمِ المقاوِمِ بفعالية. وثمة عددٌ لا يُحصى في هذا المضمارِ ضمن جميعِ كياناتِ الدولةِ القوميةِ للحداثةِ الرأسمالية. لا تُطَبَّقُ هذه الآليةُ المذكورةُ على المجموعاتِ الأثنيةِ والشعوبِ المسحوقةِ فحسب، بل إنّ المجموعاتِ الأثنيةَ المختلفةَ والطبقاتِ المسحوقةَ من الأمةِ التي تنتمي إليها النخبةُ الحاكمةُ أيضاً تنالُ نصيبَها من الصهر، وتبقى وجهاً لوجهٍ أمام فُقدانِ لهجاتِها الأثنيةِ وقِيَمِها الثقافيةِ الصامدةِ حرةً”.

ولهذا لا يمكن الفرار من الإيقان بأن: “الشعبُ الكرديُّ يُشَكِّلُ مثالاً صارخاً في هذا السياق، كونَه الضحيةَ الأكبرَ للصهرِ في الشرقِ الأوسط. فالإصرارُ على الكردايتية، يعني تحمُّلَ سياقٍ يبدأُ بالتخبطِ في البطالة، ويصلُ حدَّ التطهيرِ العِرقيِّ والإبادة. فأيّما كانت المهاراتُ التي يتحلى بها فردٌ كرديٌّ ما، فإذا لم يَتَمَثَّلْ طوعياً شتى السياساتِ الثقافيةِ التي تتَّبِعُها الدولةُ القوميةُ المسيطرة، فستُوصَدُ على التوالي جميعُ الأبوابِ أمام تطورِه الشخصيِّ والمؤسساتيّ. فإما أنْ يختارَ الاستسلامَ طوعاً ليَرى كيف تُفتَحُ له الأبوابُ البالغةُ مرتبةَ تَسَنُّمِ منصبِ رئاسةِ الجمهورية، أو أنْ يَعرفَ كيف يتحملُ كافةَ أنواعِ البلاءِ التي ستحلُّ به، والتي ستصل حدَّ التطهيرِ والإبادةِ في حالِ اختارَ المقاومةَ وعدمَ الاستسلام”.

أما الإباداتُ الثقافيةُ كما يكمل أوجلان، فهي “ثاني أسلوبٍ في الإبادة، فغالباً ما تُرتَكَبُ ضد الشعوبِ والمجموعاتِ الأثنيةِ والجماعاتِ العقائديةِ التي هي في وضعٍ واهنٍ ومتخلفٍ مقارنةً مع ثقافةِ الدولةِ القوميةِ والنخبةِ الحاكمة. يُرامُ بالإبادةِ الثقافيةِ (التي تُعَدُّ آليةً أساسية) إلى التصفيةِ التامةِ لتلك الشعوبِ والمجموعاتِ الأثنيةِ والدينيةِ بصَهرِها ضمن ثقافةِ ولغةِ النخبةِ الحاكمةِ والدولةِ القومية، ويُسعى إلى القضاءِ على وجودِها بإقحامِها في مكبَسِ كافةِ أنواعِ المؤسساتِ الاجتماعية، وعلى رأسِها المؤسساتُ التعليمية. الإبادةُ الثقافيةُ شكلٌ من أشكالِ التطهيرِ العِرقيِّ الأكثر مخاضاً مقارنةً مع الإبادةِ الجسدية، وتمتدُّ على سياقٍ طويلِ الأَمَد. والنتائجُ التي تُفرِزُها أفظَعُ مما تفرزه الإبادةُ الجسدية، وتُعادِلُ أكبرَ أنواعِ الفواجعِ مما قد يَشهدُه شعبٌ أو مجموعةٌ ما. ذلك أنّ الإرغامَ على التخلي عن وجودِه وهويتِه وعن جميعِ المُقَوِّماتِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الكائنةِ في طبيعةِ مجتمعِه، يُعادِلُ الصَّلبَ الجماهيريَّ الممتدَّ على مرحلةٍ طويلةِ المدى. يستحيلُ الحديثُ هنا عن العيشِ في سبيلِ القيمِ الثقافيةِ المُعَرَّضةِ للإبادة، بل لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن التأوُّهِ والأنين. فالألمُ الأصليُّ الذي تتسببُ به الحداثةُ الرأسماليةُ لكلِّ الشعوبِ والطبقاتِ المسحوقةِ والمتروكةِ عاطلةً عن العملِ بُغيةَ تحقيقِها ربحَها الأعظم، لا ينبعُ من استغلالها مادياً وحسب؛ بل وهو ألمٌ يُجتَرُّ بسببِ صَلبِ جميعِ قِيَمِها الثقافيةِ الأخرى. ذلك أنّ الاحتضارَ على الصليبِ هو الحقيقةُ التي تَشهدُها كافةُ القيمِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الخارجةِ عن الثقافةِ الرسميةِ للدولةِ القومية. وبالأصل، ففيما خَلا ذلك من أساليب، يستحيلُ تحويلُ البشريةِ والبيئةِ الأيكولوجيةِ إلى مصدرٍ للاستغلال، وتعريضُها بالتالي للنَّفاد”.

على الرغم من الظروف التاريخية الصعبة التي مر بها هذا الكرد، إلا أنه مارس دورا هاما في التاريخ الثقافي للشرق الأوسط. والمفتاح لفهم هذا يجب البحث عنه وقبل كل شيء في الفولكلور الكردي الغني بمحتواه. ولهذا، وكمقاومة لفعل الإبادة، كان منطقيًا الرجوع للمخزون والتراث والإرث الثقافي، باعتباره نبع الأساس الغلاف الحامي والمقاوم لغائلة الصهر القومي. كان الالتجاء لموتيفات كالثقافة والمرويات الشفوية كما سنرى الآن، أداة مقاومة وأداة نحت لوجه جديد لشخصية جماعية كردية جديدة تتواءم مع أبجديات العصر الحديث. 


الثقافة الشفوية الكردية: حارس التاريخ

تشكل الثقافة الشفوية جانبًا من الذاكرة الاجتماعية. خاصة في المجتمعات ذات الإرث الثقافي الجماعي، فيتحول هذا الموقف الشفوي إلى موسيقى وأدب شفوي بمرور الوقت. ولهذا، يعد الدينجبيج dengbej ، الذي هو نوع من الغناء الكردي الشعبي، من الناقلين الأساسيين لهذه الثقافة الشفوية. ونظرًا لعدم استخدام الكردية كلغة رسمية لفترة طويلة، فقد منع هذا انتقال التاريخ الكردي في شكل مكتوب. من هنا كانت قيمة الدينجبيج الكردي؛ حتى لا يتم محو الأحداث التاريخية من الذاكرة الاجتماعية، فقد سجّلوا هذه الأحداث من خلال جعل كل منها موضوعًا لأغانيهم وبذلك بنوا الذاكرة الاجتماعية في كل ركن من كردستان. وقد تولى هذا الشكل الغنائي الغنائي دورًا بارزًا في نقل الوعي الاجتماعي، وظهر بشكل خاص كأرشيف ضخم. ومن ثم، ولهذا كله، يمكن العمل على الموسيقى باعتبارها أهم أفرع الثقافة الشفوية الكردية. إن جزءًا كبيرًا من الهوية الكردية والثقافة والقومية والرؤية الحديثة يدين للعصر ما قبل الكتابي من التاريخ الكردي، الذي تم نقله عبر العصور من خلال المثابرة والذاكرة المتينة للدينجبيج الأميين غالبًا. وعلى الرغم، من عدم وجود تاريخ مكتوب متطور نسبيًا، أثبتت التقاليد الشفوية الكردية صلابة وقوة، حيث نجت، رغم عقود من القمع الحكومي والسياسات الاستيعابية العنيفة للنظم التي قمعت الكرد. وبالنظر إلى المحاولات المنظمة واسعة النطاق للإبادة اللغوية والثقافية التي مورست تجاه الكرد، فإن بقاء التقاليد الدينجبية في الثقافة الكردية المعاصرة، فضلاً عن إحيائها، هو عرض حي لوجود نفس تحرري راسخ في المجتمعات الكردية عبر كردستان الكبرى.

ركز باحثو الدراسات الكردية في تحليلهم لتأسيس الهوية الوطنية الكردية على عدد من المجالات المختلفة بما في ذلك التاريخ والثقافة والجغرافيا واللغة والأدب وما إلى ذلك. يمكن أن يكون تحليل شكل الغناء الكردي التقليدي المعروف بdengbej  قيمًا في إضافة جانب آخر، من فهم الكيفية التي تكون بها الثقافة والتقاليد الكردية، مؤثرة في تشكيل هوية وطنية فريدة. ولهذا، يجب ألا يُنظر إلى الدينجبيج على أنه شكل فني قديم وميت وبدائي وغير حداثي، بل كأغنية لشعب مضطهد حُرم لفترة طويلة من الصوت والمكان والحق في وجوده. ويشير الدينجبي إلى المغنين والمرويين الكرديين، الذين كانت أغانيهم في بعض الأحيان، وإن لم يكن دائمًا، مصحوبة بأدوات موسيقية. تُترجم الكلمة الكردية “دنج” إلى [صوت] و “بيج” تعني [الزمن الحاضر من gotin، لإخبار]، مع كون dengbêjan جمع  dengbêj. 

كان الدينجبي يغني حكايات وأهازيج طويلة عن الحب والحرب، وكانت “شوران” (الأغاني) الحزينة لديهم الأكثر شهرة والأكثر شعبية من جميع الأغاني الأخرى. كان الدينجبي يتدرب لدى سيد لسنوات، ويتولى مهمة تحفيظه مئات الحكايات والقصص والقصائد والملحميات. وغالبًا ما كان المغنون، غير مصحوبين بأي شكل من أشكال الآلات الموسيقية، ولهذا كانوا يتمتعون بحرية كاملة في سرد القصص وتصميم الأبيات واستخدام اللغة، ولم يكونوا مقيدين بأي هياكل رسمية. وكان الدينجبي لا يكتفي ببساطة باعتماد ملحميات المغنين الآخرين الذين يعجبون بهم، بل كان أيضًا يخلق قصصه الخاصة ويصيغ أنماطًا جديدة. وبالتالي، كانوا يتحولون بمرور الوقت لرواة قصص ماهرين، وأيضًا حاملين الذاكرة الأرشيفية للأمة الكردية، بل ويكونوا مكتبة حية لتقاليدهم وأساطيرهم وثقافتهم وأعمالهم الأدبية الشفوية الغنية التي تمتد على مدى مئات السنين عبر العصور. وغالبًا ما يستفيد الدينجبي من الحقائق الاجتماعية المحيطة بالفنانين؛ لإنشاء قصص جديدة وأمثال وملاحم، وبالتالي تضاف إلى مستودع التجارب والنضالات والأحداث والحقائق الاجتماعية للكرد. وعلى حد تعبير روجر ليسكوت: “تولى هؤلاء الشعراء المحترفون، الذين قدموا على مر السنين ذكرياتهم كمتدربين لبعض الأساتذة القدامى، مهمة الحفاظ على تقاليد الماضي، وإذا حدث حادث جديد، فإن الاحتفال بالأفعال البطولية للحاضر يغود هو الشغل الشاغل “.


الدينجبي كحُفّاظ للذاكرة

تتكون معرفتنا بجميع الأنشطة البشرية من خلال تتبع آثارها المتبقية، سواء كانت هذه الآثار أحجارًا أو كلمات تعكس ثقافة ما. لهذا السبب، تلجأ القوى المهيمنة، عندما تسعى إلى تجريد مجتمع من وعيه الوطني والثقافي، إلى أساليب التلاعب المنهجية والممتدة عبر الزمن. بعبارة أخرى، تعمل هذه القوى بطريقة مدروسة ووفق خطط طويلة الأمد، بحيث لا يشعر الكثيرون بوجود هذه العملية. ومع ذلك، لا تنجح هذه الخطط دائمًا. إن سرد القصص يربط بين أمرين هامين: الأول هو حركة الأشخاص الذين يتم سرد قصصهم، والثاني هو الكشف عن حالة وزمن الحدث من خلال سرد القصة. ويتذكر الأفراد قصصهم من خلال انتمائهم الاجتماعي، وهويتهم، ومعتقداتهم، وعلاقاتهم الطبقية. وعندما نتأمل الذاكرة الجماعية، فإننا نتذكر حالة وزمن الحدث بالارتباط بالمجتمع في ذلك الوقت. ومن زاوية أخرى، يعتبر الفلكلور أحد الوسائل الرئيسية للحفاظ على الذاكرة الجماعية والتقاليد والعادات. هناك نوعان رئيسيان من التقاليد، الدينية، وتلك المرتبطة بالمناسبات والحياة اليومية. تظل التقاليد الدينية، نظرًا لطبيعتها المكتوبة، ثابتة لآلاف السنين. أما التقاليد المرتبطة بالحياة اليومية فتتغير وفقًا للمجتمعات والمناطق والزمن والتطور التكنولوجي. الملابس التقليدية والحفلات هي أمثلة على ذلك. وقد سمحت التقاليد الشفوية الغنية للكرد بالحفاظ على هويتهم الثقافية المتمايزة، في الأوقات التي واجهوا فيها سياسات الاستيعاب الرهيبة. ومن المؤكد أنه يمكن حرق الكتب وتدمير المكتبات بأكملها، ولكن الذاكرة الحية، والقصص التي تستمر من خلال التقاليد الشفوية من دينجبي إلى آخر، من سيد إلى متدرب، لا يمكن تدميرها بسهولة. في السرد الحديث للدولة القومية والنموذج الأوروبي للنظام الحكومي، أصبح يُنظر إلى التقاليد الشفوية على نحو متزايد على أنها تمثيل للتقاليد غير المتحضرة وغير الثقافية والرجعية والإقطاعية. بالنسبة للكرد في باكور (كردستان الشمالية، جنوب شرق تركيا)، تم تبني هذا المنظور على نطاق واسع من قبل النظام التركي تجاه الكرد. فمنذ تأسيس تركيا كدولة قومية في عام 1923، بعد توقيع معاهدة لوزان، تم تنفيذ حملة قمع شديدة ضد الهويات غير التركية، بما في ذلك الكرد. تم منع التحدث بالكردية وتمثيل الهوية الكردية بشدة منذ عشرينيات القرن الماضي. ورغم هذا، فقد أدت السياسات الحكومية الوحشية ومحاولات التطهير العرقي والاعدامات والسجن، أدى كل هذا لزيادة المشاعر القومية الكردية في ضوء هذه الوحشية المتزايدة. وكان البديل الكردي متمثلا في أحد الوجوه؛ المقاومة بالذاكرة، ولهذا بدأ الدينجبي والتقاليد الشفوية يلعبان دورًا أساسيًا في الفضاء الكردي العام. وعلى وجه التحديد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، من خلال عمل عائلة بدرخان، التي بدأت في إحياء التقاليد الشفوية إحياء، خاصة في روجافا (كردستان الغربية، شمال سوريا). ومن المفارقة أن المستشرقين الفرنسيين كانوا أيضًا فعالين في الترويج للحفاظ على التقاليد الشفوية الكردية. ومع ذلك، كان النهج العام تجاه تقليد الدينجبي هو القمع والصمت من قبل الأنظمة. 

إذن، لم يكن الدينجبي مجرد “رواة قصص” أو “مغنين” في المجتمع والتاريخ الكردي. ولم يكونوا مستودعات أرشيفية حية وفقط كما ذُكر آنفا، بل كانوا أيضًا جامعين وحاملين لآلاف القصص والأغاني والأساطير والأحداث التاريخية وبل وكمراجع حية للتاريخ والثقافة والأدب. وعلى الرغم من التعليم المتزايد في المدارس الدينية، اعتمد المغنون على العروض المستمرة للحفاظ على الأغاني في الذاكرة الجمعية. ففي غياب التقنيات الحديثة مثل الراديو والتلفزيون والإنترنت، كان على الدينجبي أن يملأ الليالي الطويلة الباردة في الشتاء، بسرد القصص ورواية العديد من الملاحم لجمهورهم المذهول. وبالتالي، فإنهم يخلّدون الملاحم المحلية الشهيرة والنزاعات والتمردات والحروب. يمكن النظر إلى الدينجبي بوصفهم أدوات مهمة في حمل وحفظ الثقافة والهوية الكردية، خاصة في النضالات القومية الكردية منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا. وبالتالي، فإن تقليد الدينجبي، هو جانب مهم من الثقافة والهوية الكردية بالنسبة للكرد، حيث يمثل اتصالًا قويًا بالماضي، ولكن يُنظر إليه أيضًا على أنه جسر بين ذلك الماضي والنضالات الحديثة للحفاظ على الهوية الكردية والقومية والثقافة.

فبعد الانقلاب العسكري في تركيا عام 1980، تم فرض حظر صارم على اللغة والثقافة الكردية. أثر هذا الحظر بشدة على المغنين والموسيقيين الكرد، الذين غالبًا ما تعرضوا للغرامات والسجن والتعذيب. يمكن القول، إن مجموعة الفنانين لم تتأثر بهذا الحظر، مثلما تأثر مغنو الدينجبي. فتم إسكات العديد منهم لعقود في أحسن الأحوال، وفي أسوأ الأحوال إلى الأبد. وذلك من خلال العنف الحكومي تجاه الكرد. على حد تعبير سيمون شوارتز-بارت، الروائية والكاتبة المسرحية الفرنسية من غوادلوب “الحكاية، إلى حد كبير، هي عاصمتنا. لقد تربيت على الحكايات. ولهذا، عندما يموت شخص مسن، تختفي مكتبة كاملة”. وفي حالة الدنجبي الذين تم إسكاتهم لعقود أو تعرضوا للترهيب، للتخلي عن فنهم بشكل دائم، وفقدت آلاف الدوافع الثقافية داخل فسيفساء الثقافة الكردية الغنية تحت وطأة الجغرافيا والزمان والتاريخ والهجرة إلى الأبد. لحسن الحظ، كانت الأعمال الأدبية لعدة روائيين كرديين معاصرين مثل محمد أوزون (1953-2007) وياشار كمال (1923-2015) ومحمد دجلة (1977-) مؤثرة في إشعال شعلة شعبية الدينجبي في الثقافة والأدب الكرديين المعاصرين.

وفي أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، وفي محاولة لانضمام تركيا إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية (EEC) التي فرضت معايير صارمة لحقوق الإنسان والديمقراطية على البلاد، ظهر تخفيف الحظر المفروض على الثقافة واللغة الكردية. أدى ذلك إلى إنشاء أول قناة تلفزيونية باللغة الكردية على الإطلاق، وبدء الجامعات في تدريس اللغة والأدب الكرديين، بالإضافة إلى المراكز الثقافية مثل مركز دجلة فرات الثقافي الذي ركز بشكل كبير على إحياء الموسيقى والفن الكرديين. تم إنشاء عدد من بيوت الدينجبي (مراكز الدينجبي) بما في ذلك بشكل بارز في وان (Van) ودياربكر اللذين كان لهما تأثير كبير في تأصيل ممارسة وتقليد الدينجبي. من خلال عملية شاقة لتحديد مكان آلاف الأغاني والقصص وتسجيلها. كانت هذه العملية الثقافية المهمة بقيادة نظام المنح الذي قدمته الاتحاد الأوروبي لتعزيز الحقوق الثقافية في تركيا في عام 2007. ولسوء الحظ، منذ عام 2015، تم عكس العديد من التغييرات الإيجابية والفتحات للتعبير عن التمثيل الحرية الثقافية واللغوية الكردية وأغلق المراكز الثقافية الكردية.

وكقراءة عامة لتأثير هذا النوع من الفن والغناء، يمكن القول، يحيا تاريخ الكرد بشكل كبير في الفلكلور. وفي هذا، يقول الباحث والكاتب أحمد أراس: “لقد تعلمت تاريخ الكرد من الأغاني. أغاني الكرد أكثر موثوقية من الوثائق الرسمية”. فالأشخاص المذكورون في الأغاني ليسوا أشخاصًا عاديين، بل هم شخصيات تاريخية حقيقية. ومن خلال سرد الأحداث، نتعرف على مكان وقوع المعارك، والأطراف المتناحرة، والنتائج، والضحايا. ومن جهة أخرى، فإن أحد مزايا التاريخ الشفوي هو إمكانية الجمع بين الحقيقة الشخصية والحقيقة الاجتماعية. فمن خلال القصص، يمكننا رؤية كيفية بناء الجسر بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية. حقيقة، إن الأعمال الشفوية هي مصادر أساسية لكتابة تاريخ الشعوب التي منعت أن تكون دولًا. وبمجرد تحويل هذه الأعمال إلى نص مكتوب، تفقد هذه الخاصية. لذلك يجب الحفاظ عليها في شكلها الأصلي. من ناحية أخرى، لا يمكن لأي نص مكتوب أن يحل محل “الصوت”. لذلك فإن أفضل طريقة للحفاظ على الأعمال الشفوية هي تسجيلها صوتيًا. ولهذا، يجب اعتبار هذه القصص بمثابة الكنز الثقافي والذاكرة جماعية، التي يجب حمايتها. إن الثقافة الكردية غنية جدًا بتنوعها وشكلها ومحتواها. وعلى الرغم من العقبات السياسية والثقافية والنفسية والاقتصادية، استطاعت اللغة والثقافة الكردية البقاء حتى يومنا هذا بفضل جهود شعراء مثل أحمد خاني الذي قدم أعمالًا مكتوبة وبفضل الدينبج مثل عودال زيكنك. وفي استمرار مسيرة الأدب الكردي، يجب ألا ننسى الجهود التي بذلتها عائلة بدرخان.


النار: رمز الحرية في كردستان

النار هي أحد العناصر الأكثر سحراً في الوجود. إنها في كل مكان؛ في السماء وعلى الأرض، في القلوب وفي العقول، بالداخل والخارج، في الماء في الهواء وفي التربة.. إنها بين الضوء والظلام. إنها مصدر الحياة والموت. إن دراما النار، كما تم تفسيرها بالمعنى الغربي، ظهرت لأول مرة في كردستان في أوائل القرن العشرين عندما بدأت الطقوس والمهرجانات الكردية التقليدية تواجه الحظر. وشمل ذلك بالطبع حظر اللغة والدين، وسياسات الاستيعاب والمجازر. بعبارة أخرى، فإن الوجه المظلم للنار، المتمثل بالحكومات التي سجنت الجماهير، أشعلت نار الحرية بداخلهم ودفعتهم نحو تشكيل حركة موازية للمقاومة الثقافية.

 وهكذا اكتسبت صورة النار بعدًا سياسيًا يضاف إلى دلالتها الأسطورية والدينية والثقافية. بالتوازي مع حركات التحرير الكردية، أصبح تقديم الفنون الكردية في كردستان معركة شاقة لأكثر من قرن. ونتيجة لذلك، بدأ الفن -كما يُفسر بالمعنى الغربي- في كردستان بحلم التحرر من الفظائع التي عانت منها كأمة مستعمرة تلعب الأساطير والطقوس دورًا مهمًا في بناء مستقبل وتراث الأمة. كمثال على ذلك، يمكن استكشاف كيف يتم تمثيل النار في أسطورة كردية شهيرة. تروي القصة حكاية الضحاك، الملك الطاغية لآشور الذي كان يعتلي كتفية باستمرار ثعبنان. وكان يطعمهما كل يوم بأدمغة طفلين يتم قتلهما خصيصًا لهذا الغرض. ولكن في يوم من الأيام، تسلل كرديان إلى القصر متنكرين في زي طباخين، وكانوا يقومون بتحرير أحد الطفلين كل يوم، ويستبدلون دماغه بدماغ خروف. وتم تهريب هؤلاء الأطفال الذين تم إنقاذهم إلى كهوف جبلية حيث يكبرون. وبعد عدة سنوات، عندما أصبحوا شبابًا بالغين، قام كاوا الحداد، الذي فقد ستة من أطفاله السبعة بسبب ثعابين الضحاك، بتسليح الشباب بالسيوف المصنوعة في فرنه الخاص، ثم شكلهم في جيش. في يوم 21 مارس/آذار من أحد الأعوام، هاجم هذا الجيش قصر الملك الطاغية. وعندما نجحت مهمتهم، قاموا بإرسال إشارة إلى الجبال بإشعال النار في القصر؛ ثم يرى كل من يرى النار قمة جبلية أخرى ويقوم بإشعال النار فيها. وهكذا نجح كاوا في قتل الملك ومساعده الذي كان يرتدي ملابس نسائية وحاول الهرب من النافذة. ثم اقتحم الجنود الغاضبون القصر وقتلوا كل من وجدوه بداخله. بعد ذلك خرجوا إلى الشوارع واعلنوا نهاية عهد الطاغية، وأشعلوا النيران في كل مكان. وذلك، ليرى الناس على الجبال النيران مشتعلة ويقومون بإشعال النيران لديهم أيضًا، وبهذه الطريقة يتم تحرير كردستان من حكم الضحاك.

رمزية النار في كردستان

ولهذا، ونظرًا لارتباطه بقصة كاوا وانتصار المظلوم على الظالم، اكتسب نوروز أهمية سياسية بين الكرد. لقد مكنت سردية النوروز وأسطورة كاوا الحركة الوطنية الكردية من تتبع أصول الكرد إلى بعيد، فبنوا بذلك أسطورة تأسيس عرقي ومقاومة للكرد. وبطبيعة الحال، تم الاحتفاء بهذه الأسطورة في العروض الشعبية في جميع أنحاء البلدات والقرى الكردية خلال احتفالات نوروز. وفي العروض الشعبية لهذه الأسطورة، شملت الشخصيات الملك الضحاك وبعض الحراس والمستشارين، وكاوا البطل وأولاده، والآخرين الذين لعبوا دور سكان البلدة. لقد استفادت المجموعات المسرحية الحديثة أيضًا من أسطورة “كاوا آهنگر” لأغراض قومية، فقد استخدمها نشطاء كرد عراقيون بشكل خاص في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي للمطالبة بالثورة ضد دكتاتورية البعث. فعلى سبيل المثال، خلال الحكم الذاتي الذي دام أربع سنوات لمنطقة كردستان في العراق بين عامي 1970 و1974، تم تجسيد قصة انتصار كاوا في نوروز من قبل مجموعات مسرحية مختلفة مثل فرقة مسرح السليمانية وجمعية الفنون والأدب الكردية.

ولهذا، تعد كل من احتفالات نوروز الكردية وأسطورة كاوا، أمثلة على سردية الأصل الكردي، التي أصبحت عنصرًا رئيسيًا في الهوية الوطنية الكردية، وعاملاً مهمًا في مشاريع بناء الأمة الكردية. وتم إعادة بناء نوروز، الذي تحتفل به عدة دول في جميع أنحاء الشرق الأوسط من قبل القوميين الكرد، ليصبح رمزًا لانتصار المظلوم على الظالم، وبالتالي يرمز إلى الحركة القومية المعاصرة. فما كان مجرد مهرجان قديم قد تحول إلى أداة أيديولوجية حديثة ومؤثرة في الساحة السياسية لبناء هوية الكرد. لقد أسهمت أسطورة نوروز وأسطورة كاوا بشكل كبير في الحركة القومية الكردية في تركيا، حيث يروج مثقفو حزب العمال الكردستاني لأساطير مشتركة عن الأصول والتاريخ والأراضي المشتركة لمواجهة عقود من سياسات الاستيعاب التي انتهجتها أنقرة.

ولهذا تظل، النار في كردستان، رمز الحرية والانتصار على الظلم. رمز التمرد ضد الطاغية، رمز التضامن والتحدي. بالنسبة للكرد، النار هي أيضًا رمز الأمة، رمز كردستان نفسها. يأتي هذا المعنى بعد استكشاف الأسطورة الكردية عن كاوا الحداد، لكنه ليس المعنى الوحيد للنار في الثقافة الكردية.

يمكن العثور على أهم مادة حول النار في جوانب الحياة الثقافية الكردية التي توارثتها عن الزرادشتية، إحدى أقدم الديانات المعروفة في العالم. العديد من المعتقدات التي تُعتبر اليوم خرافات هي بقايا من هذا الدين. تشمل الأمثلة على ذلك فكرة أن من سوء الحظ أن ترمي الماء على النار أو تبصق عليها أو تلعنها، أو أن القفز فوق النار يحمي من الأرواح الشريرة. يؤمن الزرادشتيون بأهورامزدا، إله النور والخير والنار. كل يوم، يعبدون الشمس، كونها التجلي المادي لأهورامزدا. عندما لا تشرق الشمس، يلجؤون إلى النار، رمزها على الأرض. بعد النظر إلى الصراعات في سياق أسطوري وديني، يجب أيضًا النظر في تداعياتها في المجال السياسي. تشير الأبحاث التاريخية البديلة إلى أن العديد من الثورات والمجازر الكردية حدثت بالتوازي مع المشاريع المركزية في الإمبراطورية العثمانية منذ أوائل القرن التاسع عشر، وكذلك مشاريع التحديث التركية التي أعقبت تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. وكمثال حديث، لنلق نظرة على الانقلاب العسكري الذي جرى في 12 سبتمبر 1980. كانت هذه فترة تصاعدت فيها حملات القمع والمنع والاعتقالات والتعذيب والمجازر بشكل كبير في جميع أنحاء تركيا. لكنها كانت أيضًا فترة مقاومة.

كان سجن ديار بكر أحد الأماكن التي تم فيها تطبيق الممارسات اللاإنسانية بأشد صرامة. في 21 مارس 1982، أحرق مظلوم دوغان، وهو من قادة حزب العمال الكردستاني (PKK)، نفسه احتجاجًا على التعذيب الذي تعرض له في السجن. تبعه في 18 مايو 1982 مجموعة من سجناء حزب العمال الكردستاني المعروفين اليوم باسم الأربعة. أصبحت هذه الأفعال رمزًا أشعل من جديد روح المقاومة في وقت كانت تُكسر فيه بين السجناء السياسيين كل مقاومة ممكنة. كان دوغان والأربعة بمثابة كاوا العصر الحديث. أُضِيئت نار جديدة وخُلِقت أسطورة حرية جديدة. ومنذ ذلك الحين، أصبح حرق الذات شكلاً من أشكال الاحتجاج في النضال السياسي الكردي. بدأ هذا الشكل نفسه من الاحتجاج يظهر في المجال العام منذ عام 1990. تظل النار قوة قوية في حياة الكرد.


إنتاج الثقافة في الشتات الكردي: بين السياسة والهوية

يُعتبر الشتات “نمطًا من إنتاج الثقافة” يولد ويعيد إنتاج العلاقات الثقافية والسياسية والاجتماعية من خلال أشياء مختلفة وأفعال وتفسير التعبير الفني في الفضاءات العابرة للوطنيات المحلية. ومع ذلك، لا تزال الأسئلة حول كيفية عمل إنتاج الثقافة وصانعي الثقافة في الشتات غير مفهومة جيدًا. في الشتات الكردي، يستخدم صانعو الثقافة سياسات إنتاج الثقافة كاستراتيجية متعددة للتعامل مع السياسة في وطنهم وأوضاعهم في المنفى وكذلك السياسات في البيئات الجديدة.  إن ما يشكل إنتاج الثقافة في الشتات متنوع بالتأكيد ويمكن أن يشمل الأفلام والموسيقى والشعر والقطع الفنية التي تخلق مساحة ثقافية واجتماعية للعرض التأملي والتفاوض حول الهويات الشتاتية. وبالمثل، في سياق الشتات، يمكن اعتبار الموسيقى والشعر والقطع الأدبية وسائل لمجموعات الهوية المهمشة للتعبير عن مطالبها السياسية بالاعتراف والتحول ومشاعرها من الغضب أو التجارب الصادمة الجماعية. يستخدم “العاملون الثقافيون” الشتاتيون أشكال الإنتاج الثقافي هذه في المنفى ليس فقط كطرق رئيسية للحفاظ على العلاقات مع أراضيهم والمشاركة في النضال الوطني وممارسة الوكالة على تجربتهم الجماعية، ولكن أيضًا للنجاة من المحو الثقافي من خلال مقاومة ظروف المنفى من الغربة والتشريد والخسارة. يمكن أن يساهم إنتاج الثقافة في مجتمعات الشتات بشكل إيجابي في الاندماج الاجتماعي. وبهذه الطريقة، يساعد إنتاج الثقافة في التغلب على صدمة العزلة الاجتماعية في المنفى الإجباري أو الاختياري.

يُعد إنتاج الثقافة قوة ديناميكية في الشتات، حيث يساعد في توفير فضاءات اجتماعية وثقافية للاجئين من أجل رفاهيتهم، والتي يمكن أن تعزز أيضًا عملية تكيفهم. علاوة على ذلك، يوضح إنتاج الثقافة وضعهم للجمهور ويعزز فهم القضايا السياسية والاجتماعية العالمية المعقدة والتضامن نتيجة للمبادئ العالمية. تدور معظم الأعمال الثقافية التي ينتجها أفراد الشتات الكردي في المدن من خلال فعاليات منظمة مثل مهرجانات الأفلام والحفلات الموسيقية وعروض الشعر والفن والمعارض. تعمل هذه العروض والفعاليات كعقد في الشبكات الثقافية التي تربط مجتمعات الشتات المنتشرة ببعضها البعض وبالوطن، مما يشكل مساحة ثقافية عابرة للفضاءات الوطنية، يتم فيها تقديم مواضيع شؤون الوطن والسياسة الشتاتية والعلاقات مع المواطنين الأصليين وقضايا الاندماج والهوية وإعادة التفاوض عليها. ولكن ماذا عن العلاقة ما بين الثقافة واستراتيجيات بناء الهوية وتدعيمها؟

 تشكل الثقافة الطريقة التي يفكر بها الأفراد والمجموعات، ويشركون أنفسهم في الأعمال الجماعية، ويفسرون العالم.  يركز هذا النهج على الأدوار التي تلعبها الهوية والثقافة في السياسة العالمية وتأثيرها على إنتاج السياسات الداخلية والدولية. في حين أن الهويات تتشكل من خلال السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية، ويتم استخدام الثقافة لبناء وصياغة وتلقي المعاني وكذلك وصف التجربة الحية والإبداعية. وبهذه الطريقة، تعتبر الثقافة التي هي بمعني ما، مجموعة من المصنوعات والرموز والنقوش والأشياء التي تشكل الهويات، ولها تأثير كبير على الطريقة التي تبني بها الأفراد والمجموعات الجماعية حقائقهم وتحدد هويتها. تُقدَّم الثقافة كشرط لا مفر منه للهوية البشرية، وتعيد “تأسيس الواقع البشري”. ويتم تعيينها كسبيل نحو فهم العالم وتفسيره، وتشير إلى الممارسات المشتركة على نطاق واسع، والافتراضات والمفروضات الشائعة التي يمتلكها الأفراد والمجموعات حول العالم. لكن ماذا عن الشتات/ المهجر مفهوما وسياقا؟

الشتات كمفهوم متعدد التخصصات على نطاق واسع في الأدب القومي وما بعد الحداثة، يفهم بوصفه مجموعة ديالكتيكية من الروابط بين المجتمعات الإثنية الوطنية الموجهة إقليميًا والمساحة الثالثة من المجتمعات القائمة على السفر والتخييل المشترك. ولهذا يعكس الشتات جوانب النقاء والاختلاط، والتقسيمات الأصلية والتكوين المنشأ والواقع والخيال وكذلك الغربة والانتماء. تؤدي هذه التناقضات إلى وصف الشتات بأنها مجتمعات تحمل “وعيًا مزدوجًا”. ونتيجة لذلك، فإن مفهوم الشتات غير متسق بسبب “طبيعته المتغيرة” باستمرار. وعلى الرغم من أن ما يشكل الشتات يفتقر إلى إطار تعريف ومفهوم ثابت، إلا أنه تم تحليله بشكل عام كقطاعات متفرقة من الناس الذين كانوا متجذرين بعمق في الأراضي الأصلية لوطنهم الحقيقي أو المتخيل. لقد توسع استخدام المفهوم، ليشمل مختلف المصالح الثقافية والفكرية لمجموعات الهوية ذات الأجندات والرؤى المتعددة التي تنتشر عبر الفضاءات العابرة للوطنية. ويتم دعم هذه المجتمعات من خلال؛ تاريخ مشترك، وتراث، ولغة، وثقافة وطقوس، بالإضافة إلى ذكريات وتجارب جماعية للتشريد والتهجير، والتي تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على “تشكيلتها الاجتماعية وهويتها الجماعية”، وكذا وإعادة إنتاجها. وقد يتم استكمال هذه الميزات الموضوعية، بتجارب أكثر ذاتية من الاستبعاد والعنصرية والتمييز العنصري، والتي يواجهها أعضاء الشتات في البيئات الجديدة. يؤدي الجمع بين الميزات الموضوعية والذاتية للشتات إلى تشكيل “وعي ذاتي” يحفز التعبئة الجماعية للمجتمعات المتفرقة في مواقع متعددة.


إنتاج الثقافة في الشتات الكردي الناشئ في أوروبا

بدأ إنتاج الثقافة الشتاتية الكردية المعاصرة وتداولها في أواخر الستينيات، من قبل الفنانين والمفكرين المنفيين، بما في ذلك الشعراء سيجركوين وشيركو بيكيس، والروائيين محمد أوزون، ومحمود باكسي، وروهات ألاكون وروجن برناس، والمغني شيفان بيروير في السويد، وكذلك المخرج يلماز غوناي في باريس. تشارك جميع هؤلاء الفنانين الكرد، تاريخ مشترك. فكان عليهم الفرار من الأنظمة الاستبدادية في البلدان المتجاورة، العراق وإيران وسوريا وتركيا. ثم بدأ هؤلاء الفنانون في عيش حياة المنفى في الدول الأوروبية، حيث واصلوا الإنتاج الثقافي، ورواية القصص عن الثقافة والتاريخ الكردي والتعريف الذاتي بالمآسي والسياسات القمعية، وكتابة تجاربهم في المنفى، مثل الانفصال عن مجتمعاتهم الاجتماعية وفضاءاتهم في البلدان الأصلية، والعزلة المستمرة، والاستبعاد وعدم الانتماء في بيئاتهم الجديدة. ومن خلال اختيار التركيز على الأحداث السياسية مثل النزوح القسري وقمع الكرد وسوء معاملتهم على يد الأنظمة الاستبدادية التركية والإيرانية وغيرها في الوطن، أشارت لافين، صانعة الأفلام، إلى أنها وزملاؤها رفعوا “صوتًا نقديًا” تجاه الحكومات التي تنكر الهوية الكردية، وتحرم السكان الكرد من هياكل السلطة داخل مؤسسات الدولة أو تراقب تعبيرهم، وكذلك حزنهم على انعدام دولة كردستان بالاعتماد على ذكريات الكرد الجماعية. ولهذا، أدت نتاجات هؤلاء الفنانين والكتاب، لخلق “وعي بتصادم الثقافات والتاريخ” بين اللاجئين الكرد والناس في الوطن. على سبيل المثال ، قصيدة سيجركوين “كردستانا مين كا” (أين كردستان الخاصة بي) و “كيم إيز” (من أنا) ، فيلم يلماز غوناي يول (الطريق) وكلمات شيفان بيروير عن هجمات الغاز الكيميائي على السكان الكرد في منطقة كردستان العراق، هي جزء لا يتجزأ من الوعي الكردي المعروض في الإنتاج الثقافي والذي أدى إلى تشكيل مجتمع الشتات الكردي في جميع أنحاء أوروبا في أواخر الثمانينيات والتسعينيات.

ومنذ التسعينيات، تعاون عدد من الفنانين الكرد مع الشبكات العابرة للوطنية والجمعيات المحلية لمجموعات الشتات الكردي، وشاركوا في المهرجانات الثقافة الدولية السنوية في ألمانيا، والاحتفالات التقليدية مثل نوروز، ومهرجانات الأفلام في برلين ولندن وستوكهولم، والحفلات الموسيقية المحلية. وقد كان الشكل الأساسي الأول لتوزيع المنتجات الثقافة يتم من خلال الكاسيتات و VCD ، والتي تم تبادلها، غالبًا مع مخاطرة شخصية كبيرة. وكان ذلك يتم بين الجمعيات الكردية في الدول الأوروبية، والنشطاء المحليين في تركيا ومناطق كردية أخرى في الشرق الأوسط. وقد أدى إدخال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالمية عبر القمر الصناعي إلى إفادة السكان الشتاتيين الكرد من خلال مساعدتهم على إنشاء محطة التلفزيون الأولى الخاصة بهم في عام 1995 (MED-TV) ، مع مكاتب في لندن وبروكسل. وركزت هذه المخرجات الثقافية على إعادة بناء اللغة الكردية، وإنشاء وطن “افتراضي”، والحفاظ على الذكريات الجماعية وإعادة تأهيل التاريخ الكردي، بهدف إنتاج المعرفة الذاتية والتعريف الذاتي بين السكان الكرديين وخطاب مضاد للخطابات السائدة في المجتمعات الرئيسية.


مواقع إنتاج الثقافة في الشتات الكردي

أصبحت العديد من المدن الأوروبية الكبرى، هي المواقع الرئيسية لإنتاج الثقافة في فضاءات الشتات الكردي. نظم النشطاء الكرد أول مهرجان سينمائي كردي في لندن عام 2001، وتبعه مهرجانات مماثلة في برلين وروما وستوكهولم. وكانت عروض الأفلام تقريبًا دائمًا مصحوبة بعروض موسيقية وقراءات شعرية ومعارض للصور واللوحات الفنية وأفلام الرسوم المتحركة للأطفال. بالإضافة إلى ذلك، تم تنظيم أحداث فرعية من قبل الجمعيات الكردية المحلية. ولهذا يمكن الجزم، أن هذا النشاط، لم يؤدي فقط لازدهار إنتاج الثقافة كأداة للنضال الكردي، بل أصبح استراتيجية قوية تساهم في الترويج للقضية الكردية والاعتراف بها. إذ يتيح تنوع الفعاليات في هذه المهرجانات للفنانين تقديم رؤى عميقة حول الثقافة الكردية والوضع السياسي، وهو ما يفشل الإعلام الرئيسي في استكشافه. ففي مهرجان برلين السينمائي الكردي على سبيل المثال، يغدو الحدث لمساحة مجتمعية للهوية والثقافة الكردية، حيث يمكن أن تحدث مناقشات سياسية نقدية وتبادل فني بين الثقافات المختلفة. فضلاً عن نشاطات من قبيل: قراءات الشعر والحفلات الموسيقية والندوات السياسية، تساهم بل وتعكس تنوع المجتمع الكردي. تسعى هذه المهرجانات ببساطة، إلى إعلام الجماهير الأوروبية بالتاريخ والهوية والثقافة والفن والمعاناة الكردية على الإجمال.

ويمكن اعتبار مهرجان برلين السينمائي الكردي السنوي، موقعًا عابرًا للفضاءات الوطنية، ومنطقة عامة بديلة لإنتاج وعرض وتداول السياسات الثقافية. فكل عام، تختار لجنة المهرجان، موضوعًا مختلفًا يتعلق بكردستان. مثلا في عام 2019، كان دور ومساهمة المقاتلات الكرديات في المعركة ضد داعش هي محور المهرجان. وفي العام السابق، كانت مأساة الإيزيديين الذين تعرضوا لـ “الإبادة الجماعية” على يد داعش عام 2014. وبشكل ثابت، يصور فنانوا الشتات، في عروضهم الكرد كمجتمع مهاجر مهمش ومرؤوس مستبعد من “الفضاء العام للبرجوازية” أو المجتمعات. تفشل الساحات السائدة في تمثيل تجاربهم: من انعدام الدولة، والنفي واللجوء، والتنوع والصراعات، وكذلك التاريخ والثقافة الكردية. لذلك تدخل مهرجانات الأفلام الكردية؛ لملء هذه الوظيفة والقضاء على الفجوة من خلال إنشاء مجالات عامة بديلة عابرة للوطنية. ويؤكد العديد من صانعي الأفلام في مهرجان برلين السينمائي الكردي، أنه بدون هذه الأحداث، فإن أفلامهم لا معنى لها؛ لأنها لا تُعرض في مكان لعرض أعمالهم. ولهذا تأتي خصوصية المهرجانات؛ لأنها مراكز ثقافية يتجمع فيها المهاجرين الكرد وغير الكرد والمواطنون الأصليون في برلين ويقيمون اتصالات و “حوارًا نقديًا” حول الموضوعات المذكورة. وهذا بدره يجذب الأشخاص ذوي الاهتمامات المشتركة، الذين لا يشعرون بأنهم مسموعون في الفضاء العام السائد.

يمكن القول، بناء على كل هذا، أن الفنانين الكرد في الشتات يستخدمون سياسات إنتاج الثقافة للحفاظ على الهوية الكردية وتعزيزها، من خلال اللغة والأغاني التقليدية والقصص والذكريات الجماعية للتجارب المأساوية. فعلى سبيل المثال، يتم استخدام لهجات كردية محددة في معظم الأفلام الكردية لإلهام الأجيال الكردية الأصغر لتتحدث الكردية في حياتهم اليومية دون الشعور بالخجل. صرح المخرج ميردان أن تعلم اللغة الكردية يزيد من احترام الذات والثقة بالنفس بين الأجيال الأحدث ويشجعهم على التحدث بالكردية أكثر. ويستخدم شيروان، الأغاني الكردية القديمة من التسعينيات في أفلامه كوسيلة للحفاظ على التراث الكردي وتأكيد الهوية الكردية لمواجهة استيعاب اللاجئين الكرد. وهكذا، من خلال اللغة، يسعى عدد من فناني الشتات إلى الحفاظ على التراث الكردي للجيل التالي. كما أنهم يحاولون إنتاج مرويات تصف وتستكشف التجارب الجماعية وذكريات الأسلاف؛ لتعزيز هوياتهم، وهويات اللاجئين الآخرين. إن هذه التجارب والذكريات المؤلمة متجذرة، وتشكل الأساس لوعي جماعي يعزز التضامن. على سبيل المثال، عندما زارت روجدا، الشاعرة الكردية – الإيزيدية، التي ولدت ونشأت في ألمانيا، المناطق الكردية في العراق وسوريا، جمعت قصصًا عن دمار السكان الكرد – الإيزيديين على يد داعش. وعندما عادت إلى ألمانيا، قدمت هذه السرديات في شكل قصائد ونصوص في مهرجان برلين السينمائي الكردي عام 2019. قارنت روجدا مباشرة بين الإبادة الجماعية الكردية – الإيزيدية من قبل إرهابيي داعش والسياق الألماني للإبادة الجماعية. هدفت روجدا إلى خلق وعي داخل المجتمع الألماني في الفضاء الثقافي لمهرجان برلين السينمائي الكردي وتشجيع الجيل القادم من الجمهور على تطوير اهتمام بالتاريخ الكردي والهوية والواقع الحالي.


وللمزيد يمكن الرجوع إلى:

عبد الله أوجلان: مانيفستو الحضارة الديموقراطية المجلد الخامس الـــقــضـــيــــة الـــكـــرديــــــة وحل الأمة الديمقراطية، ترجمة زاخو شيار، ط٣، مطبعة داتا سكرين، لبنان، ٢٠١٨

Hawzhin azeez: the dengbêj keepers of Kurdish memory & history

Mirza metin: Kurdish Resistance and the Dramaturgy of Fire

https://www.cambridge.org/core/journals/theatre-research-international/article/abs/kurdish-resistance-and-the-dramaturgy-of-fire/D216EFC41A1F39ED46D695704D1DDDD2

Mahroo Rashidirostami: Performance Traditions of Kurdistan: Towards a More Comprehensive Theatre History, Iranian studies 51 (2)

Tekin Çiftçi: In the framework of the memory of the Kurdish community Dengbêjs’ songs about the recent Events, international journal of Kurdish studies, vol.2/1, January, 2016,

Veysi dag: The Politics of Cultural Production. Exile, Integration and Homeland in Europe’s Kurdish Diaspora

https://brill.com/view/journals/bdia/15/3/article-p271_3.xml

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى